الحركات السلفية المعاصرة في عالم متغير

الجمعة 25/يناير/2019 - 11:06 ص
طباعة الحركات السلفية المعاصرة
 
الكتاب: السلفية العالمية.. الحركات السلفية المعاصرة في عالم متغير
المؤلف: رول ميير
حين انتشرت السلفية في أوروبا في التسعينيات، اجتذبت بعض الانتباه الأكاديمي، إلا أن البحث في السلفية كان محليًّا جدًّا أو عامًّا جدًّا في أفقه، وبقيت علاقات السلفية مع الحركة العالمية غير واضحة. وقد تغير هذا الأمر بعد هجمات نيويورك 2001، فلقد قيل الكثير وكُتب الكثير عن السلفية والوهابية، ولكن الكثير من هذا الذي قيل وكتب كان من خلال موشور "الدراسات الأمنية" أو من خلال الكتب التي تلعب على الرأي العام الذي ساوى بين الوهابية والعنف.
ولذلك يقصد هذا الكتاب إلى الإسهام في المناقشة الدائرة حول السلفية، وذلك بمعالجة بعض المسائل البارزة التي انبثقت بشأن هذه الظاهرة المعقدة، عبر الاستعانة بجمع كبير من الاختصاصيين في ميدان العلوم الإنسانية، ومن جملتهم علماء العلوم السياسية، والمؤرخون، والمتخصصون بالإسلام وعلم الأنتربولوجيا، وكذلك الباحثون المشتغلون في الدراسات الأمنية.
ولا بد من لفت النظر إلى نقطة مهمة قبل الخوض في التعريف بمضمون الكتاب، وهي أن هذا النص الغني الذي قلما نعثر على مثيل له في الساحة الثقافية العربية على صعيد معالجة عوالم الجماعات السلفية، قد قام على أساس مؤتمر دام لثلاثة أيام عن (السلفية بوصفها عابرة للقوميات) في مدينة ناميغن الهولندية، وذلك بالتعاون بين المعهد الدولي لدراسات الإسلام في العصر الحديث في جامعة ليدن الهولندية والتي تعد من أعرق الجامعات، مع وزارة الخارجية الهولندية ومؤسسة البحث الدفاعية النرويجية.
الهوية والتمكين:
يسعى الباحث الهولندي رول ميير Roel Meijer في هذا الفصل، إلى البحث في أهم السمات التي تتميز بها الجماعات السلفية، والتي تلعب دوراً فاعلاً في قدرتها على الحشد والتمكين خلال العقدين الماضيين. حيث يرد الباحث هذه الأمور إلى ست سمات أساسية:
الأولى: أنها ليست ثورية على نحو صريح، أي أنها لا تتحدى الحالة الراهنة تحدياً مباشراً، بزعمها بقلب الوضع عن طريق أيديولوجية أجنبية، مثل الماركسية. بل هي بالأحرى تدعي أنها تبني نظاماً أخلاقياً أعلى لتطهير البنى الموجودة على مستوى الفرد، الأسرة أو المجتمع.
الثانية: أن تمكينها يستمد من زعمها بالتفوق الفكري في المعرفة الدينية، وقلة هم المنافسون الشاملون في معرفة مصادر الإسلام مثل السلفية، ثم إن الالتحاق بـ"الفرقة الناجية" لا يعني فقط الحصول على موقف التفوق الأخلاقي على الآخرين، ولكن يعني أيضاً اكتساب معرفة أعلى بالإسلام، وهي المعرفة التي يجب على كل مسلم أن يمتلكها. وعلاوة على ما تقدم، فالوصول المباشر إلى النص يجعل المرء قادراً على أن يتحدى المؤسسة الدينية، وهي المؤسسة التي تستند، غالباً، إلى الفقه من المذاهب الفقهية الأربعة بالإضافة إلى الاستناد إلى "الإسلام الشعبوي"، وكلاهما مرتبط مع هيكل السلطة المهيمنة أو مع الثقافة السائدة.
الثالثة: تزود السلفية أتباعها بهوية قوية، فالسلفيون بارزون لكونهم مختلفين في المظهر، ولذلك فهم مهووسون بالحدود.
الرابعة: سماح السلفية لأتباعها بأن يتماهوا بسهولة أكبر بكثير مع الأمة الواسعة، وهو الأمر الذي يعزز ادعاءاتها، وهذا على النقيض من الإخوان المسلمين مثلاً، الموجهين توجيهاً وطنياً بشكل أكبر.
الخامسة: أنها فاعلة نشيطة في الوقت الذي تكون فيه مستكينة، وهي تخول تابعها رجلاً كان أو امرأة عن طريق حثهما على المشاركة بفاعلية في الرسالة السلفية وفي نشر الدعوة. ولذلك فهي تمتلك وظيفة اجتماعية فورية ليست من باب إظهار تفوق المرء فقط، ولكن من خلال إظهار ممارستها أيضاً في المجال العام والخاص باستخدام الولاء والبراء والحسبة، أو بتعبير أدق مما سبق عن طريق المشاركة في الجهاد.
السادسة: مثل، كل الحركات الدينية، على النقيض من الأيديولوجيات السياسية، فهي تملك ميزة هائلة من الغموض والمرونة. ومع أنها تدعي أنها واضحة وصلبة في عقيدتها وفي كفاحها من أجل النقاء، فهي في الممارسة مطواع قابلة للتشكيل، ويسمح غموضها للموالين لها أن يكونوا من الناحية السياسية مساندين للأنظمة وأن يقوموا أيضاً برفضها.
السلفية بعيون ما بعد حداثوية:
بعد ذلك يبحث المحاضر الفرنسي في جامعة السوربون محمد على أدواري في عوالم الحركات السلفية في فرنسا، حيث يرى بأن ما تتسم به هذه الجماعات هو أنها تعد ظواهر حديثة من الطراز الأول، وهي نتيجة لوضع الدين في قالب مادي محسوس والجواب الواعي لأسئلة من مثل: ما هو ديني؟ لماذا هو مهم لحياتي؟
ووفقاً لما يقوله أدواري، تكاد السلفية تبلغ أن تكون ظاهرة ما بعد حداثية، ذلك أن السلفي الفرنسي المنفصل عن جذوره التاريخية، هو فرد معولم لم يعد مهتماً بعد الآن بجذوره الخاصة الثقافية وبأرض والديه، ويفضل بدلاً من ذلك الحراك الثقافي العابر للقوميات من خلال الرغبة في الاستقرار في مدن كوزموبوليتانية (معولمة) مثل دبي أو أبو ظبي.
وفي السياق نفسه ترى مضاوي الرشيد الباحثة الأنتربولوجية في جامعة لندن، أن أولاد السلفية الجهادية المعاصرة هم منتجات الحداثة وما بعدها، وما كان يمكن لهم أن يبرزوا في مجتمعات إسلامية تقليدية. فالجهاديون من العصر السابق، من المغرب إلى إندونيسيا، كانوا نوعاً مختلفاً من الناس، وكانوا منتج ضغوط سياسية واقتصادية واجتماعية، ولكنهم لم يكونوا فاعلين عابرين للقوميات، وكان ذلك ببساطة لأن أممهم لم تكن قد تأسست تأسيساً كاملاً في وقت جهادهم، كما كانوا رد فعل مباشر على الاحتلال الأجنبي والتغلغل الرأسمالي وتهميش القوى التقليدية. أما المجاهدون المعاصرون فهم ظاهرة مختلفة، حيث يموتون في سبيل الدين، لا الأرض، وهم يشاركون حداثة الغرب، برغم رفضهم الصريح المعترف به ونقدهم لهذه الحداثة.
فهم مثل المجتمعات الرأسمالية الاستهلاكية ما بعد الصناعية، يدعون إلى نظام عالمي جديد يهمين فيه التضامن الإسلامي على الحدود العرقية والقومية. وبذلك فهم يشاركون في الأساس المنطقي للرأسمالية الحرة لأواخر القرن العشرين والسوق العالمي الحر ما بعد القومي، البارز في الثيولوجيات السياسية في الليبرالية الجديدة.
وعلى نحو أكثر تحديداً، يدمج الجهاديون روح الغرب في تغيير العالم بالعمل، وفي حين يكون العقل والربح مركزيين في مشروع الحداثة الليبرالي الغربي الجديد، يكون الدين حاسماً في السرد الجهادي عبر جعل الإسلام مهيمنا في العالم، لا جعله على قدم المساواة مع السرديات الأخرى، وبأسلوب مشابه للطريقة التي تكافح الليبرالية الجديدة الغربية لتكون مهيمنة من حيث هي رؤية للعالم.

شارك