رجل الدين في الأدب المصري -3..فتحي غانم

الخميس 02/يوليو/2015 - 07:23 ص
طباعة
 
شيخ الأزهر عبدالسلام صبري، كما يقدمه فتحي غانم في رواية "الأفيال"، بمثابة النموذج القوي المضيء لرجل الدين كما ينبغي أن يكون، فهو المسلح بسلطة روحية عظيمة التأثير، وله من الهيبة والنفوذ ما يجعله أكثر من ند للملوك والأمراء وكبار الوزراء والساسة.
من الناحية الشكلية، يوصف الشيخ عبدالسلام بأنه طويل ممتلئ الجسم: "عمامته ناصعة البياض. قفطانه زاهي اللون. يسير في تؤدة. عيناه رماديتان حالمتان. بشرته بيضاء محمرة".
الفيلا التي يسكنها الشيخ في "جاردن سيتي"، وتجاورها فيلا مشابهة لأخيه ذي المنصب الوظيفي المرموق ورتبة البكوية، تنم عن ثراء عريض وأصول طبقية متميزة، والاحترام الذي يحظى به من عوام الناس، الذين يتبركون به ويهرولون لتقبيل يده، يكشف عن مكانة اجتماعية سامية يتفوق بها على الجميع، فهو الرجل الذي يحمل راية الدين والشريعة، والمقرب إلى الله بالتقوى والجرأة في الحق.
في الثلاثينيات من القرن العشرين، حيث الصراع المحتدم بين السراي والاحتلال والقوى السياسية الحزبية، يمثل الشيخ عبدالسلام عنصرًا فاعلاً في الخريطة بالغة التعقيد: "كان يتنافس على مرضاته الملك فؤاد في قصر عابدين، والمندوب السامي في قصر الدوبارة. إذا غضب اهتزت الدنيا، وإذا رضى عاد التوازن والاستقرار للمجتمع المصري".
يستمد الشيخ عبدالسلام نفوذه من جلال الدين وهيبة الوظيفة السامية، ومكانة الرجل لا تقل في أهميتها عن الملك نفسه. الصراع بينهما يدور في إطار من الندية والتكافؤ، ولا ينسى يوسف منصور ما كان يسمعه في الطفولة من أحاديث أبيه مع أصدقائه: "أن الشيخ قد تصالح مع السراي، أو أن الشيخ قد أغضب السراي. وكان الحديث يدور حول النزاع بين الشيخ والملك فؤاد، فيتوقع يوسف أن يهاجم الملك بيت الشيخ بجنوده وفرسانه، فالملك قائد عظيم يهتفون باسمه في المدرسة ويحفظون الأناشيد يرددونها قبل القيام بالإجازة في عيد ميلاده أو عيد جلوسه على عرشه".
خيال الطفل يحول الأمر إلى معركة عادية قوامها القوة المباشرة، فهو لا يعي- لمحدودية الوعي- أن الصراع في جوهره يدور بين إرادات تتجاوز الإطار الفردي التقليدي. للملك هيبته وقوته بطبيعة الحال، لكن الشيخ المهيب لا يقل هيبة وقوة، ذلك أنه يستند على القيمة الأسمى والأكثر أهمية في المجتمع المصري؛ الدين.
طبيب الأسنان صبري، ابن الشيخ عبدالسلام، يتحدث عن أبيه والصفوة من أصدقائه العلماء في الإطار نفسه، ويكشف عن السر في القوة التي تضفي عليهم هيبة تفرض على الجميع مراعاتها: "يتحدث عن الملك.. أو المندوب السامي.. حديث الند للند.. بل حديث الند الأقوى.. الذي يقول كلمته فيحترمها كل الناس.. لا حديث الموظف الذي يسعى إلى تدعيم منصبه أو الحصول على ترقية أو ميزة.. أو مكافأة من هنا أو من الخارج.. السلطة الوحيدة التي كانوا يؤمنون باستخدامها .. هي سلطة الشرع وكلمة الدين.. أما غيرها من سلطات الدنيا.. فلها من يعرفها ويعرف خباياها ولا شأن لهم بها.. وهكذا حصنوا الدين.. ولم يسمحوا للسياسة أن تتلاعب به.. كما يحدث من هذه الجمعيات والجماعات التي تحركها أطماع السياسة ومناوراتها".
الموظفون التابعون الباحثون عن مناصب ومكاسب، لا قيمة لهم أو أهمية، والاستقلالية هي التي تجعل من رجال الدين سلطة شرعية لا تنشغل بأطماع الدنيا، ولا تتأثر بتقلبات السياسة ومتغيراتها.
الجماعات الإسلامية في السبعينيات من القرن نفسه، لا صلة تجمعها بالشيخ عبدالسلام ومنهجه الذي يعلي من قيمة التسامح، ولا يرى صدامًا أو تعارضًا بين الدين والدنيا، ويخاصم التشنج والتنطع والتطرف الأرعن المرذول. حسن الشاب الأقرب إلى المراهقة، الابن الوحيد ليوسف منصور، ينضم إلى القوى الإرهابية المتطرفة، التي ترفع الراية الإسلامية، ويمارس العنف والإرهاب والقتل، ويسرف في التمسك بالفتاوى الغرائبية المنافية لروح العصر، ومن ذلك تحريم الصور والتصوير. يتساءل يوسف في مرارة وحسرة: "هل يحرم الدين أن يتعرف الإنسان على ملامح أبنائه وآبائه وأجداده؟. الشيخ عبدالسلام صبري لم يعترض أبدًا على نشر صوره في المجلات والصحف. وكانت صورته وهو يجلس إلى مكتبه شيخًا جليلاً مهيبًا للأزهر تحتل مكان الصدارة في حجرة الضيوف ببيته في جاردن سيتي. لم يسمع منه أبدًا أن صورة شقيقه لطيف صبري مع زوجته الجديدة كوثر هانم حرام".
المراهق المندفع حسن، بلا علم أو ثقافة دينية، ودون إعمال للعقل، يحرَّم الصور، ولا يتورع عن تكفير أبيه وأمه واتهام المجتمع بالجاهلية والردة، فأين هو وأمثاله من الشيخ عبدالسلام، المسلح بمزيج من البساطة والتسامح؟!: "لم يتهمه يومًا ما بالكفر. كان يسأله برفق.. لماذا لا تصلي يا يوسف؟ فيقول له: أنا مسلم يا عمي. فيقول الشيخ بصوته العريض المهيب: حاشا الله أن تكون غير ذلك يا بني ولكن الصلاة واجبة. وها هي أمك تصلي وعمك لطيف يصلي. لم يقل له زوج أمك. ولم يهدده ولم يتوعده. كان يقول له بصوت أجش يفيض عاطفة. الله تعالى ليس بحاجة إلى صلاتك يا يوسف. أنت الذي في حاجة إليها. ولسوف تندم كثيرًا لو أهملت هذا الفرض الذي فيه أمنك وراحة بالك".
إسلام الشيخ العالم الجليل يختلف جذريًا عن إسلام الشاب الصغير الذي يندفع في تيار التطرف والإرهاب بلا ضوابط. حديث الرجل العقلاني منظم التفكير عن فلسفة الصلاة يغزو القلوب بعمقه ورقته، وإدراك مواضع الضعف الإنساني قائم لا يمكن إهماله أو إنكاره، واللغة التي يستخدمها تخلو من مفردات الرعب المنفرة التي لا تصدر إلا عن جاهل مريض النفس والروح.
تنعكس ثقافة الشيخ ورؤاه الدينية المستنيرة على الدائرة الضيقة المحيطة به من الأهل والجيران، فهو من يتدخل بكل ثقله ورزانته العقلية ليحسم زواج أخيه لطيف من أم يوسف منصور، بعد أن تتناثر الإشاعات والأقاويل المثيرة حول العلاقة بينهما، ويتم توزيع ورقة مريبة تثير غضب الشاب يوسف وتستفزه وتقف به على حافة عمل انتقامي: "كان الشيخ عبدالسلام هو الذي طلب يوسف. واستقبله وهو راقد في فراشه. وقال ليوسف إنه انتظره أيامًا فلما لم يحضر وجد أنه لا مفر من أن يطلبه وفوجئ يوسف بالشيخ يقول له بلا مقدمات: 
- الزواج ليس عيبًا يا بني.. وهذه الورقة اللعينة التي تهددنا بالفضيحة، سنرد عليها بورقة حلال. ورقة شريفة. تصون كرامتكم وكرامتنا".
لا يجد الشيخ حرجًا في استدعاء شاب منفعل ومناقشته كأنه الند، ويسعى إلى إقناعه بالحسنى والمنطق والانتصار للعقل، معلنًا عن انحيازه للحلال والشرف والكرامة، مقاومًا لشبهة الإساءة والتشهير والطعن في الأعراض.
بفضل الشيخ عبدالسلام ذي النفوذ غير المحدود، يحصل يوسف منصور على وظيفة بعد التعثر في دراسته الجامعية بكلية الحقوق: "كانت مكالمة تليفونية من الشيخ الإمام عبدالسلام صبري قد فتحت له أبواب الوظيفة. الوزير أمر بتعيينه بالتليفون واستلم العمل قبل وصول الأوراق".
لا شبهة فساد أو استغلال للنفوذ في وساطة كهذه، فالمجتمع ليس مثاليًا يسكنه الملائكة، وهذا النمط من المجاملات "البسيطة" لا يمكن أن يُدان في إطار التفاعلات الاجتماعية المعقدة. كلمات الشيخ ليوسف بعد الحصول على الوظيفة الصغيرة المتواضعة، تؤكد إدراك الرجل لطبيعة الحياة الإنسانية وجملة القوانين والأعراف التي تحكمها: "اذهب يا بني واستلم الوظيفة. ولسوف تشعر ببعض المرارة لأنك تلتحق بوظيفة إدارية وهناك شبان في مثل سنك أكملوا تعليمهم وحصلوا على شهادة الليسانس ويتولون التحقيقات، ويتقاضون مرتبات أكبر. وأنا أتمنى أن يستفزك هذا الوضع فتكمل تعليمك، فلا شيء يحول بينك وبين إتمامه إلا عنادك وتكاسلك وإهمالك لدروسك ومحاضراتك. لا تظلم نفسك يا بني. دراساتك ميسرة، ومحاضرات الشريعة تستطيع أن تسألني عنها في أي وقت. لقد اخترنا لك هذا العمل حتى لا تضيع وقتك فيما هو مفسدة للشباب، فأنت واحد منا ونريد لك الخير والسعادة.
عندما أوشك أن يخرج من الحجرة التي يجلس فيها الشيخ في بيته، ناداه، فوقف بالباب، ورأى وجه الشيخ يبتسم قائلاً: 
- لا تبتئس.. وإذا ضايقك أن المحققين في وضع أفضل منك من حيث الوظيفة والمؤهل الدراسي، فلا تنسى أنك يوسف منصور.. وأن عائلتك واسمك كفيلان بأن يهيئا لك وضعًا اجتماعيًا لا يحصل عليه غيرك بالمناصب والدراسات".
حس إنساني رفيع، ووعي مرهف بخبايا النفس البشرية وما يعتمل فيها. يدرك أن الشاب المأزوم يقف على حافة هاوية الإحساس بالفشل المحبط، وأسلوبه في التشجيع بعيد عن النبرة الإنشائية. الفوارق الشاسعة بين الموظفين لا تغيب عنه، والاعتزاز بالعائلة عنصر راسخ في المجتمع المصري، وليس اختراعًا يسقطه الشيخ على الواقع.  

شارك