مقتل عثمان.. بداية التأصيل لفقه الخروج على الحاكم

الأحد 17/يونيو/2018 - 03:14 م
طباعة مقتل عثمان.. بداية سارة رشاد
 
حتى السنة الخامسة والثلاثين من الهجرة لم يكن لدى المسلمين تصور مكتوب أو محفوظ لكيفية شغل منصب الخليفة حين يخلو، وربما لهذا الأمر سُمي مقتل عثمان بن عفان بـ«الفتنة الكبرى».

فالحادث الذي وقع قبل ما يزيد عن 1362 عامًا - تحديدًا عصر الجمعة 18 من ذي الحجة سنة 35هـ، الموافق 17 يونيو 656م- وتسلق فيها رجال من مصر والكوفة والشام أسوار بيت الخليفة ليقرروا -نيابة عن الأمة قتله- جعلت المسلمين لأول مرة بلا إمام يرعى شؤونهم.

بدأت القصة قبل أربعين يومًا من واقعة القتل، حين وصلت إلى المدينة وفودٌ ثائرةٌ من عرب الفسطاط والكوفة والشام، تطالب الخليفة عثمان بإصلاحات، مثّلت أول صدام سياسي عرفه المسلمون بين خليفة ورعيَّة، وكنوع من التعامل العقلاني وعد الخليفة بتنفيذ مطالبهم، وعليه سلك كل وفد طريقه إلى بلده.

وخلال العودة صادف عرب الفسطاط غلامًا يحمل رسالة إلى والي مصر مختومة بختم الخليفة يأمره فيها بجلد هؤلاء العائدين وحلق رؤوسهم؛ ليرون في الرسالة غدرًا يستدعي العودة إلى المدينة، وفي نفس التوقيت تقريبًا الذي وصل فيه وفد مصر إلى مقر الخلافة وصل القادمون من الكوفة والشام، ليعرضوا على الخليفة وفي حضرة كل من عليّ بن أبي طالب، ومحمد بن مسلمة الرسالة التي أنكرها، فشككوا في أمانة حامل ختم الخليفة، مروان بن الحكم.

وردًّا على ذلك، صعّدوا طلباتهم، فدعوا الخليفة لخلع نفسه؛ لما قالوه بـ«غفلته وخبث بطانته»، إلا أنه أجابهم بالرفض، قائلًا: «لا أنزع قميصًا ألبسنيه الله، ولكني أتوب وأنزع»، وأمام رفضه ضربوا حصارًا حول بيته لإجباره على التنحي ومنعوه من الخروج حتى للصلاة.

أربعون يومًا، كانت كل مدة الحصار الذي تغير بعده وجه الأمة، كل شيء كان يسير نحو الأسوأ: خليفة محاصر منع عن بيته الماء والطعام، وصحابة اختلف موقفهم بين الداعم للحصار والرافض الساعي للوساطات، واستغاثات يرسلها الخليفة لرجالات الولايات فتأتي الإجابات بطيئة متكاسلة.

وفي اليوم الأربعين الذي يُعرف بـ«يوم الدار» جرت الأمور على عجل، إذ وردت أنباء تفيد بتحرك ينتويه الحجيج في مكة لإنقاذ الخليفة، لاسيما قُرب دخول وفود الولايات المدينة، لمواجهة المتمردين، واستباقًا لكل ذلك استقروا جميعًا على القتل، إذ قالوا: «لا يخرجنا من هذا الأمر الذي وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل، فيشتغل الناس عنا بذلك».

عصرًا بدأ المتمردون في التنفيذ، إذ حاولوا اقتحام باب الدار فصدهم الحسن بن علي، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، إلا أن عثمان نهرهم، قائلًا لهم «أنتم في حل من نصرتي»، وأقسم عليهم بالدخول إلى البيت والكف عن الدفاع عنه، وهنا أحرق المتمردون الباب وتسلقوا الجدران إلى الداخل حتى وصلوا لغرفة الخليفة وانهالوا عليه بالطعن، أولهم كان الغافقي بن حرب العكي الذي ضربه بالسيف، ثم اجتمع عليه من أهل البصرة (حكيم بن جبلة البصري، وحرقوص بن زهير السعدي)، ومن أهل الكوفة (الأشتر مالك بن مالك بن الحارث النخعي)، أما من عرب الفسطاط، فكان (كنانة بن بشر التجيبي، وقتيرة السكوني، وسودان بن حمران السكوني)، ومن أبناء المدينة (عمير بن ضابئ البرجمي).

ولمدة ثلاث ليالي رفض المتمردون دفن جثمان الخليفة، إلى أن هددتهم أم المؤمنين أم حبيبة، وابنة عم عثمان، فتم الدفن ليلًا دون غسله وفي غفلة من أهالي المدينة، حتى أن أعدادًا قليلة جدًّا من أصحابه وأقاربه هم من حضروا الدفن.

اندلاع الفتنة

مثّل الشكل الهمجي الذي تغيب عبره عثمان بن عفان (82 عامًا)، ورطة أمة لا شخص أو مدينة، إذ دخل المسلمون وقتها في أزمتين: أولهما البحث عن حاكم يرتضي الإدارة في هذا الجو المأساوي، والثانية تتعلق بإقرار النظام والقصاص من قتلة الخليفة.

وفي خضم مواجهة الأمة لمصيرها تحت حكم الخليفة الجديد «علي بن أبي طالب»، الذي ارتضى المنصب غصبًا، واجه «عليّ» أزمة رفض حاكم الشام مبايعته حتى يأتي بثأر عثمان، ولأن عليّ كان يُدرك أن حال الأمة لا يحتمل الدخول في مواجهات مسلحة مع قتلة الخليفة القديم، إذ كانوا يتمتعون وقتها بنفوذ، فقرر تأجيل الأخذ بالثأر لحين تتاح الفرصة، ولمواجهة رفض حاكم الشام مبايعته دخل عليّ في صدام عسكري معه، وخلال كل ذلك ظهر مصطلح جديد دونه المؤرخون هو مصطلح «الخوارج»، من فعل «خرج».

عبر فصل كامل من كتاب «إسلام بلا مذاهب» تحت عنوان «الخوارج»، قدّم المفكر المصري الدكتور «مصطفى الشكعة»، تفنيدًا لماهية هذا المصطلح ومعتقدات أفكاره، إذ كتب يقول: «بدأت الفُرقة تدب بين المسلمين حين اقترح معاوية بن أبي سفيان، على، عليّ بن أبي طالب إبان موقعة صفين 37هـ 657م أن يحتكما إلى حكمين يعتمدان في حكمهما على كتاب الله حسمًا للخلاف الذي أدى إلى مقتل عثمان، فلما قبل عليّ التحكيم وكان من أمره ما كان، ما أطلق عليه بعض المؤرخين خدعة عمرو بن العاص، لأبي شعر الأشعري، قال بعض المتمردين- وكان معظمهم من قبيلة تميم- لا حكم إلا لله، فلما سمع عليّ ذلك قال قولته المشهورة: «كلمة حق يراد بها باطل».

ويقول «مصطفى الشكعة» إنهم جماعة أخذوا من «حروراء» قرب «الكوفة» موقعًا لهم، فسموا بـ«الحرورية»، كما عرفوا بـ«المحكّمة» نسبة لقولهم:«لا حكم إلا لله»، إضافة إلى لقب «الشُراة» أي الذين يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله.

ويتابع إنهم لجؤوا إلى بعض الآراء المتطرفة والأعمال القاسية، فطعنوا في عليّ وأحقيته بالخلافة، وطعنوا في مسلك عثمان، وحكموا بالكفر والارتداد على كل من يحاربهم في التهجم على عثمان وعليّ.

ويزيد في توضيح متناقضاتهم، إذ يقول إنهم إذا ما قابلوا مسلم ونصراني قتلوا المسلم وأوصوا بالنصراني خيرًا.

ويرصد «الشكعة» أن نشاط الخوارج لم يتوقف بمقتل «علي»، إذ زاد، فيقول: «وخاضوا كثيرًا من المعامع في عهد معاوية، وكانت غاراتهم تتخذ شكل حرب العصابات، فلم يكونوا قادرين على مواجهة جيوش الحكومة الأموية الجديدة»، لافتًا إلى أنهم كانوا يعتمدون أسلوب الغارات الخاطفة في منطقة البصرة، مراهنين على مهارة عناصرهم القتالية وخبرتهم في الكرِّ والفرِّ.

وينتقل المفكر المصري إلى أسلوب القتل والتوسع في التكفير، إذ يقول إن فرقة «الأزارقة» لزعيمها نافع بن الأزرق، هم الأكثر عنفًا، إذ كانوا يبيحون قتل النساء والأطفال، ويستحلون الأموال وقطع الطرق، فيما كانوا يسمون زعيمهم أمير المؤمنين، ولا يتورعون في تكفير المخالف معهم.

ويقف «الشكعة» على أن الخوارج ليسوا قوة واحدة إذ تفسخوا إلى جماعات، ولهذا السبب فشلوا في الحفاظ على بقائهم رغم طول المدة التي ظهروا فيها، ويقول إنهم انقسموا لثماني جماعات كبرى تحت كل جماعة جماعات أصغر، وأبرز هذه الجماعات هي «الأزارقة، والنجدات، والبيهسية، والعجاردة، والثعالية، والإباضية، والصفرية».

من «الخوارج» إلى «داعش»

فور إعلان «داعش» ظهوره في 2014، ربط التنظيم حضوره بممارسات العنف التي كانت يتفاخر بها في إصداراته، لاسيما الأطروحات الدينية التي كان يكتبها شرعيّوه، ويذهبون فيها إلى رفع سقف تكفير المخالف له، حتى إن التنظيم كَفَّر كل من يختلف معه بمن فيهم هؤلاء العاملين في الإسلام الحركي، ويتفق التنظيم في ذلك مع «الخوارج» الذين كفروا كلَّ من يخالفهم الرأي أو يطالبهم بالكف عن التكفير.

وبخلاف ذلك فتقارب التنظيم ومن قبله «القاعدة» من سلوكيات «الخوارج» في انتهاج حرب العصابات التي لجؤوا إليها للهروب من الخبرات العسكرية للجيوش النظامية، مطابق تمامًا لفعل الخوارج، لاسيما تشتتهم، كما فعل الخوارج، إلى جماعات ولكل جماعة أمير، ولكل أمير رؤية ومنهج.

ويفسر هذا الشبه اتفاق المؤسسات الدينية بالمنطقة على اعتبار «داعش» و«القاعدة» امتدادًا لفكر «الخوارج»، ففي سبتمبر 2014، أقر مفتى عام المملكة العربية السعودية، عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، بأن تنظيم «داعش» لا يفهم إلا في تكفير الأبرياء وسفك دمائهم، ومثله كان موقف الأزهر الذي فنّد عبر مرصده في أكثر من مناسبة أوجه الشبه بين «داعش» والخوارج من حيث المعتقدات والآراء.

وتعليقًا على ذلك قال محمد علي الأزهري، عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين، جامعة الأزهر: إن الأزهر في سياق محاربته للتنظيمات الإرهابية استدعى تجربة «الخوارج» وكيف تم إجهاضها قديمًا، للوقوف منها على كيفية مواجهة تنظيمات «داعش» و«القاعدة».

وأوضح في تصريح لـ«المرجع» أن الأزهر يمتلك الكثير من الدراسات حول تجربة «الخوارج» وكيف استمرت أزمتهم لعقود، مشيرًا إلى أن الخبرة التاريخية، تؤكد أن مصير هذه الجماعات إلى الزوال.

ولفت «الأزهري» إلى أن جماعات «الخوارج» تظهر دائمًا بسبب خلاف حول شكل الحكم السياسي في المجتمعات المسلمة، مشيرًا إلى أن استدعاء هذه الأزمة في الفترة الأخيرة وملء عقول فئة من المسلمين بحلم الخلافة الزائف، كان وراءها أطراف غربية سعت لظهور خوارج جدد.

شارك