السلطة والاستخدام النفعي للدين.. في حوار جمال عمر لبوابة الحركات الإسلامية

الإثنين 27/نوفمبر/2017 - 03:54 م
طباعة السلطة والاستخدام
 
ما بين مفهوم الخطاب والخطاب الديني وفشل مشروع الحداثة حتى الان لإنتاج خطاب حداثي عربي يتوافق مع العصر الذي نعيش فيه كان لنا هذا الحوار مع واحد من الباحثين المهتمين بالبحث في التراث العربي، وفي القلب منه النص المحوري الذي تدور حوله الثقافة العربية تأثيرا وتأثر، وقد صدر أخر كتاب للباحث المصري جمال عمر حول هذا النص بعنوان "توتر القرآن". جمال عمر كاتب وباحث مصري مقيم في أمريكا وأثناء زيارته الأخيرة في مصر كان لنا معه هذا الحوار. 

من وجهة نظركم ماذا يعنى مصطلح "تجديد الخطاب الديني" ؟
للأسف كلمة "الخطاب" من كثرة ترديدها من قبل المشايخ فقدت دلالتها، و اصبح الخطاب هو الخطبة؛ فيكون الأمر هو مجرد استخدام ادوات و وسائط التواصل الحديثة عبر النت و وسائل التأثير الاعلامي، او هو استخدام العامية بديلا للعربية التراثية لعرض نفس البضاعة القديمة. و تتم عمليات ترقيع فكرية فيكون موقف "المجدد" هو أن نترك المسائل الفرعية التي اهتم بها القدماء و لكن نتمسك بمنهجهم في التفكير. بعبارة أخرى يتم ترك المنتجات الفقهية القديمة لكن نحتفظ بماكينة التفكير الفقهية كما هي. فحدث خلال القرن و نصف الماضي تجاوز شكلي لبعض المسائل الفقهية و ظلت الأسس الفكرية التي يقوم عليها انتاج الفكر كما هي، و هذا يعيدنا الى أن نفكر في مكونات مفهموم الخطاب. فصحيح أنّ للخطاب شكل و مضمون، لكن للخطاب مقولات أساسية هي التي تجعل من الشكل و من المحتوى معنى، المقولات الأساسية هي الأسمنت الذي يربط بين أجزاء الخطاب و التي تشكل تمساكه.
فكل عمليات الدعوة للاصلاح الديني خلال القرن و النصف الماضيين غيرت في الشكل و في موضوعات و محتويات الخطاب لكن لم يهتم احد الا نادرا بالتعرض للمقولات الأساسية التي تشكل هذا الخطاب. فمفاهيم مثل "لا اجتهاد مع النص" أو "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" "درء المفاسد مقدم على جلب المنافع"، مثل هذه المقولات هي التي تشكل ماكينة التفكير الفقهي، فإذا تعاملنا مع الخطاب من تغيير شكل أو تغيير محتوى دون التعرض لهذه المقولات يظل الأمر مجرد اعادة تعبئة و تغليف للقديم.
 فالخطاب الديني عند المسلمين هو علاقة يقيمها الانسان المسلم مع مصادر الدين المتفق عليها مثل "القرآن و السنة و الاجماع و القياس". فإذا كانت هذه العلاقة قائمة على اعتبار هذه المصادر سلطة يتم الاحتكام إليها منذ رفع المصاحف على أسنة الرماح سنة 657 م / 37 هجري، و تحول المصحف من ساحة للفهم و التدبر و الدراسة إلى أن يصبح ساحة للصراعات السياسية و الاجتماعية و يتحول المصحف الى سلطة تتخفى وراءها سلطات البشر لتصبح النصوصية هي سيدة الموقف، فمن المهم أن ننشئ علاقة جديدة مع المصحف من كونه سلطة إلى أن يعود ساحة للفهم و الدرس و الاستيعاب. بعبارة أخرى مهم ان ننتقل من أفكار تجديد تنتهي إلى مجرد ترقيع و اعادة تغليف إلى أن نزرع خطابا دينيا جديداً.


كيف تقرأ عملية الإصلاح الديني وتجديد الفكر الإسلامي منذ محمد عبده في مصر وحتى الآن، ولماذا لم تصبح تياراً سائداً في الثقافة المصرية؟
حينما أتتنا الحداثة غازية من الخارج أو قهرا من الباشا في الداخل عبر تحديثه المسيس فرضت على العقل الديني تحديات؛ كيف يتعامل مع العلم الحديث و مع السببية و الحتمية العلمية و كيف يتعامل مع العقلانية في الاجتماع البشري عبر الأشكال القانونية الجديدة و نظم الحكم الحديثة فحاول المصلح أن يواجه كل ذلك بالفصل بين العقائد و العبادات من جهة و بين المعاملات من جهة اخرى. الأمر الذي تجسد في إبقاء محمد عبده على مفهوم التوحيد الأشعري حتى لا يتهم في دينه و أخذ مفهوم العدل عند المعتزلة، المفهوم الذي مكنه من استيعاب منتجات العلم الحديث في الأحياء و الفيزياء...الخ عبر مفهوم السببية الذي يمكنه الفكر الاعتزالي من تبنيه. هذا التجاور بين النسق الأشعري و النسق المعتزلي هو بذرة عطب داخل خطاب الإصلاح و التي بدورها مكنت خطاب التقليد و الترديد من تهميش خطاب الإصلاح لأن خطاب التقليد متسق مع ماضيه الذي يعيش عليه. فمع كل هزيمة يواجهها المجتمع تنحسر مساحة خطاب الإصلاح و تتسع مساحات خطاب التقليد و الترديد. 

هل يمكن أن نتكلم عن استئناف توحيد المذاهب أو التقريب بينها كما فعلت لجنة الأزهر برئاسة الشيخ شلتوت رحمه الله في الستينيات، وهل من الممكن التقريب بين الخطابات الدينية المنطلقة من أسس مذهبية ؟
حينما دخل خطاب النهضة في أزمته نهايات القرن التاسع عشر كان تفكير النخبة أنه لابد من قاطرة فكرية تخرج هذا المشروع من أزمته فكانت فكرة إنشاء جامعة "دينها العلم"، جامعة تفعل ما فعلته الجامعات في بلاد اوروبا التي تحولت من مدارس مثل الأزهر تدرس الدين دفاعا عن مذهب أو دفاعا عن ديانة ضد ديانات أخرى لتصبح جامعات مثل السوربون و اكسفورد و هارفارد تدرس الدين من اجل الدرس العلمي و ليس فقط تعصبا لمذهب أو دفاعاَ عن ديانة. لكن للأسف مع أول اختبار حين كان السعي لأن يدرِّس جورجي زيدان تاريخ المسلمين قامت الدنيا و لم تقعد أن يدرّس مسيحي عربي تاريخ المسلمين في جامعة يدرّس فيها مستشرقون يهود و مسيحيون أوروببيون علوم المسلمين، بل أصبحت الجامعة المدنية ذاتها مدارس لتعليم الدين و الدفاع عن مذهب في العقيدة ضد مذاهب أخرى. و لم تأخذ الجامعة من الحداثة سوى استجلاب ثمرة العلوم المادية و التكنولوجيا و ظلت في مجال علوم الإنسان و دراسة الدين تعيد انتاج القديم. علينا أن نسعى لتجاوز مساعي التقريب بين المذاهب، سواء في تجربة الثلاثينات في سياق علاقة الزواج بين الأسرة السنية الحاكمة في مصر و الأسرة الشيعية الحاكمة في إيران، أو في ستينيات القرن الماضي في سياق السعي إلى وحدة عربية، إلى تجاوز المذهبية ذاتها و أن تنتقل مؤسساتنا من تعليم الدين دفاعاَ عن مذهب إلى البحث العلمي في الدين   

هل من المنطقي أن تنطلق الدعوة لتجديد الخطاب الديني من رأس السلطة السياسية، وهل هذا من مصلحة الدعوة للتجديد أم أن ذلك يلقى بضغط عليها يجعلها أسيرة تصورات السلطة لمنطق الدين وتفسيره؟
السلطْة السياسية في ثقافتنا التراثية و المعاصرة هي أكبر مستخدم نفعي للدين، لتوظفه في فرض سيطرتها على رعاياها، عبر مؤسساتها الدينية الرسمية. لذلك فحين تدعو السلطة إلى تجديد فهي في الحقيقية، لا تسعى إلا لتأميم المجال الديني، تأميماٌ يصادر التعدد و التنوع لصالح صوت واحد وليصبح هذا الصوت الواحد هو نموذج إجماع أهل السنة والجماعة عند القدماء وهو نموذج الوسطية في عصرنا ضد دعاة "الغلو والتطرف" من جهة وضد دعاة "التغريب والتفريط" في الدين من جهة ثانية. كل ذلك باسم "الاستقرار والوحدة والتمسك بصحيح الدين"، الذي تحدده المؤسسات الدينية الرسمية. وهذا المسعى خلال القرنين الماضيين، سحب من رصيد هذه المؤسسات الدينية، التي كان لها رصيد ليس بالقليل عند أتباعها من المسلمين والمسيحيين؛ حينما كانت صوت للناس أمام الحكام. لأن تصبح مجرد معاقل لموظفين من موظفي الدولة ورعاياها، ففقدت الكثير والكثير من تأثيرها على الناس لصالح قوى أخرى مثل تنظيمات السلفيين والإخوان تُزايد على تابعية المؤسسات الدينية الرسمية وخضوعها للسلطة. 


ما هي الملامح الأساسية في الخطاب الديني السائد، والتي تراها بحاجة إلى تجديد لو اتفقنا على تجديد الخطاب الديني كحل مرحلي؟
منظومات الفقه عند المسلمين هي منظومات تشكلت في ظل الدولة الإمبراطورية، الدولة متعددة الأجناس و الأعراق، دولة الغزو و التوسع بقوة السيف. فقامت منظومات الفقه على التمييز بين المسلم و غير المسلم، و بين الذكر و الأنثى، و الصغير و الكبير، الحر و العبد. و في ظل الدولة القومية الحديثة، دولة مرتبطة بحدود أرض تقوم على المواطنة، دولة تقوم على القانون الذي يُبنى على المساواة بين المواطنين دون تفرقة بين مسلم و غير مسلم أو ذكر و أنثى، او صغير و كبير. و هذا الانتقال من منظومات التمييز إلى منظومات المساواة هو تحدي نعاني العبور في مساراته خلال القرنين الماضيين. فكيف ننتقل من منظومات فقه تمييزية إلى منظومات فقه جديد تقوم على المساواة. 

هل الخطاب الديني الإسلامي هو المرشح فقط للتغيير أم أن الخطاب الديني المسيحي أيضاً، خاصة وأنه قد بدأ يبرز بقوة في الآونة الأخيرة على المشهد بوصفه خطاباً بحاجة إلى التغيير أيضا؟
من المصادفات أن هذا العام تمر خمسة قرون على حركة الإصلاح الديني في المسيحية التي قادها مارتن لوثر. حركة الإصلاح الديني التقليدية عند المسلمين في القرن التاسع عشر على يد محمد عبده، فمن المتصور أن ’محمد عبده’ المسيحية الأرثوذكسية المصرية لم يظهر بعد. و قد يعتبر البعض الأب متى المسكين هو هذا الصوت المجدد لكن الإشكال الكبير هو ان دولة يوليو حينما صادرت العمل السياسي العام بإلغاء الأحزاب لم تجد وسيط بينها و بين المواطنين المسيحيين المصريين سوى الكنيسة، حتى أصبحت الكنيسة في عقودها الأخيرة و مع حالات الاحتقان و التفكك في المنطقة هي الملاذ و المأوى و الصوت المعبر لملايين من المسيحيين المصريين، ليس روحيا فقط بل على مستويات اجتماعية و سياسية بل و اقتصادية. مما جعل العلاقة بين الدولة و بين الكنيسة علاقة معقدة جمّدت أصوات عديدة للإصلاح و التجديد الديني داخل الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بسبب هذه العلاقة، و سعيا للإجماع الديني داخل الكنيسة  في سياق حالة الاحتقان الطائفي.
هل تجديد الخطاب الديني أمر نخبوي لا يصح للعامة الحديث فيه بمنطق إلجام العوام أم أنه حديث جماهيري يقود إلى مقرطة الخطاب الديني أم ذلك خطر على الدين والتجديد معاً ؟
تقسيم الخاصة و العامة هو تقسيم يستطيع به دائما الخطاب التقليدي أن يهمش أي جديد و للأسف عبر التاريخ كان خطاب التجديد يتم تهميشه أيضا حينما يتبنى هذه القسمة كما فعل خطاب أبو حامد الغزالي مع خطاب ابن رشد، و حديثا حينما يحاول المفكر أن ينتقل "من العقيدة إلى الثورة" لكنه يجعل أمور الفكر هي أمور للخاصة و تتم خلف أسوار الجامعة، يريد أن يحدث ثورة و ما البشر فيها إلا أدوات. أو ذلك المفكر الآخرالذي يخاطب العقل الجمعي و يصلح المفاهيم و يخاطب الجماهير "و يكون هو المفكر الوحيد الذي يعيش من دخل كتبه" و يجلس في محاضرة يتحدث ما يزيد عن ساعتين، او في برنامج تليفزيوني و لا نسمع صوت احد من الجماهير يسأل أو يناقش؛ و كأن دور الجماهير طوال الوقت أن يكونوا مجاميع في خلفية المشهد، مجرد أدوات؛ قطيع يسير خلف المفكر الذي لا يشق له غبار بدعوى الخاصة و العامة. فبدون الخروج من أسر زيف هذا التقسيم سنظل في مرحلة الترقيع و سنظل في أسر الوصاية على الناس و هذه بذرة عطب في فكرنا تنسحب على الخطاب الديني و على تجديده. فالجميع متفقون على أن الناس يجب أن تسحب بحبل و الصراع بين المتصارعين من سلطة و جماعات و مفكرين على من يمسك بالحبل، و أرى أنه قد حان الوقت لقطع الحبل بسكين الرشد العقلي و الفكري. 
ما هي الآليات التي يجب تفعيلها لتجديد الخطاب الديني وربما يكون الأفضل أن نقول ما هي الشروط التي يصبح فيها تجديد الخطاب الديني أمراً ممكناً؟
إنه الفرق بين أن تعطي إنسانا وجبة شهية من سمك يجوع بعدها فيظل في احتياج إليك و تحت سيطرتك، و بين أن يتعلم هذا الإنسان يربي سمكه و يصطاده و يطبخه بنفسه فيتحرر و يبلغ الرشد. لكن الثقافة في مجتمعاتنا ترسخ الاتباع و التبعية و تسلطية الاستبداد و وصاية الفكر.و حين نطبق ذلك على الخطاب الديني يحتاج الأمر أن يفكر الناس في أمور الدين و لا يتم الاكتفاء بأن يستهلكوا وجبات أعدت "تيك آواي" فقهيا. فعقلية السوق و السوء حولت عالم الفكرالديني في مجتمعنا إلى بوتيكات لعرض و بيع المعلّب و الجاهز و "المفرزن" من الآراء الفقهية و يصبح المواطن "زبون". و للخروج من أسر ذلك مهم مقرطة وسائل إنتاج و توزيع و تبادل المعرفة، و هذا ما نحتاج أن نفكر فيه معا، فليس عندي إجابة عن كيفية تحقيقه الآن. و الله أعلم.

 

شارك