«عنايت خان».. موسيقي نقل التصوف من الهند إلى الغرب

الإثنين 06/أغسطس/2018 - 09:44 ص
طباعة «عنايت خان».. موسيقي نهلة عبدالمنعم
 
بعيدًا عن التشدد والالتزام الصارم بحروف النصوص أرّخ «عنايت خان» لتعاليم الصوفية في الغرب، مؤسسًا لـ«the Sufi Order International» وهي الحركة الصوفية الدولية التي لا تزال تنشر تعاليمه.

في 5 يوليو 1882 وتحديدًا في ولاية «بارودا» بالهند ولد عنايت خان المعروف إنجليزيًا بـ«Hazrat Inayat Khan» ذلك الموسيقي الهندي الذي يرجع إليه الفضل في معرفة الغرب بماهية التصوف وروحانيته، فبداخل منزل ترتفع من داخله أصوات الآلات الموسيقية، وأناشيد الصوفية نشأ عنايت الذي تأثر كثيرًا بأسرته ذات النسب الرفيع والموهبة الفنية الموسيقية ذائعة الصيت.

والده رحمة خان أو «Mashaikh Rahmat Khan» الذي ولد في عام 1843 بولاية البنجاب، سليل عائلة عريقة من ملاك الأراضي الإقطاعيين والأولياء الصوفيين والموسيقيين والشعراء تعرف باسم «zamindars»، كما أن والدته «Khatija Bi» هي ابنة «Sholay Khan Maula bakhsh».

وماولا بخش أو «sholay khan maula bakhsh» هو موسيقار هندي وشاعر ومغني عاش في الفترة ما بين (1833- 1896) وعلاوة على ذيوع صيته الفني إلا أن لقبه كجد عنايت خان مؤسس الصوفية العالمية قد عزز من شهرته في كتب التاريخ الحديث.

وقام «بخش» بدوره بتنمية الروابط بين صهره الصوفي والعائلة الفنية ما أفرز المنزل الثري الواقع على أحد جوانب الطريق في «بارودا» الهندية والذي كان ملتقى للشعراء، والمريدين، والملحنين على مختلف عقائدهم وشرائعهم الدينية.

ولع فني ورقي عقائدي

ساهمت تلك العائلة بزخمها الفني والموسيقي الصوفي في تشكيل السمات الشخصية لعنايت «Hazrat Inayat Khan» فأسرته المسلمة المتدينة بعقيدة الشستية الصوفية، التي شهدت انتشارًا واسعًا آنذاك نظرًا لأن حكام المغول في ذلك الوقت قد رفعوا من شأنها في مواجهة التطرف العقائدي وأملا في انتشار السلام، كانت تعقد حلقات ذكر ليلية يتخللها صلوات وأمسيات شعرية وغنائية، وهو ما جعل الشخصية محل الدراسة تحلق بعيدًا عن الصرامة الحرفية لكتب الدين، لتصل إلى رحاب أوسع لتوحيد الله الواحد القهار، وتنصهر فيه الأديان كلها ما دامت موحدة، وذلك في تفسير عملي لمصطلح «الغنوصية» الذي ينتقل بالفرد من التشدد الكتابي إلى فلسفة دينية أعمق تتصل بعلاقة الله بعباده الموقنين به.

وظهر على «عنايت خان» منذ صغره ولعه بالموسيقى، ففي التاسعة من عمره غنى ترنيمة «Sanskrit» الشهيرة بحفل رسمي تلقى بعدها مكافأة من المهراجا الهندي آنذاك (ومهراجا هو لقب يطلق على الحاكم الهندي)، بالإضافة إلى منحة دراسية، وفي سن الـ 14 نشر أول كتاب له عن الموسيقى وكان يحمل اسم «Balasan Gitmala» وكتبه باللغة المعروفة إنجليزيًا بـ«Hindustani»، وفي العشرين من عمره أو قبلها بقليل سلك عنايت خان طريق التدريس الموسيقي، حيث كان أستاذًا في أكاديمية الموسيقى التي أسسها جده في عام 1886 وكانت تعرف وقتها بـ «Gayanshala» ولكنها تعرف الآن بكلية بارودا للموسيقى.

وصية مولانا

ووسط التأثير الطاغي الذي مارسه «Maulabakhshi» على شخصية حفيده، وتحديدًا في عام 1896 صُدم عنايت خان بوفاة جده الموسيقار الكبير، وبعدها بأربعة أعوام فقط توفي شقيقه الأصغر «كرامات خان» وهو لم يتجاوز بعد السنوات العشر ما ترك جرحًا عميقًا في نفسه، دفعه نحو مزيد من العمل بحثًا عن مخرج من أحزانه فتوالت أعماله الفنية والموسيقية التي لاقت رواجًا واسعًا حينها، كما قادته تلك الفترة الصعبة من حياته للسفر إلى حيدر آباد والتي تمثل فترة معيشته بها نقطة مفصلية في مشوار حياته، فالأشهر الستة الأولى التي أعقبت سفره تضمنت العديد من الكتابات التي قدمها عنايت وكان أشهرها كتابه الأخير عن الموسيقى «the Minqar-i Musiqar » والذي أورد به الكثير عن فلسفة جده الموسيقية.

كما قادت المصادفة «عنايت» لمقابلة «محمد أبوهاشمي المدني» أو مولانا الهاشمي والذي تلقى على يديه فيما بعد التعاليم الصوفية للطريقة الشستية، والطريقة القادرية، والنقشبندية.

فالهاشمي كان باحثًا في الأدبين الفارسي والعربي، وعلاوة على ذلك فهو متصوف بارز يعيش وسط قبائل الهند متأثرًا بأصوله الإسلامية والعربية التي تعود إلى المدينة المنورة.

ففي منزل الهاشمي وبالمصادفة سمع خان درسًا عن الميتافيزيقا والصوفية ليكتب حينها كل ما ألقاه الهاشمي عليه، ثم يبحر في آلياته الخاصة معلنًا إياه مرشدًا له في طريقه نحو البحث عن الكمال وفلسفة التوحيد، كما أثرت تلك العلاقة بكل ما فيها على رؤية «عنايت» خان صاحب الأصول الفنية.

وتجلى هذا التأثير العميق في كتابات عنايت خان عن العلاقة بين المريد ومرشده ودور ذلك في الحياة الروحية للفرد ونظرته إلى المصطلحات الصوفية المتعلقة بفقدان الأنا، واكتشاف جوهر الوجود، وبينما كان مولانا الهاشمي في لحظات احتضاره نصح عنايت خان بالسفر إلى الغرب حيث أخبره بأن يذهب إلى العالم الآخر لينقل له الصوفية بسحر موسيقاه.

نضوج حسي

بعد سنتين من وفاة الهاشمي، أي عام 1910، سافر عنايت خان برفقة أخوته إلى «كلكتا» تمهيدًا للإبحار تجاه الغرب، الذي سافر له وهو مشبعًا بموهبة وعلم فني إضافة إلى نضج روحاني أصبغته عليه الصوفية بكل سموها، وكانت فرنسا هي محطته الأوروبية الأولى والذي قبع بها منذ عام 1912 إلى 1920، واهتم وقتها بدراسة علم النفس كما قدم بصحبة إخوته حفلات موسيقية هندية، وعلاوة على ذلك بدأ عنايت في تقديم المبادرات الصوفية وتثقيف المريدين حولها.

وعلى الرغم من سفره لفترة إلى بريطانيا فإنه عاد مرة أخرى إلى فرنسا ليتخذها قاعدة لنشر التصوف في الغرب وإنشاء الحركة الدولية للصوفية بها وبعدها في لندن عام 1916، وفي جنيف عام 1922، ويديرها حاليًا حفيده.

ويمتلك «عنايت خان» مجموعة كتب واسعة يشرح من خلالها فلسفته الدينية نحو التصوف والتوحيد ومن أشهرها «the heart of Sufism»، و«the message of Sufism»، و« the mysticism of sound and music»، و« the inner life»، و« the way of illumination» وغيرها من الكتب المتعددة.

ومع زيادة شهرته والتزاماته العلمية ازدادت رحلاته «عنايات خان» في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، فنشر التصوف آنذاك من خلال محاضرات وندوات عقدت بانتظام في ضاحية Wissous التي كان يقطنها بفرنسا، بالإضافة لمحاضراته في هولندا، وذلك في الفترة ما بين (1921- 1926).

وخلال تلك الفترة تزوج عنايات خان من أورا راي بيكر، وبعدها أمينة بيجوم، التي أنجب منها أربعة أطفال، ساهموا في إثراء حياة البشرية وأكملوا نشر تعاليم الصوفية التي حملها والدهم برحابة دينية عقائدية واسعة، كما أن منهم من ألهم العالم ومازالت بعض الميادين تحمل تمثاله.

أبناء وأحفاد

من أبرز أبنائه ممن حملوا شعلة الصوفية في الغرب « Pir Vilayat Inayat Khan » والذي ولد عام 1916، وقاد النظام الصوفي الدولي منذ عام 1956 إلى وفاته عام 2004 وساهم في نشر التصوف على إنه مادة للزهد والتأمل والممارسات الروحانية والكمال في البحث عن الله.

أما أشهر أبنائه فهي الأميرة نور عنايت خان التي عملت جاسوسة للمخابرات البريطانية، وذلك بعد هجرتها من فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، حيث رفضت نور ممارسات النازية وانضمت لجهاز المخابرات البريطانية الذي قام بتدريبها على اللاسلكي ثم إرسالها لفرنسا لتتجسس على القوات الألمانية هناك، ولكن نتيجة لوشاية تم القبض على نور وتعذيبها ثم إعدامها في عام 1944.

ونتيجة لتضحيات المسلمة التي ولدت في 1914 لإنقاذ اليهود من عنف هتلر آنذاك، تم بناء تمثال للأميرة الصوفية وسط حديقة «جولدن سكوير جاردنز» بلندن.

وبعد سنوات قدم فيها عنايت خان تعاليمه الصوفية لأوروبا والولايات المتحدة قرر العودة إلى الهند في عام 1926 ليقضي نحبه بدلهي في 5 فبراير عام 1927 بعد سنوات أثرى وأبناؤه وأحفاده من بعده بها العالم.

شارك