الأنبا يوحنا قلتة.. الانسان هو الحل

الثلاثاء 15/فبراير/2022 - 02:25 م
طباعة الأنبا يوحنا قلتة.. روبير الفارس
 
الأنبا يوحنا قلتة..

علي عكس التيارات الاصولية المتشددة وضع المعاون البطريركي للاقباط الكاثوليك  الانبا يوحنا قلتة (1937- 2022 ) شعار " الانسان هو الحل " وكان يردد دائما  إن أزمة العالم العربى، أنها بلدان تحتقر الإنسان خاصة الفقير والضعيف.

السيرة

ولد كمال ثابت قلتة قرياقص بالقطنة مركز طما محافظة سوهاج في 27/1/1937م والتحق بالاكليريكي طهطا في 2/10/1950 م ودرس الفلسفة واللاهوت وسيم كاهناً في 25/9/1960م علي يد الأنبا اسطفانوس الأول متخذاً اسم الأب يوحنا قلتة وانتدب راعياً لرعية بردنوها مركز مطاي إيبارشية المنيا عام 1960م ثم راعياً بكنيسة السجود بالقاهرة وحصل على ليسانس الدراسات العربية والاسلامية عام 1965م و الماجستير  عام 1972م في موضوع أثر الثقافة الفرنسية في أدب طه حسين، حاز على الدكتوراة من جامعة القاهرة بموضوع دراسة المستشرقين الفرنسيين للأدب العربي عام 1981م وقام بتدريس الأدب الفرنسي بأكاديمية الفنون من عام 1981- 1986م ، وتولى مسئولية الأعلام والصحافة واللجنة المصرية للعدالة والسلام

   ورسم أسقفاً فخرياً لكرسي أندروبوليس ومعاوناً للبطريرك الأنبا إسطفانوس الثاني في 29/8/1986م ونيافة الأنبا يوحنا عمل في مجال الإعلام والصحافة وهو عضو بنقابة الصحفيين وعمل كاتباً بمجلة "الجديد" وله عدة مؤلفات مثل أثر الثقافة الفرنسية في أدب طه حسين ، وأشواك الروح ، والمسيح دعوة للحرية ، والإنسان هو القضية الإنسان هو الحل ، وأرواح جائعة ، وقرية غرب النيل ، والفهرست التحليلي لوثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ، الثالوث الحياة النور الحب ، المسيحية والألف الثالثة ، مذكرات كاهن في الأرياف .

فكره

 وللأنبا يوحنا قلتة، مقالات عديدة في مجلة الصلاح ورسالة الكنيسة وحامل الرسالة وصديق الكاهن وهو عضو اللجنة الأسقفية للحوار المسيحي الإسلام، وعضو باللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط  واشترك في مؤتمر الألفية الثالثة بالأمم المتحدة بنيويورك وألقى محاضرة حول رؤيته كرجل دين مسيحي مصري حول السلام العالمي في أغسطس 2000م  وكذلك اشترك في مؤتمر اللجنة البابوية بروما الخاصة بالثقافة في سبتمبر2000م حيث القى محاضرة بعنوان الدين والحضارة وهو ذو فكر فلسفي عقلاني ومحلل وأديب وفقيه وله خبرة روحية فلسفية عميقة وله علاقات اسلامية وسياسية على أعلى مستوي في الدولة وأغنى الكنيسة بحضوره وتواجده ، وهو راعي كاتدرائية سيدة مصر بمدينة نصر وقدم طلباً بتخليه عن مهامه كمعاون بطريركي لأسباب التقدم في السن وذلك في جلسات السينودس البطريركي المنعقد في الفترة من 27 أغسطس حتي الأول من سبتمبر لسنة 2018م

مذكرات كاهن فى العاصمة

تتلمذ  الأنبا «يوحنا قلتة» المعاون البطريركى للأقباط الكاثوليك علي يد طه حسين لذلك يعشق اللغة العربية ويستخدم ادب السيرة الذاتية للتعبير عن حياته وافكاره وفلسفته وقد اصدر سيرته في جزءين (مذكرات كاهن في الارياف ) و(مذكرات كاهن في العاصمة )  وفي هذه السيرة  يرجع الانبا يوحنا الي جذوره حيث نشأ فى قرية «القطنة» بمركز طما بمحافظة سوهاج و أثر فى حياته أثرا عميقا الجبل الشم الذى يحيط بالقرية وترك جرحا فى خياله مشهد البؤس والفقر في القرية فآثر منذ شبابه أن ينحاز إلى الإنسان المغمور(المهمش ) وانغمس بقوة فى مجال التنمية وتغيير واقع البؤساء بأسلوب هادئ، فقد ظل لمدة 15 عاما مرشدا روحيا لجمعية «الشبيبة العاملة» التى تهتم بالعمال الصغار من عمر 7 إلى 20 عاما، واختلاطه بهذه الفئة المقهورة من المجتمع أمده برؤية إنسانية واسعة وصمم أن يكون العمال الصغار من المسلمين والمسيحيين معا وحقق معهم إنجازات تبدو بسيطة لكنها إنسانية خطيرة مثل الإجازة الأسبوعية والأجر المناسب والالتحاق بالتأمينات الاجتماعية.

 تأتى هذه اللقطات من مذكرات الأنبا يوحنا لتخطف القلب بمشاهد من اليوميات المصرية تمتاز بكون كاتبها هو بالأساس «رجل دين مسيحى» مما يضفى على حكايتها جرأة وطزاجة وعمقا بل وسخرية مريرة ونقداً مجتمعيا حادا.

 وتبدأ المذكرات بوصول الكاهن الشاب إلى محطة العاصمة - لا يكتب الأنبا يوحنا بصيغة الأنا، إنما يتخلى عن ذاته معتبرا نفسه «هو»!! ويستطرد قائلا: «لم يكن الصباح قد نثر أنواره فالساعة لم تتجاوز الخامسة تسلل فى تثاقل من عربة القطار يحمل شنطتين لم يكن يحتاج إلى مساعدة «شيال» لأنه لم يكن يملك مالا يعطيه.. لم ينتظره أحد من أقربائه أو من البطريركية سار بخطوات قلقة مضطربة إلى صحن المحطة هزيلا جائعا تحيط بعينيه هالات سوداء مازال طيف القرية - بردنوها - التى غادرها أمس يطوف بخياله تذكر مشهد الفلاحين والفلاحات.. هؤلاء البشر الذين ظلمهم مجتمعهم وأهلهم فظلوا قرونا طوالا يحلمون بحياة أفضل أشبعتهم ثورة 1952 آمالا وأحلاما حاولت أن تحرك مجتمعاتهم الساكنة الراكدة لكن الثورة شغلت عن فلاحيها بحروب وثورات بقضايا قومية وثورات وتكدست القضايا الوطنية».

 وتدور أغلب أحداث المذكرات فى ستينيات القرن الماضى وعن أيام دراسته بقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية يذكر الأنبا يوحنا زملاءه الأعزاء جابر عصفور وسعد غريب الطنطاوى حامل حقيبة الحلوى من السيد البدوى المتفائل دوما... كانت صحبة عقول وثقافة وطموح ولأن الأنبا يوحنا - مصرى حتى النخاع - فلا تخلو المذكرات من مواقف ساخرة وفكاهات لاذعة لعل أكثرها إثارة ومرح القصة التى أوردها عن القمص بولس بشاى وكان يرعى أقباط قرية القطنة والأغانة والغنائم وجاء فيها. أبونا بولس كاهن عاش حياته قداسة وعطاء، ابتسامته مشرقة تضفى على وجه الرجل العجوز بساطة وبهاء، له مهابة وجلال فى قامته الممتدة وعوده النحيف، وسمار بشرته كلون البلح الصعيدى، غامق اللون، له صوت مميز ولهجة صعيدية، قضى أغلب عمره الكهنوتى فى رعاية غيط العنب بالإسكندرية.

 

ذات مساء والصيف شديد الحرارة، والحى الشعبى يضج بالزحام، أصوات الباعة وصدى مكبرات الصوت، والأغانى، تختلط وتتشابك فلا تدرى إلى أى منها تنصت، طرق بيت الأب بولس ثلاثة رجال من أبناء الحى، قالوا له: من فضلك يا أبونا عندنا جنازة والصوان مزدحم بالمعزين فهل تتكرم بإلقاء عظة، وبالطبع تعلم أن الحضور مزيج رائع من كل الطبقات ومن مسلمين ومسيحيين، وكعادته فى تواضعه، فى وداعته قال لهم: دقائق معدودة وأنزل، قالوا له: إن المتوفى هو الدكتور يوسف وهو ليس من أبناء رعية الكاثوليك ، قال الرجل القديس إنه إنسان انتقل إلى السماء. ارتدى القمص بولس ثيابه، وضع العمة على رأسه «الكلوسة» ولف جسده النحيف بالعباءة أو ما نسميه «الفرَّاجية» بشدة فوق الراء، وانسل وسط زحام الشارع، وصل إلى الصوان الذى أقيم فى قلب الشارع الواسع، وعلقت أربعة ميكروفونات، وعشرات من النجف، فالمتوفى من ميسورى الحال. اتخذ القمص بولس مكانه المعد للكاهن أو للواعظ، وأمامه ميكروفون بجانبه صبى مهمته ضبط الصوت، ولم يلبث القمص أن انتصب واقفا فى جلال وثقة وتقوى وأمسك بالميكروفون، وبدأ بالآية من المزمور 114 ارجعى يا نفس إلى موضع راحتك، تكلم عن الموت، كعودة إلى الأصل والجذور، والمصدر الإلهى الذى انتقلنا منه، وفى كلمات هادئة وأسلوب شعبى بسيط، بدأ يشرح كيف أن الموت انتقال وحياة جديدة. وفجأة تحول إلى ذكر الراحل، لم يكن يعرفه، لم يقابله مرة واحدة، كل ما سمعه أنه طبيب، وأخذ يشرح عظمة الطب، وكرم الراحل فى علاج الفقراء، ثم بدأ يعدد مناقب الراحل وكيف كان يعالجه مجانا ويعالج من يرسلهم إليه، وإذا بالحاضرين يضجون بالضحك، وأخذ الشماس الذى كان حاضرا يشد كم القمص بولس، ويقول له يا قدس أبونا، دا كان طبيب بيطري بيطري والقمص بولس منهمك فى إلقاء العظة الرائعة والناس من حوله من المسلمين والمسيحيين يضحكون وهو يقول وللحقيقة أنه لم يكن يميز فى خدمته بين مسلم وبين مسيحى، فالكل عنده إخوة والشماس يزعق "بيطري بيطري "حتى تنبه القمص بولس أخيرا والتفت إلى الشمال فى هدوء، وفى ابتسامة طيب وإيه يعنى بيطرى، ما هو برضه دكتور عظيم وانتقل الواعظ إلى موضوع علاج الإنسان، وعلاج الحيوان، يكاد يكون واحدا فى أمور كثيرة.. لم يغضب أحد من الحاضرين.. فالقمص بولس بقداسته وبساطته هو الكاهن الورع المحبوب. انتهت العظة وقام بتعزية الأسرة وهو يقول: لا بأس، لا بأس، سأتحقق فى المرات القادمة من مهنة الراحلين. الكاتب أسقف يمتلك حساسية شاعر ونظرة فيلسوف للحياة فنجده يطرح عبر المذكرات عددا من الأسئلة الإنسانية الجريئة. من ذلك:-  عندما سرد قصة الفتى «قرنفيل» والذى كان يذهب إلى الكنيسة ليسرق قربانة ليأكلها ويسأل الكاهن هى دى حرام فيرد: شوف من ناحية هى حرام هى حرام دى سرقة ويرد الفتى: سرقة إيه دا القربنى غنى خالص وعنده بيت وجاموسة ومشارك على أرض من فلوس القربان يعنى لما أخذ قربانة المسيح هيزعل منى ما أظنش. لو المسيح موجود كان وزع القربان على الغلابة الجائعين؟ وعندما ذكر زيارته إلى مدافن الطائفة وطلبات الأقارب أن يصلى من أجل الموتى يقول: وهذا الكاهن ينتقل من مدفن إلى مدفن لمدة ساعة كرر فيها صلاة الموتى تعب شعر بإرهاق تحسس جيبه وجد أن مالا كثيرا داخل جيبه أصابه شعور خليط بين الخجل وبين التساؤل ما معنى كل هذه الطقوس الحزينة الجميلة وما سر علاقتها بالمال؟  وفى جرأة يحسد عليها يكتب قصة العم فخرى الذى مات حماره وطلب منه أن يتوسط له ليتم إقراضه ألف جنيه يشترى حمارا ويقول: فى صمته يسمع الكاهن رنين تليفونه المحمول ارتبك أشد الارتباك مد يده أخرج التليفون كتم صوته شعر بتأنيب ضميره هذا المحمول ثمنه يقترب من ثمن الحمار؟!

الانسان هو الحل

كان الأنبا يوحنا قلته، النائب البطريركى بالكنيسة الكاثوليكية يقول دائما  إن أزمة العالم العربى، أنها بلدان تحتقر الإنسان خاصة الفقير والضعيف، فاحتقار الإنسان هو قضية العالم العربى، فأنا كنت أتألم حينما أرى العساكر فى اليمن الفرد منهم يحمل مدفعا ثقيلا وهو حافى القدمين، لأن الإنسان ليس له قيمة.

فى وجداننا لازلنا نعيش عصر العبودية والعصور الوسطى، فتلك العصور التى سميت بحروب الدين، فليس من حق أحد أن يدعى أنه خليفة الله على الأرض، وليس من حق المسلم أن أو المسيحى أو أى أحد أن يدعى أنه خليفة الله، فمن يظن أن الجنة محجوزة للبعض فهو مخطئ ولا زال يعيش فى عقول العصور الوسطى.

 

وتابع قلته، بفضل العساكر الموجودين على الحدود فى سيناء وغيرها من الحدود المصرية نعيش نحن هنا ونجتمع فى أمن وأمان، لذا نشكر الجيش على آمننا.

العلمانية

وكان الانبا يوحنا يقول العلمانية كلمة ذات سمعة سيئة فى عالمنا العربى، لأنها غير مفهومة، ولكنها تعنى سيادة القانون المدنى، العلمانية لا تحارب الأديان، وليست ضدها، كما أنها لا تقف بين المرء ودينه، أو المرء وربه، كن ما شئت، راهبا أو وليا أو ناسكا، ولكن دع الحياة للقانون الذى ينظمها، الدين لا يدير حياة الناس اليومية، الدين يدير الضمير البشرى.. فى العالم العربى كارثة لا يدركها الكثيرون وهى سيطرة الفكر المتسلط الأصولى فى المسيحية والإسلام. وسأضرب لك مثلاً من صميم الحضارة الإسلامية: فى القرن الرابع الهجرى كان هناك شاعر وصفوه بالفسق والعربدة يدعى «أبونواس»، كان يلقى قصائده الشاذة على الملأ، هل قتله العلماء أو أباح الحاكم دمه؟ لا، لماذا لأنه كان هناك فهم صحيح للدين. كانت هناك حرية

وطالب قلته المرأة المصرية تعليم وتربية  أبنائها على احترام الحرية في العقل والإرادة وكان يقول ان "مصر تحتاج إلى رسالة الداعيات والواعظات للوصول إلى قلب وعقل المرأة المصرية".وان "المرأة المصرية، هي العمود الفقرى للمجتمع والحضارة والإيمان فهي من تزرع بذرة الإيمان في قلب الطفل. ونختتم بقوله  "مصر لن تسقط أبدًا وسيظل المسلمون والأقباط أسرة واحدة شاء من شاء وأبى من أبى".

شارك