«البدوي».. أسطورة سياسية في أحضان الصوفية

الخميس 27/سبتمبر/2018 - 01:42 م
طباعة «البدوي».. أسطورة سارة رشاد
 
تبدأ القصة منذ ما يزيد على 818 عامًا، في مدينة فاس، شمالي شرق المملكة المغربيَّة، هناك وُلد طفل سُمي «أحمد» عام 1200 تقريبًا، لعائلة غادرت مكة، غربي السعودية عام 692، على خلفية تعقب الدولة الأموية (662 - 750م) لأنصار الإمام علي (رابع الخلفاء الراشدين، مات مقتولًا) بالحجاز (المسمى القديم للسعودية).

«البدوي».. أسطورة
عاشت عائلة الطفل بالمغرب فترةً تقترب من 500 عام قبل مولده، لتقرر بناءً على رؤيا منامية لأحد أفرادها (يرجح أنه والده)، العودة إلى مكة، وقتها كان الطفل في عامه السابع. استقرت الأسرة في مكة حتى وفاة الأب؛ لتنتقل بعد ذلك إلى العراق، ومنها ذهب «أحمد» إلى مصر وهو في الأربعين تقريبًا، عام 1239.

إنه القطب أحمد البدوي، ثالث الأقطاب الأربعة للصوفيَّة، ومؤسس الطريقة البدويَّة (إحدى الطرق الممتدة في الدول العربية)، وصاحب مولد البدوي (احتفال شعبي ديني يرتاده ما يزيد على المليون صوفيّ بمصر).

يمتلك البدوي سيرةً تختلف عن بقية أولياء الصوفيَّة، ففي المقابل من الروايات التي يحفظها أنصاره ومحبوه عن كراماته، تُوجَّه له اتهامات صريحة بأنه كان صاحب مشروع سياسي في عصره؛ الهدف منه إعادة الحكم الشيعي إلى مصر، واتخاذ التصوف غطاءً له.
«البدوي».. أسطورة
وترصد كتب الطريقة الأحمديَّة سيرة شيخها، باعتباره كان زاهدًا مرتديًا للصوف، منذ أن كان طفلًا في المغرب، وبقي «البدوي» على ذلك حتى وصل إلى مكة التي تعلم فيها العُزلة؛ حيث كان يتردد على مغارة داخل جبل كان يقصدها للتَّعبد.



وخلال وجوده بالعراق، يُقال إنه زار قبر القطبين الصوفيين: أحمد الرفاعي، وعبدالقادر الجيلاني، ليتعرض لبعض التحولات التي صاحبته إلى مصر، التي جاء إليها، بعد رؤيا حددت له المكان الذي سيستقر فيه، طنطا (شمالي مصر)، ويفسر ذلك نزول «البدوي» في قرية بعيدة نائية آنذاك عن العاصمة، التي اعتاد أولياء التصوف النزول بها.

وللبدوي روايات تتردد حول كراماته (أمور خارقة للعادة)، تزيد بشكل لافت على بقية أولياء التصوف، فيقال إنه كان ملثّم الوجه طوال الوقت، وحين أصرّ أحد الأشخاص على أن يكشف عن وجهه، سقط ميتًا من شدة نوره، كما يقولون إنه كان يتدخل لإنقاذ المكروب، والإفراج عن الأسرى المصريين، الذين كانوا يقعون خلال الحروب الصليبية، بل زادوا على ذلك بأنه كان يقوم بالدور نفسه حتى بعد وفاته، ولتوثيق هذه الكرامة توارث المصريون عبارة شعبية يقولون فيها «الله الله يا بدوي جاب اليسرى»، ويقصد بها جاب الأسرى، وتم تحريفها بمرور الوقت إلى «اليسرى».



ورغم الهجوم الذي طال أنصار البدوي على خلفية ترويجهم لهذه الروايات، فإن هناك مشايخ أزهريين بارزين أيدوها، منهم صاحب الخلفية الصوفية الدكتور عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر في الفترة من (1973 - 1978).



وعُرِف «البدوي» بألقاب، منها: «العلوي» لعودة نسبه إلى الإمام «علي» رابع الخلفاء الراشدين، و«شيخ العرب» لكرمه، أما «البدوي» نفسه فلميله لحياة البَدْو من عزلة وابتعاد عن الناس.



البدوي بين مؤيديه ومعارضيه

ثارت حول البدوي خلافات واسعة حتى اليوم، فكما يعتبره محبوه وليًّا صالحًا، يراه المختلفون معه حلقة في مخطط، هدفه عودة الحكم الشيعي لمصر، الذي انتهى مع سقوط حكم الدولة الفاطميَّة عام 1169 تقريبًا.



ويستند أصحاب الرأي الثاني إلى خُلو كتب التاريخ في القرن 13 الذي عاش ومات فيه البدوي من أي إشارة له، مفسرين ذلك بأنه كان منشغلًا بالعمل السياسي؛ لذا لم تتم الإشارة له كوليٍّ صوفي، ويعتمدون في ذلك على أن أولياء الصوفيَّة الذين ذهبوا إلى مصر، جميعهم حظوا بتوثيق لحياتهم يومًا بيوم، كما تم التأريخ لوفاتهم، على عكس «البدوي».

«البدوي».. أسطورة
وحلت سيرة «البدوي» في كتب التاريخ لأول مرة خلال القرنين 15 و16؛ إذ جاء فيها كأحد الرجال الذين تتردد سيرتهم على ألسنة الناس، أي تراثًا شعبيًّا، وليس شخصية حقيقية تمت معاصرتها والتدوين عنها، وأخذ معارضوه من ذلك مؤشرًا على أن الكرامات التي نُسبت له تم تدوينها كافة من ألسنة الناس، ولم تشاهد رَأيَ العين، كما فَسَّروا ذهابه إلى طنطا لا إلى العاصمة؛ لرغبته في التخفي عن أعين الدولة، لكن مؤيديه يقولون إنه جاء بعد رؤيا (أي ما يشبه الوحي).



وفي كتابه «السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة»، الصادر عام 1982، ذهب زعيم القرآنيين (تيار فكري ديني يرفض الاعتماد على الأحاديث النبويَّة)، أحمد صبحي منصور إلى أن البدوي لم يأتِ مصر صوفيًّا، لكنه تم تقديمه كذلك من قِبَل تابعيه، الذين قرروا تحويله إلى وَلِيٍّ وقطب عقب وفاته.



ولتأكيد موقفه يقول «منصور»: إن «البدوي» لم يكن صاحب مذهب صوفي، كأكبر المتصوفة المسلمين، مثل ابن عربي أو ابن سبعين، لكنه اهتم بالتربية بعيدًا عن الفلسفة النظرية للتصوف.



وردًّا على مثل هذه الحجج، أصدر الصوفية كُتبًا للدفاع عن «البدوي»، منها: كتاب «حياة السيد البدوي.. بحث في التاريخ والتصوف الإسلامي»، لصاحبه إبراهيم نور الدين، ركّز فيه على نفي أي دور سياسي ينسب «للبدوي»، كما جاء كتاب «السيد البدوي» لصاحبه سعيد عبدالفتاح عاشور عام 1967، الذي تناول اعتقاد مُريدي البدوي، وذهب إلى أن «البدوي» لا يُسأل عن مغالاة الأتباع.



تُوفي «البدوي» -المثير للجدل- في حوالي 1276، بعد أن أسس طريقته البدوية في طنطا؛ حيث مسجده الآن، واتخذ لها الراية الحمراء شعارًا، كما أرسل من أتباعه مَنْ يثق فيهم إلى الشام ومكة وصعيد مصر؛ لنشر طريقته.



وخرج من أتباعه بعد وفاته من أسسوا طرقًا أخرى -اعتمد أصحابها على الترويج لأنفسهم بأنهم أتباع «البدوي»- منها «الأحمدية المرازقة، الشناوية الأحمدية، الفرغلية، الإمبابية، الحمودية، الشعبية، الزاهدية، السطوحية، الجوهرية، التسقيانية، الكناسية، الجعفرية والجريرية».



شارك