رسالة مؤتمر تحولات الهامش والمسكوت عنه في ثقافة الجنوب الذي عقد في أسوان يومي 5، 6 مارس 2017

الثلاثاء 07/مارس/2017 - 05:44 م
طباعة رسالة مؤتمر تحولات
 
حسام الحداد
حسام الحداد
لا شك ان المؤتمرات تفتح نافذةً لكثير من المبدعين الموجودين في أقاليم مصر، بعيدًا عن العاصمة: مركز الإشعاع، وتفرض عليهم حتميةً التساؤل والحوار مع خطاب الآخر حتى تكشف الذات ملامحها الحقيقية بعيدًا عن اعتقادها الخاص بالامتلاء والفراغ، فهي تحدد وجودَها طبقًا لعلاقتها بالآخر وموضعِه. كما تمنح هذه المؤتمرات فرصةَ التعرف على تجربة تتميز بالخصوصية حينًا والتقليد حينًا آخر. 
ويعد مؤتمر تحولات الهامش والمسكوت عنه في ثقافة الجنوب واحدا من هذه المؤتمرات المهمة التي قاربت المصطلحين المحوريين الذي دار حولهما المؤتمر وورقاته البحثية "المتن والهامش" وتقاربهما من مناقشة الخطاب الديني او الخطابات الدينية المتعددة التي تموج بها الساحة الاجتماعية والثقافية والسياسية بين ما يطلق عليه خطاب الاعتدال وخطاب التطرف في ظل ثنائية "المتن والهامش"، والتي تم عرضها في اطار ورقتين بحثيتين للباحث الدكتور محمد عبد الباسط عيد، والباحث حسام الحداد، اذ يقول الحداد في ورقته البحثية "المتن والهامش بين النظرية والتطبيق" : إن إشكاليةَ المتنِ والهامش التي سوف تتناولها هذه الورقة البحثية لتعد مِن أهم الإشكاليات التي نواجهها في ثقافتنا العربية، حيث تحوّل الهامش متنًا، والمتن هامشًا، ورغم أهمية الهامش لقراءة النص بشكل عام فإنه في حال النصوص يظل هامشًا يوضح ويفسر ويؤول ما استغلق من المتن، ولكن أن يأخذ دورَ المتن على المستوى الثقافي العملي فهذا ما ينذِر بعواقبَ كبيرةٍ تكاد أن تكون كارثية، وأقربُ مثالٍ على هذه الحالة أننا لو اعتبرنا القرآنَ الكريم متنًا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكُتُب المرويات التي يُطلَق عليها كُتُب السُّنّة هي الهامش، لوجدنا أنه في الإطار العملي للممارسات الدينية على اختلافها أن مجموع الفقهاء قد حوّلوا القرأن ليلعب دور الهامش، وأصبحت السُّنة هي متن الرسالة حتى قال أحدهم إن السُّنة ناسخةٌ للقرآن، حتى أضعنا السُّنة والقرآنَ، وظهرت تلك الجماعات والفِرق المتناقضة والمتصارعة فيما بينها من ناحية ومع الأنظمة السياسية ومخالفيهم من الشعوب من ناحيةٍ أخرى.
ويضيف الحداد "يُعَبّر عادةً بمصطلح “ثقافة المتن” عن الثقافة السائدة أو الثقافة التي تنتجها النخبة سواءٌ أكانت رسمية أم شعبية، بينما يُعبّر بمصطلح “ثقافة الهامش” عن الثقافات التي قد لا تشترك في كل شيء مع اللون الثقافي الغالب ولكنها أيضًا لا تناقضه بالضرورة.
ثقافة الهامش هي كذلك ثقافة اللاوعي أو العناصر التي قد لا تتلون بها المساحات الظاهرة من التفكير والممارسة المجتمعية، لكنها رغم ذلك موجودة.
المتن قد يفرض نفسَه كحالة ثقافية عندما يكون مصدر تنشئة وتلقٍ تاريخي لدى غالبية المجتمع أو المجتمع كله. وقد يفرض المتن الثقافي نفسَه كحالة مركزية متغلبة لكنه قد لا يمثل هنا قناعةً راسخة أو مَصدرًا للتنشئة والتلقي لدى الفئات الأوسع من المجتمع، وهنا يمارس الهامش دورَه الثقافي من خلال إنتاج وعي هامشي مضاد للوعي المتني أو المركزي الذي ترفضه غالبية المجتمع.
الهامش قد يفرض نفسَه أيضًا عندما تضعف الأجهزة الحارسة للمتن الثقافي بصرف النظر عن درجة التوافق أو الاختلاف بين ذلك المتن وبين المجتمع. والمتن والهامش كلاهما يعكس حالة الأصالة الثقافية بقدر اقترابه من جوهر المجتمع في قناعاته وممارساته.
استمرار الثقافة رهينٌ بانتقالها من جيل إلى جيل. والثقافة لا تنتقل تلقائيًا أو عفويًا، بل لا بُد في انتقالها من تدخلِ الفعل الإنساني. وإذا كان كلٌ مِن الهامش والمتن على صفحات الكراريس المدرسية ثابتيْن، فإنهما في الواقع الاجتماعي متحركان فيما يشبه التدافعَ بين سائلين غير متجانسين داخل قناة واحدة، بحيث تزحف الثقافة نحو الهامش كلما ضعف التحكم في المتن من طرف الأجهزة الحارسة لها. وبالمثل، تزحف نحو المتن كلما قويَ تحكُّم تلك الأجهزة في المتن.
والتحكم الذي نتحدث عنه ليس نوعًا من التسلط أو القمع، بل هو عمل مخطط علمي ومدروس، يهدف إلى بناء ونشر وتعزيز الثقافة لضمان انتقالها واستمرارها من خلال التعليم والإعلام والنشر والبحث والكتابة والترجمة عبْر تحسيس وتجنيد مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، هذا على المستوى الرسمي.
أمّا على المستوى الشعبي فيبقى الدور الأكبر للمجتمع المدني من خلال مختلف الجمعيات والهيئات الأهلية. أقول الدور الأكبر، لأن هذه الهيئاتِ هي التي تتواجد مع مختلف فئات المجتمع وفي كل مكان وتتعامل مع المواطنين بشكل مباشر وتسهم كذلك بشكل فاعل في إنتاج النخبة. فما مِن نجمٍ مسرحي إلا وبدأ حياته في جمعية مسرحية، وما مِن فنان تشكيلي إلا وبدأ مشواره الفني في جمعية أو مَدرسة، ولا يمكن أن تتطور أو تصقل موهبة قاص أو روائي أو كاتب مسرحي إذا لم يَحتَك بمن سبَقه من المبدعين إلى هذا الميدان، وذلك لا يتم إلا في الجمعيات والرابطات والاتحادات.
لكن التفاعل المثمِر بين هذه الجمعيات والهيئات وبين المواهب الجديدة الكامنة في عمق المجتمع، لا يمكن أن يتحقق عندما يركن المثقف إلى شأنه الخاص منعزلا عن بقية الفاعلين الثقافيين، لأن جوهر المجتمع المدني مبني على الحركية والتفاعل المستمرين لا على الانعزالية والجمود.
الدكتور محمد عبد
الدكتور محمد عبد الباسط عيد
وفي مقاربة ظاهراتية يقول الدكتور محمد عبد الباسط عيد: "في مقاربة أولية يشير المتن أو المركز إلى الثابت المستقر والمعترف به؛ فالمركز هو النقطة التي تنبثق منها الدائرة في البداية، وهو الأصل الذي يمنح الشرعية لكل النقاط التي تتناثر على المحيط، فالمركز هو النموذج القوي المؤيد بأكثر من سلطة، يكتسب المركز سلطته أو حجيته ليس من خطابه فحسب، وإنما من هذا الدعم الذي يجعل هذا الخطاب دائمًا في الواجهة باعتباره النموذج أو المثال، وهو دعم ذو مستويات عدة، سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة واقتصاديّة.
المركز هو الصورة التي تريد لها دوائر القوة والسلطة أن تسود وتنتشر؛ وهذا بالتأكيد لأنه يدعم مصالحها وبقاءها، أو يدعم استقرار المجتمع وقيمه طبقًا لمنظومة القيم التي يؤمن بها، ويسعى إلى حمايتها والدفاع عنها، وحين يكون الدين مرجع هذه القيم أو حين تتداخل معه تظهر مؤسسات المجتمع تشددًا واضحًا في المحافظة عليها.
يمكننا أيضًا أن نتحدث عن مركزٍ جامع، "مركز كُلي" تتفرع عنه – غالبًا - مجموعةٌ من المراكز الصغرى التي تدور في فَلكِه وتخلق هوامشَها المختلفة، فـ" المركز الكُلي" هو الكل الذي يضم الأجزاءَ إليه كما يضم الجزعُ الفروعَ والغصون، فهي في الظاهر مراكز، لكنها عند التحقيق مركز واحد عميق الغور عظيم التبدي، يدور – غالبًا - في أفق السلطة وتدور فيه، هذه السلطة التي تتنوع دوائرها أو مراكزها بقدر حاجتها إلى ما يجعلها دائمًا في موقع المهيمن الحاكم الذي يقدم خطابًا يوظف كل آليات التسلط، سواء أكانت مادية أم معنوية كي يضمن حضورَه واستمراره وبقاءَه في الوقت نفسه.
قد يكون خطاب المركز سياسيًا في مواجهة خطابات مُعارِضيه، وهنا نجد المركز يستعين بكل ما من شأنه أن يمنح خطابَه الهيمنة، فيعلو بنسبيته إلى تخوم المطلَق، فيتقوى اليوميّ والإنسانيّ بالمقدس المتعاليّ، فيغدو هذا من ذاك، يغدو خطاب المركز خطاب الحقيقة، أو "مراد الله" أو "أهل السنة والجماعة"، والجماعة من الإجماع، ويغدو خطاب من سواهم خطاب الخوارج أهل البدع الذين يحاربون الله، ويشقون عصا الطاعة والإجماع؛ وبذلك يمكنه أن يهيمن عليهم معنويا ويستبيحهم جسديا.
ينزع الباحثون إلى وصف الثقافة العربية بثقافة النص، ويقصدون بالنصِّ القرآنَ الكريم، والمؤكد أن القرآن ثورة اجتماعية وثقافية عظيمة الأثر، وهو من ثم نقلة حضارية كبرى، وعليه فقد يكون الصواب هو أن نقول إنّ القرآن شكّل "الثقافة العربية الإسلامية"، بإضافة صفة "الإسلامية" إلى هذه الثقافة والحضارة الجديدة، أما قبل ذلك فقد كانت الثقافة العربية أيضًا ثقافة النص، ولكنه هنا الشعر وليس القرآن؛ فالشعر – قبل الإسلام، وكما هو معروف - ديوان العرب وموضع عنايتهم وخزانة معارفهم، وكان الشاعر فيهم موضع تقدير وإجلال، فاحتفوا بنبوغه، وعلوّ صوته الذي هو صوت القبيلة وموضع فخرها، ولسانها الذي يدفع عنها ألسنة الآخرين؛ فالشّاعر في هذه الثّقافة نموذجًا كليا يضم أوجه الكاهن والشّامان والسّاحر والعرّاف، ويضم أيضا أوجه النبيّ والعالم والحكيم.
والمعروف أنّ هذه المنزلة للشاعر والشعر تراجعت بعد الإسلام، بعد أن أصبح القرآن النّص المركزيّ وأصبح الشعر نصّ الهامش، أو النص الذي يأتي في منزلة تالية على أحسن الفروض، وإن كان بمقدورنا أن نتحدث عن هامشية حقيقية لحقت بالشعر في صدر الإسلام وقبل حكم الأمويين تحديدًا.
لنتفق هنا على أن فكرة إزاحة الشعر وغيره من أشكال القول من المركز فكرة ليست هينة في القرآن؛ فقد ألح القرآن في أكثر من موضع وفي أكثر من مناسبة على تفوقه وعجز خصومه عن منازلته، متفرقين أو مجتمعين، بل إنك لتستشعر نوعًا من السخرية بهذه الخطابات عبر هذا الإلحاح والتدرج به من الإتيان بـ"مثل" القرآن كله إلى بعض سوره انتهاء ببعض آياته، يمكننا أن نقول:
إنّ كل يوم ينقضي في هذا الصراع كان يقرّب القرآن من الهيمنة ويدفع الشعر والفصحاء إلى الهامش، قد يكون من الصعب أن نقطع بالوقت الذي تمكن فيه القرآن من الهيمنة الكاملة أو شبه الكاملة على المركز الثقافيّ والعقديّ، ولكن المؤكد أنه قد خطى نحو ذلك خطوة كبرى مع "فتح مكة"، أو أننا قد نعدّ فتح مكة بداية النهاية لمركزية الشعر، فلم تعد له من بعد هذا الحدث المؤثر تلك المكانة التي كانت له سابقًا، لقد انتهى هذا العهد وبدأ الناس مع القرآن عهدًا جديدًا.
وفي وقت لاحق سوف يلاحظ النقاد القدماء ضعف الشعر في هذه الأوقات وما بعدها، يقصدون بـ"الضعف" تراجعه الفني، مقارنة بما كان عليه في العصر الجاهلي، وهذه ملحوظة مهمة وتفسيرها من منظور القدماء أيضا تفسير مهم، فالشعر فنّ ذاتيّ، حتى لو كان الشاعر ناطقًا بلسان القبيلة، فكثيرًا ما يتوحد الصوت الفرديّ بصوت الجماعة، ولكن تحوله إلى منازلة خطاب آخر وهو القرآن بطبيعته الحجاجية الدعوية انعكس عليه أيضا.
لقد طغت الخطابة على شعر رجل مثل "حسان"، وغلبت الخطابة على الشعر في الطرف الآخر أيضا، لقد ضعف الشعر على المستوى الفني حين دخل في سجال مع القرآن ومع الشعراء المنافحين عن القرآن، وحين أيقن الشعراء بهزيمتهم ودخول بعضهم في الإسلام، كان هذا أقرب إلى الجندي الذي ألقى سلاحه موقنًا بهزيمته، متراجعًا عن موقفه، معتنقًا ما جاء به خصمه.. لقد توقف شاعر في قيمة الجاهلي المعلقاتي "لبيد بن ربيعة" عن قول الشعر تمامًا بعد إسلامه.
نحن إذن إزاء مركزية كبرى ظلت مهيمنة منذ ذلك الزمان على الثقافة العربية، هي مركزية "المقدس" الذي يتدرج من القرآن إلى العلوم والمباحث المتصلة به، كالتفسير والفقه و"الدنيوي" الذي يتدرج من الشعر والشعراء الغاوين المغوين إلى الفلسفة والعلوم التجريبية، ولكن الثنائيات أو خطاب الثنائيات في إطار الثقافة الواحدة يتداخل إلى الحد الذي يفرض علينا بحثها في إطار التعالقات التي تحدث بين الخطابات، حتى بين الخطابات المتصارعة، ونحن إذ نفعل ذلك نريد إنجاز قدر من الوعي بهذه الخطابات وبالطبيعة المعقدة لهذا التداخل.
لقد نزل القرآن بلغة يغلب عليها الطابع الجمالي بمستوياته اللغوية المعروفة، بداية من التوظيف المتميز للمكون الصوتي مرورًا باختيار الدال المحدد، وانتهاء بالبنية التركيبية والتخييلية، يمكننا أن نتحدث عن أشكال من التعالق الموسَّع بين القرآن والشعر والخطابة والسَّجع، لقد لاحظ القدماء ذلك التعالق، فكان الشعر دائمًا الخلفية المعرفية والمرجعية اللغوية للتفسير والتأويل، على مستويات الإفراد والتركيب والتصوير جميعًا، مما يضيق بنا المقام عن تتبعه.
غير أنَّ هذا الوعي الخطابيّ بين القرآن والشعر أُقْصِيَ منذ البداية، وذلك لصالح مركزية سياسية واقتصادية بدأت تلوح في الأفق منذ حدث السقيفة وتعقدتْ خيوطها طوال عقود، إلى أن انتهت بالحرب الأهلية الأولى بين المسلمين (الفتنة الكبرى)، في هذه السياقات المضطربة سوف يستثمر السياسيّ النصّ المقدس، ومنذ ذلك الزمان ستبقى ثقافتنا مشدودة إلى المركز المقدس، وسيحرص الجميع ليس على فهم مقاصد المقدس وإنفاذها في الواقع، باعتبارها الغايات المرجوة والأهداف العليا للقرآن، وإنما سيحرصون على المماهاة بين خطابهم النفعيّ وقيمهم القبلية والمقدس، وذلك على مستويات السياسة والاجتماع والثقافة جميعًا.

شارك