رجل الدين في الأدب المصري -4..علاء الأسواني

الخميس 09/يوليو/2015 - 06:53 ص
طباعة
 
الشيخ السمان، في "عمارة يعقوبيان"، من نجوم رجال الدين الذين يتمتعون بالشهرة الواسعة، وتربطهم علاقة وثيقة مع السلطة وكبار الأثرياء من رجال الأعمال والمال، مثل الحاج عزام، الذي يرى فيه إمامه ومرشده: "في كافة أمور الدنيا والدين حتى أنه لا يبت في أي موضوع يهمه في عمله وحياته بغير الرجوع إليه وهو يضع تحت تصرفه عشرات الألوف من الجنيهات لينفقها بمعرفته في وجوه الخير بخلاف الهدايا القيمة التي يمنحها له كل ما تمت صفقة طيبة بفضل دعواته وبركاته".
التدين الشكلي سمة راسخة مميزة في شخصية الحاج محمد عزام، ولا يتعارض هذا التوجه مع الاتجار في الهيروين وإدمان المخدرات وغير ذلك من أنماط السلوك الذي يتعارض مع جوهر الدين. التمسك بالشكل الديني دون مضمون سمة عامة في المرحلة، والمبالغ الطائلة التي توضع تحت تصرف الشيخ السمان لا تمثل شيئًا يُذكر بالنسبة لثروة عزام، لكنها تجعل من رجل الدين الشهير أداة مفيدة على الصعيدين الشخصي والموضوعي، فالهدايا القيمة ليست مجانية، وتوظيف الفتوى يبدو فعلاً منطقيًا في إطار القيم التجارية النفعية التي تحكم العلاقة.
يعاني عزام من حرمان جنسي مرهق، فالتقدم في العمر لا يحول دون الحيوية والرغبة، والزوجة الزاهدة لم تعد قادرة على إشباعه والاستجابة لاحتياجاته. إلى من يلجأ ليعرض الهم الخطير الذي يعذبه ويؤرقه؟!: "طلب الحاج عزام الانفراد به وحكى له عن مشكلته فأنصت الشيخ ثم صمت قليلاً وقال بحماس أقرب للغضب: 
- سبحان الله يا حاج، ولماذا تضيق الأمر على نفسك وقد وسع الله عليك يا أخي؟!. لماذا تفتح الباب للشيطان حتى تقع في الخطيئة؟!.. يجب أن تعصم نفسك كما أمرك الله، لقد أحل الله لك الزواج بأكثر من امرأة على أن تعدل.. فتوكل على الله وسارع إلى الحلال قبل أن تسقط في الحرام.
- أنا رجل كبير، أخاف لو تزوجت من كلام الناس.
- لولا معرفتي بصلاحك وتقواك لأسأت بك الظن.. أيهما أجدر بالمخافة يا رجل.. كلام الناس أم غضب الرحمن عز وجل؟! هل تحرم ما أحل الله؟!.. أنت رجل مقتدر وصحتك جيدة وتجد في نفسك شهوة للنساء.. تزوج واعدل بين زوجاتك.. إن الله يحب أن تستحل رخصه.
تردد الحاج عزام طويلاً (أو تظاهر بذلك) ومازال الشيخ السمان به حتى أقنعه بل وتولى – مشكورًا – إقناع أولاده الثلاثة".
هل يحتاج عزام إلى نصيحة كهذه؟!، وهل كانت فكرة الزواج غائبة عنه؟!. الإجابة بالنفي، لكنه يطلب الدعم الديني الشرعي لتبرير سلوكه أمام أبنائه، وهي مهمة يتولاها الشيخ السمان كأنها الواجب الخطير، وبذلك ينفتح الطريق أمام عزام لتحقيق الهدف الذي يرومه، كأنه مضطر بدوافع دينيه لا يملك أن يعارضها!.
يتزوج عزام من الأرملة الفقيرة سعاد وفق شروط جائرة لا يمكن أن يقرها الدين، ومن ذلك أن تتخلى عن حضانة ورعاية ابنها الوحيد، وأن يكون الزواج سريًا، والأخطر على الإطلاق هو تعهدها ألا تنجب!. إنها إذن مجرد شريكة فراش للمتعة، فأي ورع ديني هذا؟!.
تنتهي رحلة عزام مع المتعة بمعرفة خبر حمل سعاد، وتصر الزوجة الماكرة على رفض الإجهاض. لا غرابة أن ترفع الراية الدينية في موقفها: "هو انت ربنا بتحلل وتحرم؟!.. ولا احنا خلفنا في الحرام؟!".
ما تقوله ليس دقيقًا، فللمرأة أطماع وتطلعات، وهو ما ينطبق على أخيها الريس حميدو: "أنا أخوها صحيح لكن لا يمكن أطلب منها تسقط نفسها.. الإجهاض حرام وأنا راجل أخاف ربنا".
سعاد وحميدو يجسدان الهيمنة الطاغية للتدين الشكلي في المجتمع المصري، فهما يرضيان بزيجة غير سوية لا تتوافق مع صحيح الدين وجوهره، ثم يلوذان بشعارات الحرام والحلال في ظل ظروف مغايرة تستوجب الانقلاب. في مناخ كهذا يمكن استيعاب ظاهرة الشيخ السمان وأمثاله من الدعاة النجوم، ويبدو منطقيًا أن يفكر عزام في الشيخ كأمل أخير للخلاص من المأزق الخطير: "لم يبق إلا شخص واحد أنا واثق أنه سينقذني".
الشيخ السمان هو المنقذ، وهو وحده القادر على تطويع الدين وتسخيره بما يتوافق مع مصلحة الحاج عزام. هكذا يذهبان معًا لمقابلة سعاد وإقناعها بأن الإجهاض فعل شرعي مشروع!.
الشيخ السمان أقرب إلى الموظف الأجير في إمبراطورية عزام، وهو رجل شهير ذو مقام وحيثية، بما يؤهله ليكون موظفًا كبيرًا ذا أجر باهظ، لكنه موظف في نهاية الأمر. يندفع في حديث تقليدي منمق عن وجوب طاعة الزوجة لزوجها، وإذ تقول المرأة الشعبية محدودة الثقافة إن الطاعة في الحلال لا في الحرام، وتتساءل:
"- طيب قول له يا مولانا.. عاوزني أجهض نفسي..
ساد الصمت لحظة ثم ابتسم الشيخ السمان وقال بصوت هادئ:
- يا بنتي انت اتفقت معه من الأول على عدم الإنجاب والحاج عزام رجل كبير وظروفه لا تسمح بذلك..
- خلاص.. يطلقني بما يرضي الله.
- ما هو لو طلقك وانت حامل يبقى ملزم شرعًا بالمولود..
- يعني انت موافق أسقط نفسي؟!
- أعوذ بالله.. الإجهاض حرام طبعًا لكن بعض الآراء الفقهية الموثوق فيها تؤكد أن التخلص من الحمل خلال أول شهرين لا يعتبر إجهاضًا لأن الروح تنبعث في الجنين في بداية الشهر الثالث.
- من قال الكلام ده؟!
- فتاوى موثقة لكبار علماء الدين..
ضحكت سعاد ساخرة وقالت بمرارة:
- دول لازم مشايخ أمريكان"!.
السمان أقرب إلى محام ماكر مخلص لموكله دون تفكير في الشرع أو العدالة، وليس أدل على ذلك من رفضه للاحتفاظ بالحمل واعتراضه على الطلاق، بل إنه يتحدث عن "ظروف" الحاج وضرورة مراعاتها، وهي الفكرة التي لم يتطرق إليها وأنكرها عليه في سياق حثه على الزواج من قبل!. أي منطق ديني في دفاع الشيخ الموظف التابع عن الإجهاض؟!، وكيف يستنكر فقيه شهير أن يكون الزوج ملزمًا بابن شرعي؟!. لماذا يتجاهل الأسباب الموضوعية التي يحددها الفقهاء لإباحة الإجهاض في أول شهرين من الحمل، وهل تنطبق على الحالة التي هو بصددها؟!. سخرية سعاد اللاذعة مبررة، والهجوم المضاد الذي تشنه منطقي في مواجهة "الشيخ" الأجير الذي يحرَّم ويحلَّل على هواه:
"- سيدنا الشيخ ايه!!. كل حاجة بانت.. انت مقبضه فلوس عشان يقول كلمتين خايبين.. بقى الإجهاض حلال في أول شهرين؟! يا شيخ حرام عليك.. تروح من ربنا فين؟
لم يتوقع الشيخ السمان ذلك الهجوم المفاجئ فاربد وجهه وقال محذرًا:
- احترمي نفسك يا بنيتي وإياك تتجاوزي حدودك.
- أتجاوز ايه واتنيل ايه.. يا شيخ يا مسخرة.. دفع لك كم عشان تيجي معه؟!".
عطايا عزام السخية تحيل الفقيه الشهير واسع الانتشار إلى أداة لتبرير ما لا يمكن تبريره من سلوك ولي نعمته، ولا يختلف الأمر بالنسبة لعلاقته مع السلطة السياسية، فهو أداة طيعة في يدها، كما يتجلى في الموقف الذي يتخذه الرجل من حرب "تحرير الكويت"، حيث يسَّخر السمان كل إمكاناته لمناصرة النظام وحلفائه، ولاشك أن دوافعه لا علاقة لها بالدين: "كل يوم ينظم محاضرات وندوات ويكتب مقالات مطولة في الصحف ليشرح فيها الحكم الشرعي لحرب تحرير الكويت وقد استضافته الحكومة مرارًا في التليفزيون ودعته إلى إلقاء خطبة الجمعة في أكبر جوامع القاهرة، وراح الشيخ يقدم للناس كافة الأدلة الشرعية على صحة الموقف الذي اتخذه الحكام العرب باستدعاء القوات الأمريكية من أجل تحرير الكويت من الاحتلال العراقي".
نشاط محموم لتحرير الكويت، ورحلة إلى السعودية لمشاركة "العلماء" في تقديم الغطاء الديني الشرعي للحرب: "سوف أشترك مع الأخوة العلماء هناك في إصدار بيان شرعي لإفحام مثيري الفتنة وبيان تهافت حجتهم للناس، سوف نذكر في البيان بإذن الله الأدلة الشرعية على جواز الاستعانة بالجيوش المسيحية الغربية لإنقاذ المسلمين من الكافر المجرم صدام حسين؟".
لا وجود لمثل هذه الهمة في مواجهة القضايا الأخرى التي تتعذب بها المجتمعات العربية الإسلامية، ويتحول الدين إلى وسيلة ضغط سياسية تنحاز إلى طرف وتدافع عنه لأسباب ودوافع دنيوية. المناخ العام، في مصر والبلدان العربية بشكل عام، يفضي إلى مشهد كابوسي ينقسم فيه "رجال الدين" إلى تيارين لا ثالث لهما: النفاق والدفاع عن السلطة الفاسدة وتجميل سلكها، التطرف والإرهاب والعنف المسلح. الاتجاهان لا يمتان إلى الدين بصلة، وغاية ما يترتب على هذه الثنائية أن يتحقق مزيد من الاضطراب الذي يطول الدين والدنيا معًا!.

شارك