عالم ما بعد أوباما

الإثنين 16/يناير/2017 - 06:38 م
طباعة
 
لم تكن معظم القوى السياسية والاجتماعية بالعالم العربي والاسلامي مستوعبة فرصَ التغيير التي حملتها فترة تولي باراك أوباما الافريقي رئاسة الولايات المتحدة، إذ بدت غير قادرة على فهم الرهانات الدقيقة للادارة الديمقراطية، عاشت جامدة اتجاه كل التحولات التي بدأ يشهدها العالم، أصابها الخمول إزاء تفكيك التناقض والتعقد الذي شاب المواقف والقرارت، وسيطر عليها الشك والتردد حيال الغموض الذي بات يخيم على العلاقات الدولية، ولم تر في أوباما غير صورة العدو المطلق، بل ادعت  بأنها تفضل إدارة غير منافقة، وإن كانت تثحن بشدة في الأمة، وتستثير فيها النحيب والرثاء بفظاعة المأساة ووحشية المجازر !
جاء لأمتنا ما استعجلت من سوء بسقوط حلب حتى قبل إمساك ترمب "غير المنافق" زمام قيادة أقوى دولة في العالم. وها هو اليوم يحشد صقور الجمهوريين إلى فريقه الحكومي على ايقاع عدسات تمعن تصويرَ مأساة نساء وأطفال سوريا، وعلى خطى قادة دول تهرول إلى إنهاء الصراع قبل أن يلحق "هولاكو" بالمعركة ليحصد الأخضر واليابس. 
بدأ "هولاكو" بالسعي إلى تعطيل آخر القرارات في عهد الادارة الديمقراطية بمهاتفة السيسي، لتأجيل عرض مشروع إيقاف الاستيطان الاسرائيلي يوم 23 دجنبر 2016، في غياب صوت جمهوري يوظف حق الفيتو بمجلس الامن الدولي. 
وبالرغم من ذلك، اتُّخذ القرار قبل تولي ترمب فعليا يوم 20 يناير 2017، بل وشهدت آخر لحظات حكم أوباما تصويت مجلس الامن الدولي يوم 31 دجنبر 2016 على اتفاق وقف اطلاق النار بين فصائل المعارضة المسلحة والنظام السوري، بالرغم من الصعوبة التي يواجهها الاتفاق بسبب تدخل بعض القوى الاقليمية والدولية؛ إذ لا يمكن أن تسمح إيران بأن يوكل لها أدوار ثانوية في التسوية، كما لا تسمح أجندة ترمب بتسلم زمام السلطة وقد طوية المشكلة السورية.
لطالما ذكر لافلوف بأنه يطلع كيري على تطورات التسوية في سوريا، وردد كيري دعمه لمساعي التسوية، إذ لا ضير عند إدارة تقبل تعدد الاقطاب أن تركز حضورها في العراق دون سوريا. فالجميع يبدو متضامنا في سياق سباق لاقرار الهدنة قبل تولي ترمب فعليا، بل لا شك في أن قناعة ما تبلورت تقول بأن الكثير سيتغير على الارض بعد تولي ترمب القيادة. لكن يبدو أن هولاكو عازم على اللحاق، وهذا ما انتبه إليه الروس والاتراك حين دعوا إدارة ترمب إلى حضور محادثات استانة يوم 23 يناير 2017.
إن روسيا وإيران على وعي تام بخلفيات الجمهوريين وسياسياتهم المرتقبة، إذ وظفت الدولتان تناقضات عهد أوباما، فاستقوت بقوى دولية ولوبي صهيوني يعادي سياسات إدارة الديمقراطيين في الشرق الأوسط، كما أدركتا بأن مرحلة ترمب لن يحتاج فيها اللوبي الصهيوني وإسرائيل خدمات روسيا وإيران، إذ بإمكان ترمب استنزاف الجميع، وحسم كل التحديات بالآلة العسكرية الامريكية الرهيبة، والتحكم في كل التداعيات بمفرده أو رفقة حليفه التقليدي بريطانيا، أو مع فرنسا إذا ظفر فيها اليمين بالرئاسة.
 لا يمكن التغافل عن الرؤية الضيقة للجمهوريين بخصوص تنظيم المجال العالمي، إنها رؤية كلاسيكية واضحة تقوم على تعزيز كل الفرص لابقاء المركز قوي ومهيمن، وحشد كل السياسيات للابقاء على الهامش ضعيف ومتخلف.
فالمتأمل لتصريحات ترمب ومواقفه لا بد أن يرصد منظومة القيم والمصالح الموجهة لسياساته المستقبلية. فليكن البدء من موقفه الرافض لاتفاق باريس حول خفض انبعاث الغازات الدفيئة؛ إن لموقفه صلة بالاقتصاد والإنتاج القائمين على النفط الذي يهيمن عليه شركاؤه أرباب الشركات العابرة للقارات المولعين بالتحكم في الاسواق والسياسيات الدولية، ولا ريب في أنهم سنده في قرارات مثل تعزيز الاستيطان الاسرائيلي ونقل عاصمة إسرائيل إلى القدس، كما يستلزم كل ذلك تواري الديمقراطية وتنصيب أنظمة ديكتاتورية ترعى المصالح الحيوية لجماعات الضغط بالشرق الاوسط وغيره. 
لذلك واهِمٌ من ينتظر أن تتجه سياسيات ترمب إلى خلاف الخط الذي يرسمه بتصريحاته بين الفينة والاخرى قبل أن يستلم القيادة يوم 20 يناير 2017، حتى ولو تصاعدت وسائل الضغط عليه إعلاميا، إذ كان آخر هذه الضغوط اعلان شبكة "سي ان ان" يوم 11 يناير 2017 عن تقارير استخباراتية تؤكد تورط ترمب في فضائح مالية وأخلاقية. 
أما تداعيات كل ذلك على الربيع الديمقراطي، فلن يألو ترمب جهدا في إلغاء انجازات الربيع ومحو آثارها في كل مكان، وما على القوى الديمقراطية إلا المقاومة والصمود والمناورة إلى حين انطلاقه في دورة جديدة. تؤكد تجارب الأمم بأن الربيع قد يتوقف كليا، لكنها تجعل من استئنافه بقوة حتمية تاريخية. 

  

شارك