عملية اغتيال الخازندار

الخميس 22/نوفمبر/2018 - 01:26 م
طباعة عملية اغتيال الخازندار
 
لقد شكلت قضية موقف الإخوان من العنف والإرهاب مرتكزاً أساسياً لأغلب الدراسات التي كتبت في تاريخ الإخوان، جلّها حملت مبررات عديدة لهذا النوع من استخدام العنف في السياسة.
ونستطيع رصد بدايات تشكل النظام الخاص للجماعة - بالتقريب بين أعوام 1940-1942 - فقد تضخمت جماعة الإخوان المسلمين إبان حكومة الوفد (1942– 1944) بشكل هائل، وتحولت إلى قوة مليونية مستغلة في ذلك ما قامت به من اتفاق غير معلن مع الحزب الحاكم، يتيح لها العمل بحرية في أنحاد البلاد شريطة عدم اللجوء إلى العنف، وفي محاولة من الجماعة لاستيعاب التوسع التنظيمي خلال تلك الفترة، قام البنا باستحداث "نظام الأُسَر" في هيكليتها التنظيمية، وهو نوع من الخلايا التي لا يزيد عدد أعضاء كل منها عن خمسة أعضاء، ويبدو أن مؤسس الإخوان شكل خلال هذه الفترة "النظام الخاص"، أو ما سيعرف خارج الجماعة بـ"الجهاز السري"

"الخازندار" واستهداف القضاة

لم تتورّع جماعة الإخوان المسلمين من أن تمدّ إجرامها إلى القضاء الذي ظل رجاله في محراب العدالة سندا للمصريين جميعاً، وملاذا لهم ينعمون فيه بثقة التقاضي ويطمئنون فيه إلى ضميره الحي، وفي محاولة من الجماعة لإرهاب القضاة عن طريق استهداف علم منهم - "القاضي أحمد الخازندار بك" - وكيل محكمة استئناف القاهرة، الذي حكم بإدانة بعض أعضاء الجماعة لجرائم اقترفوها باستخدام القنابل. 
ولأن نور الشمس يراه حتى من كان به رمد، فسوف نبدأ بشهادة الدكتور عبد العزيز كامل، الذي حضر ما أطلق عليه "محاكمة عبد الرحمن السندي"، عقب مقتل الخازندار، وسطّر في كتابه "في نهر الحياة" شهادته على المحاكمة. 
يقول الرجل تحت عنوان "دم الخازندار" :
"في صبيحة هذا اليوم  - يقصد يوم مقتل القاضي الخازندار في الثاني والعشرين من مارس 1948 - بينما كان المستشار أحمد الخازندار (بك) في طريقه من منزله في حلوان إلى عمله، عاجله اثنان من شباب الإخوان بإطلاق النار عليه فأردياه قتيلا، وأمكن القبض على الاثنين: محمود زينهم وحسن عبد الحافظ. 
وكان للحادث دويّ عميق، تصارعت فيه تيارات فكرية متعددة، فقد أعاد إلى الأذهان مواقف "الخازندار" من قضايا سابقة أدان فيها بعض شباب الإخوان لاعتدائهم على جنود بريطانيين في ناحية الإسكندرية، وحكم على الشابين بالأشغال الشاقة المؤبدة في 22 نوفمبر عام 1947، ولكن أطلق سراحه لعدم كفاية الأدلة، ولم يكن "الخازندار" محبوباً أو حتى موصوفاُ بالحيدة بين الإخوان، فبينما يرون عملهم وطنياً ودينيا، كانوا يرون موقف "الخازندار" موقفا قضائيا متعسفا. 
ولا أود أن أسرد الوقائع كلها هنا، ولكن أود أن أسجّل جلسة خاصة شهدتها في المركز العام للإخوان المسلمين - برئاسة الأستاذ البنا - وحضور النظام الخاص في هذا الموضوع.
وأسجّل هنا ما تعيه ذاكرتي من أحداث هذه الليلة البعيدة. 
وسنرى كيف تتغير المشاهد في الذهن وتعاد صياغتها، ويرويها صاحبها معدلة، وهو يؤمن أنها الحقيقة التي شاهدها، وهذه هي حكمة الشاهدين والأربعة شهود في الإسلام. 
كنت في ربيع عام 1948 مدرسا في معهد المعلمين في أسيوط، وبعد مصرع "الخازندار"، جاءتني رسالة عن اجتماع عاجل مع الأستاذ المرشد في القاهرة، واستأذنت عميد المعهد الأستاذ عبدالعزيز سلامة في السفر، ولم أكن أغيب عن عملي أو أعتذر، ونظر إلىِّ نظرة طويلة، ووافق على السفر في هدوء دون أن يسأل، وإنما طلب منّي أن أحدد أيام الغياب، ولم أستطع فقال: سأحتفظ بخطاب الاستئذان عندي حتى عودتك، وأرجو أن تكون قريبة، وأن تطمئن على الأهل، وكن حريصاً والله معك".
ويستمر الرجل في روايته فيذكر في ص 46: "كان بإحساسه الداخلي - يقصد مدير المدرسة - يشعر أن الأمر متعلق بالإخوان بعد مصرع "الخازندار"، والكل يتحدث ويعلق: القضاة، المحامون، رجال التعليم، ومهما يكن من أمر الآراء التي تشعّبت، فإنها كانت تلتقي عند إدانة الإخوان واستنكار الحادث، فقد كان عدواناً سافراً على القضاء... 
وكانت عودتي إلى القاهرة مفاجأة للأهل، أمي وإخوتي، ولزمت الصمت، وذهبت إلى المركز العام. 
كان الاجتماع في حجرة المكتبة بالدور الثاني، هذه المكتبة التي تبرع بجزء كبير منها سمو الأمير محمد علي توفيق - ولي العهد وقتئذ - على إثر كلمات طيبة من سليمان متولي "بك"، مراقب عام المدارس الأميرية، فأرسلها مكتبة كاملة بخزانات الكتب، وكانت هذه الحجرة بالذات أقرب الحجرات إلى فكري وقلبي، وكم قضيت فيها الساعات قارئاً، باحثاً، أو متحدثا مع أعضاء قسم الأسر.
 ولكن هذه الجلسة كانت ذات طبيعة خاصة، ولعلها من أعمق جلسات الإخوان أثراً في نفسي، ولا زلت أذكر الأستاذ - يقصد الأستاذ حسن البنا - وجلسته، وعليه يبدو التوتر، أراه في حركة عينيه السريعة، والتفاته العصبي، ووجهه الكظيم، وإلى جواره قادة النظام الخاص: عبد الرحمن السندي، رئيس النظام، وكان لا يقل توتراً وتحفزاً عن الأستاذ، ثم أحمد حسنين، ومحمود الصباغ، وسيد فايز، وأحمد زكي، وإبراهيم الطيب، ويوسف طلعت، وحلمي عبد المجيد ، وحسني عبد الباقي، وسيد سابق، وصالح عشماوي، وأحمد حجازي، ومصطفى مشهور، ومحمود عساف. 
كان محور الحديث مصرع المستشار أحمد الخازندار. 
قال الأستاذ: إن كل ما صدر منه من قول تعليقاً على أحكام الخازندار في قضايا الإخوان - لو ربنا يخلصنا منه، أو لو نخلص منه، أو لو واحد يخلصنا منه – 
لاحظ مطلب البنا يوجهه لقائد النظام الخاص عبد الرحمن السندي، معنى لا يخرج عن الأمنية، ولا يصل إلى الأمر، فالأمر محدد وإلى شخص محدد، وهو لم يصدر أمراً، ولم يكلف أحداً بتنفيذ ذلك، ففهم "عبد الرحمن" هذه الأمنية أمراً، واتخذ إجراءاته التنفيذية وفوجئ الأستاذ بالتنفيذ. 
حدثني الصديق الأستاذ مختار عبد العليم المحامي، أن الأستاذ في صلاة العشاء - مساء يوم الحادث - سها في عدد الركعات وصلّى الفرض ثلاث ركعات، وأكمل ركعة السهو، وما أذكر طول صلاتي مع الأستاذ أنه سها مرة، وعلم الأستاذ مختار بهذا ممن كان مع الاستاذ في صلاته. 
وسمعت منه أيضاً أن الدكتور عزيز فهمي المحامي قابله في المركز العام، فوجد الأستاذ جالساَ في حجرة منعزلة، وحيداً واضعاً رأسه بين يديه في تفكير عميق، وألم لم يستطع إخفاءه، وهو ناقم أشد النقمة على الحادث. 
وما أذكر أن الأستاذ عقد مثل هذا الاجتماع طوال حياته في الإخوان بهذه الصورة... 
وكان واضحاً أن الخلاف شديد بين المرشد وعبد الرحمن، فأمام كبار المسؤولين سيبدو إن كان الأستاذ قد أمر، أو أن عبد الرحمن تصرّف من تلقاء نفسه، وفي ماذا؟، في قتل المستشار وتسجيل عدوان دموي على القضاء في مصر؟".
المرشد والسندي يلقيان الاتهام كل على الآخر:
ووجهت حديثي إلى الأستاذ قائلاً:
أريد من فضيلتكم إجابة محددة - بنعم أو لا - على أسئلة مباشرة لو سمحتم. 
فأذن بذلك فقلت:
-  هل أصدرت فضيلتكم أمراً صريحاً لعبد الرحمن بهذا الحادث؟
-  قال: لا 
-  قلت: هل تحمل دم الخازندار على رأسك وتلقى به الله يوم القيامة؟
-  قال: لا 
-  قلت: إذن فضيلتكم لم تأمر ولا تحمل مسؤولية هذا أمام الله.
-  قال: نعم 
فوجهت القول إلى عبد الرحمن السندي، واستأذنت الأستاذ في ذلك فأذن.
-  ممن تلقّيت الأمر بهذا؟
-  فقال: من الأستاذ (يقصد المرشد حسن البنا)
 -  فقلت: هل تحمل دم الخازندار على رأسك يوم القيامة؟
-  قال: لا
-  قلت: وهذا الشباب الذي دفعتم به إلى قتل الخازندار من يحمل مسؤوليته؟
والأستاذ ينكر وأنت تنكر، والأستاذ يتبرأ وأنت تتبرأ.
أمنية المرشد أمر واجب النفاذ :
قال عبد الرحمن: عندما يقول الأستاذ إنه يتمنى الخلاص من الخازندار، فرغبته في الخلاص أمر منه.
-  قلت: مثل هذه الأمور ليست بالمفهوم أو بالرغبة، وأسئلتي محددة وإجاباتيكم محددة، وكل منكما يتبرأ من دم الخازندار، ومن المسؤولية عن هذا الشباب الذى أمر بقتل الخازندار، ولا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يلق الله بدم حرام، هذا حديث رسول الله .
-  ثم قلت له: والآن هل تُترك المسائل على ما هي عليه، أم تحتاج منك إلى صورة جديدة من صور القيادة وتحديد المسؤوليات؟
- قال: (يقصد المرشد العام حسن البنا) لا بدّ من صورة جديدة وتحديد مسؤوليات
واستقر رأيه على تكوين لجنة تضم كبار المسؤولين عن النظام، بحيث لا ينفرد عبد الرحمن برأي ولا تصرف، وتأخذ اللجنة توجيهاتها الواضحة المحددة من الأستاذ، وأن يوزن هذا بميزان ديني يقتضي أن تكون من بين أعضائها – بالإضافة إلى أنها تتلقى أوامرها من الأستاذ – رجل دين على علم وإيمان، ومن هنا جاء دور الشيخ سيد سابق ميزانا لحركة الآلة العنيفة. 
وكانت هذه هي المرة الأولى التي يجلس فيها عبد الرحمن مجلس المحاسبة والمؤاخذة أمام الأستاذ وقيادات النظام، بل لعلها المرة الأولى التي يجلس فيها الأستاذ أيضاً مجلس المواجهة الصريحة أمام نفسه وأمام قادة النظام، إلى الدرجة التي يقول فيها لعبد الرحمن (يقصد حسن البنا) :
- أنا لم أقل لك ولا أحمل المسؤولية
 - وعبد الرحمن يرد:
-  لا أنت قلت لي وتتحمل المسؤولية
ويتبرأ كل منهما من دم الخازندار، ويخشى أمر أن يحمله على رأسه يوم القيامة، وانتهت الجلسة. 
وعدت إلى المنزل....
ولا تعليق منا، فالكلام لا يحتاج إلى تعليق.

شارك