بين الترويج للجنة والتحريض على الدم: داعش تعيد تفسير العشر الأوائل
السبت 31/مايو/2025 - 03:02 ص
طباعة

في موسمٍ يزدان فيه الزمان بالقداسة، وتشرئب فيه الأرواح نحو الطهر، تأتي الأيام العشر من ذي الحجة محمّلةً بنفحاتٍ من السلام، ودعواتٍ للتزكية والتقرب إلى الله عبر الصيام والذكر والنسك. هي لحظة إجماعٍ وجداني في الوعي الإسلامي، يتوقف عندها الزمن العنيف، لتفسح السكينة مكانها في القلوب، وينبعث الحنين إلى الكعبة كعلامةٍ على الارتباط الأبدي بالمقدّس الرحيم، لا المقدّس الدامي.
لكن تنظيم "داعش" لا يفوّت موسمًا إلا ويختطفه، ولا زمنًا مباركًا إلا ويُحوِّله إلى محطة للتعبئة والتحريض، كأنما يتقن لعبة قلب المعاني، ويُجيد فن تسميم النور. في افتتاحية عدده الأخير من صحيفة "النبأ"، يستغل التنظيم موسم العشر كمنبر لتمجيد القتل، وشرعنة التفجير، وتقديم سفك الدماء بوصفه "أفضل القربات"، في محاولة لإعادة بعث سرديته المتهالكة عبر "لاهوت دموي" يُعيد تأويل الطاعة على هيئة طعنة، والنسك على هيئة نكبة.
إنها مفارقة قاتلة: حيث يرى المسلمون في هذه الأيام فرصة للتطهر، يرى فيها التنظيم فرصة للثأر. وحيث يستعد الملايين للوقوف بعرفة طلبًا للرحمة، يدفع "داعش" أتباعه للوقوف على أطلال مدنٍ خربها بعنفه، وقد زوّدهم بخطابٍ مسموم يربط بين التفجير والتقوى، وبين القتل والجنة، في نسخة مقلوبة من الدين تنقلب على روحه، وتبتر سياقاته، وتحوِّل أشواق المؤمنين إلى بنزين في خزّانات المفخخات.
بهذا الخطاب، لا يكتفي التنظيم بتشويه الدين، بل يعيد تشكيل العلاقة بين المسلم ومقدساته، بين النسك والنية، بين الشوق والتفجير. يضع القتلة في مقام الحجيج، ويحوّل الصلاة إلى ما يشبه البروفة الأولى للانفجار. إنها محاولة يائسة لإنقاذ ما تبقى من صورة "المجاهد"، عبر تحويل اللحظة الإيمانية الجامعة إلى لحظة استقطاب وقتال، يتصدر فيها "الناسفون" المشهد بدل "الناسكين"، ويُفرض فيها على المقدس أن يفتح أبوابه للدم.
"المقدس" بوابة للدم
تتزامن افتتاحية العدد 497 من صحيفة النبأ التابعة لتنظيم "داعش" والصادر مساء الخميس 29 مايو 2025، مع موسم العشر الأوائل من ذي الحجة، وهي من أكثر المواسم تعظيمًا في الوعي الإسلامي، لما تحمله من معانٍ روحية مرتبطة بالتوبة، والطاعة، والنسك، والتقرب إلى الله عز وجل. يستغل التنظيم هذا التوقيت بعناية، محاولًا توظيف الرمزية الدينية العميقة لهذا الموسم في خطاب تعبوي عنيف، يزعم فيه أن أفضل ما يُقدم فيه من أعمال هو سفك الدماء باسم "الجهاد". هذا التوظيف ليس بريئًا، بل يُعدُّ مدخلًا استراتيجيًا لإعادة إنتاج سرديته الجهادية في لحظة يشعر فيها أتباعه بالحاجة إلى معنى وقيمة في ظل الهزائم والتراجعات.
الخطير في النص أنه لا يكتفي بالتحريض، بل يُجري عملية قلب تام للمعاني؛ إذ يُحوِّل مفردات الطاعة والنسك إلى أدوات تأجيج للعنف. فبينما ترتبط العشر الأوائل من ذي الحجة في الوعي الجمعي المسلم بأعمال مثل الصلاة، والصيام، والذبح، والذكر، يربطها التنظيم بمصطلحات من قاموس الدم: "الطعان"، "الشهادة"، "النكاية"، "القتل"، "المفخخات"، وغيرها. وهو بذلك يُفرغ الشعائر من بعدها التعبدي الداخلي ويُعيد ملأها بمضمون عسكري صرف، يكرّس الانخراط في العنف بوصفه التعبير الأسمى عن التقوى. إنها مفارقة قاتلة: من السكينة إلى السكين، من الذبيحة كقربان إلى تحويل الإنسان نفسه إلى "أضحية" تُفجَّر بين الأبرياء.
تحضر هذه الافتتاحية في لحظة تراجع استراتيجي للتنظيم، خاصة بعد خسارته لكثير من معاقله ومصادر تمويله التقليدية. ومن هنا، يبدو النص وكأنه محاولة لإعادة ضخ الحياة في المشروع "الداعشي" عبر بعث الرمز الجهادي الذي شكّل مركز ثقله منذ تأسيسه. يتوسل النص لحظة العشر المباركة كي يُعيد تقديم الجهاد بوصفه ذروة سنام الإسلام، بل و"أفضل من كل عمل"، في رسالة ضمنية لأتباعه بأن لا جدوى من بقية الطاعات إن لم تُترجم إلى قتل. هذا التماهي بين الإيمان والقتل هو ما يعكس محاولة يائسة لترميم المعنويات المنهارة وإقناع الأتباع بأن خسائر الأرض تعني بالضرورة فتحًا في السماء.
السياق الذي يعمل فيه الخطاب هنا لا يقتصر على الزمن والمكان، بل على بنية خطابية أعمق تسعى لخلق "مقدس بديل" يُشرعن استمرار القتال في وجه العالم. إذ يعمد التنظيم إلى إعادة ترميز الحج والنسك بوصفهما ليسا مقامات روحية، بل محطات جهادية لا تتحقق إلا بالسلاح، فيجعل الطريق إلى الكعبة يمرّ عبر الدم، لا الطائرة، ويحوّل الأشواق إلى المقدسات إلى صواريخ ومفخخات. في هذا السياق، يصبح القتل نفسه طقسًا تعبديًا، بل التعبد الأصدق في نظرهم، وهو ما يُمثل قطيعة تامة مع الإسلام وروحه، ويكرّس مفهوما هجينًا من "الإيمان القاتل" الذي لا يمكن فصله عن شروط بقائهم الرمزية والمادية.
تحليل الدلالات
يعتمد تنظيم داعش في هذا النص على الحديث النبوي الشريف: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام", ليبدأ عملية تأويلية تتسم بالانتقائية والاقتطاع من السياق. بدلًا من إبراز أبعاد الحديث في تعظيم الطاعات كالصلاة والصيام والصدقة، يتم تحويل دلالته إلى حقل القتال والموت، باعتبار أن "أفضل" الأعمال هو القتال، و"أكمل" مراتب الطاعة هي العمليات الانتحارية. هذه القراءة المنحرفة للحديث تُحوِّل العبادة إلى معركة، وتُلبس العمل الصالح لباس القتل، مما يُعيد إنتاج ترسانة التأويل العنيف للنصوص الدينية لصالح مشروع التنظيم.
يُقدِّم النص المجاهد الداعشي بوصفه النموذج الأعلى للإيمان، والرجل الكامل الذي "خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء"، في استعارة مباشرة من الحديث النبوي، ولكن ضمن قراءة أحادية تضع المجاهد فوق كل صور التدين الأخرى. في المقابل، يظهر المسلم العادي الذي يصوم ويصلي ويحج بوصفه متقاعسًا أو غير فاعل في "نصرة الدين". بهذا الخطاب، يختطف التنظيم مفهوم "الفداء" ويحتكره، جاعلًا من الانتحاري والمفخخ بطلًا دينيًا، بينما يتم تهميش المتدين السلمي وتحقيره باعتباره خارج منظومة "الجهاد الحق".
في هذا النص، لا يعمل التنظيم فقط على استثمار قدسية الأيام العشر، بل يفرغها من مضمونها الروحي، ليحولها إلى ساحة تعبئة وتحريض. فبدل أن تكون هذه الأيام فرصة للتزكية والسمو الروحي، تصبح موسمًا للتفجيرات والعمليات المسلحة. إن إعادة تشكيل الفضاء التعبدي بهذه الطريقة تمثل اعتداءً مزدوجًا: على قداسة الزمن الديني من جهة، وعلى حرمة الفعل الإيماني الفردي من جهة أخرى. يُحوِّل النص الجوامع إلى ساحات تجنيد، والأحاديث النبوية إلى نشرات حرب، ويُنتج في النهاية خطابًا لا يحتمل السلام بوصفه خيارًا إيمانيًا.
تكمن الدلالة الأعمق في استبدال التنظيم لشعيرة الحج، بما تحمله من معاني السلام والتجرد والتوحيد، بـ"زحف القتال"، وهو استبدال رمزي وجوهري. لم يعد الطواف بالكعبة أو الوقوف بعرفة هو الطريق إلى التقرب، بل الزحف نحو مواقع التفجير والموت. هذا الانزياح لا يمس فقط طبيعة الحج كركن من أركان الإسلام، بل يُعيد تشكيله كخطاب حربي، حيث يُصبح الطريق إلى "البيت الحرام" ليس من خلال الطاعة بل من خلال "صوت الراجمات". إنها دلالة تُعيد ترسيم الخرائط الدينية بمعايير دموية، وتفكك الرابط بين المقدسات والسلام.
أخطر ما يطرحه النص في نهايته هو عملية "اختطاف للشوق"، وهي واحدة من أرقى المشاعر الدينية لدى المؤمن، وتحديدًا الشوق إلى الكعبة أو المسجد الأقصى، وتحويل هذا الشعور الإيماني الصادق إلى وقود للتفجير. يستخدم النص شعارات من قبيل: "أطفئوا لظى الشوق إلى المقدسات بوصل المفخخات وصلي الراجمات"، وهي عبارة تُجسد لحظة الذروة في تحويل المشاعر الروحية إلى أدوات للقتل، في تلاعب فادح بالمفاهيم يجعل من الحنين إلى الله مبررًا للقتل باسم الله، ويؤسس لما يمكن وصفه بـ"الوجد الجهادي الدموي".
من الجهاد إلى الجريمة
تسعى الافتتاحية إلى تثبيت شرعية داعش بوصفه الممثل الأسمى "للإسلام الحق"، من خلال مواءمة عملياته المسلحة مع شعائر دينية كبرى كالحج والعشر من ذي الحجة. في هذا السياق، يتم تطويع الرمز الديني، ليس فقط لإضفاء الشرعية على التنظيم، بل لمنح قتاله قداسة موازية للنسك التعبدي، بل متفوقة عليه. بهذا، يتحول خطاب داعش إلى ما يشبه "لاهوت الدم"، حيث تصبح عمليات التفجير والقتل طقوسًا لها مقام العبادة نفسها، بل أعلى منها أحيانًا، ما يمنح التنظيم غطاءً دينيًا زائفًا لممارساته الإرهابية.
ينزاح النص بشكل واضح من الإسلام الشامل والمتعدد الطاعات، إلى اختزاله في صورة واحدة فقط: الجهاد القتالي. فالصلاة، والصيام، والحج، وحتى الزكاة، كلها تُقدَّم كأعمال ثانوية مقارنة بـ"الجهاد في سبيل الله" الذي لا يُراد به هنا إلا حمل السلاح وتفجير النفس. هذا الترتيب القيمي الجديد يُسقط عن بقية العبادات وزنها الروحي، ويُفرغ الإسلام من تنوعه وأبعاده الأخلاقية، ليُعاد اختزاله في بندقية ومتفجرات، ويُقدَّم للمخاطَبين كدين لا يتحقق إلا في ساحات القتال.
تحمل الافتتاحية دعوة صريحة ومباشرة للمجاهدين المنفردين، خاصة أولئك القابعين في الدول الغربية، وتحثهم على "استغلال موسم العشر" في تنفيذ "الهجمات تلو الهجمات". لا تُبقي الدعوة على مستوى العموم، بل تدخل في تفاصيل عملياتية: خطف، اغتيال، تفجير. هذه اللغة التحريضية تخاطب مشاعر "الواجب المؤجل" لدى أتباع التنظيم المترقبين، وتمنحهم غطاءً دينيًا للقتل العشوائي، بوصفه امتدادًا للنسك، لا نقيضًا له. وهذا يكشف أن الوظيفة الدعائية للنص لا تقتصر على التعبئة الروحية بل تشمل التحريض العملياتي المباشر.
من الرسائل الأكثر خطورة في النص أنه يُحقِّر شعيرة الحج بطريقة غير مباشرة، من خلال تصويرها بوصفها شعيرة "ناقصة" إن لم تقترن بالقتال. لا يعود الحج هدفًا روحيًا قائمًا بذاته، بل يتحول إلى محطة مؤجلة لا تستحق السعي إذا كانت دون "الجهاد". والأسوأ أن النص يعيد تأويل العاجز عن الحج – سواء بسبب المال أو الجغرافيا أو المنع – على أنه "المجاهد المحاصر"، ما يعني أن مَن يظل في ساحة المعركة هو أولى بالطاعة من مَن يذهب إلى الكعبة. إنها إعادة هندسة للمقاصد الشرعية تُنتج مبررًا دينيًا للبقاء في معسكر القتال بدل السعي إلى البيت الحرام.
يقيم الخطاب بنية حادة للفرز بين "المؤمن الحق" و"العدو"، بحيث لا يترك أي مساحة وسطى. فمَن لا ينخرط في مشروع التنظيم – مسلمًا كان أو غير مسلم – يصبح إما متخاذلًا، أو مُهادنًا، أو مرتدًا، أو حتى هدفًا مشروعًا للقتل. هذه الثنائية تُنتج بيئة فكرية مغلقة، لا تعترف بالاختلاف، ولا تحتمل التعدد، بل تحوّل كل الخارجين عن خطاب التنظيم إلى خصوم يجب التخلص منهم. بهذا، يُغلق النص دائرة العنف: فحتى التديّن السلمي يصبح موضع شك، وحاملُه مشروع ضحية مستقبلية. إنها وظيفة دعائية تهدف إلى بناء جماعة مغلقة، معسكرة، لا تعيش إلا بالصراع ضد الآخر.
الآثار النفسية والاجتماعية والسياسية
الخطاب الذي تتبناه افتتاحية "النبأ" يُحدث صدمة وجدانية لدى فئتين من المتلقين: فمن جهة، يُغذي في نفس المتطرف نزعة البطولة الزائفة ويُضخم لديه الشعور بالتميز الديني، عبر ربط العنف بالثواب والخلود، ما يخلق حالة من النشوة العدوانية الممزوجة بالقداسة. ومن جهة أخرى، يُدخل المتلقي المسلم العادي – الذي يتمسك بتدين سلمي – في حالة من الحيرة والاضطراب، إذ يجد أمامه نصًا دينيًا مموهًا بلغة شرعية لكن محشوًا بفكرة القتل والدم، ما يُنتج شعورًا بالعجز أو القرف أو الشك في صلاحية الخطاب الديني عمومًا.
ينتج هذا النوع من الخطاب مناخًا اجتماعيًا ملوثًا بالتوجس والانغلاق، حيث يُعاد رسم الحدود داخل المجتمع المسلم بين "المجاهد الحقيقي" و"المسلم الناقص" أو "المتهاون". تنشأ نتيجة ذلك فجوات عميقة في الثقة المجتمعية، إذ يتحول الخوف من التطرف إلى خوف من التدين عمومًا، ما يُضعف الروابط الاجتماعية ويُغذي عقلية الشك والتربص المتبادل. في النهاية، تصبح المجتمعات أكثر قابلية للتفتت والتنافر، خاصة حين يزدهر خطاب تكفيري يُجرّم كل مظهر من مظاهر التعدد أو الاختلاف.
من الناحية السياسية، يُعد هذا الخطاب تهديدًا مباشرًا لمفهوم الدولة الحديثة، لأنه يُلغي فكرة المواطنة ويفرض منطقًا بديلًا قائمًا على الولاء للجماعة المسلحة لا للكيان الوطني. فالدولة – في هذا التصور – إما مرتدة أو متآمرة أو "دار كفر"، ولا مجال للتعامل معها إلا من موقع العداء والمواجهة. كما يُجهز النص على أي أفق للتسوية أو السلم الأهلي، ويُعيد إنتاج مفردات الحرب المفتوحة، ليس فقط مع الغرب أو "الطواغيت"، بل مع كل من لا ينضوي تحت لواء التنظيم، بما في ذلك مسلمو الداخل.
من أخطر آثار هذا الخطاب أنه يُعيد تشكيل علاقة المسلم بالشعائر والرموز الكبرى. فالحج لم يعد غاية، بل وسيلة مؤجلة لصالح "المعركة الأهم"، والجهاد لم يعد مفهوماً أخلاقيًا أو دفاعيًا، بل غاية بذاتها خارج أي إطار شرعي مؤسسي. هذا يعيد برمجة الضمير الديني لدى بعض المتلقين، فينقلب الترتيب القيمي بين الطاعة والسلوك، ويختلط الفرض بالمندوب والمستحب بالمحرّم، وتُفقد الشعائر معناها التعبدي لصالح معناها التعبوي، ما يُهدد بتحوّل الدين من مصدر للسكينة إلى أداة للتحريض والفوضى.
الافتتاحية في جوهرها ليست خطابًا تعبويًا فحسب، بل تمثل لحظة من لحظات "تسليع المقدّس"، حيث تُستخدم المفاهيم الدينية كأدوات نفسية لدفع الناس نحو الموت لا نحو الحياة. هذا النمط من الخطاب يُفرغ الإسلام من مضمونه الأخلاقي والإنساني، ويحوّله إلى منظومة قتل مغلّفة بآيات وأحاديث، ما يجعل مقاومته ليست مجرد معركة فكرية، بل معركة على روح الإسلام ذاته. إن الخطر لا يكمن في أفعال التنظيم فقط، بل في قدرته على تفخيخ النصوص وإعادة تصديرها لجمهور مأزوم، يحتاج لمن يرشده، لا لمن يقتاده نحو الموت باسم الدين.
خاتمة:
إن مثل هذه الافتتاحيات لا تُكتب عبثًا، ولا تُنشر على هامش ماكينتهم الإعلامية، بل تُعدّ بعناية لتؤدي وظيفة مركزية في استراتيجية التنظيم: صناعة المقاتل المؤدلَج. فحين يُعاد تعريف موسم تعبدي عظيم كالعشر من ذي الحجة ليغدو ساحة افتراضية للتعبئة القتالية، فإننا أمام عملية تجنيد ناعمة، تُخاطب العاطفة الدينية وتُغلفها بخطاب بطولي، لا يستدعي العقل ولا يسمح بالتفكير، بل يُغري بالانخراط السريع في مشروع الموت.
هذا النوع من الخطاب يُعيد تشكيل وعي الشباب في البيئات الهشة، حيث تنعدم البدائل الفكرية، وتضعف المناعة الدينية، ويصبح النص المُقدّس عُرضة للسطو. ومن خلال الاستثمار في لحظات الصفاء الروحي، يزرع التنظيم بذورًا تُثمر لاحقًا في مقاتلين جدد، يحملون في صدورهم نسخة مشوهة من الإسلام، يظنونها الحق كلّه، بينما هي محض هذيان تدميري يُغذيه الفقر، والاغتراب، والجهل.
ولعل الأخطر في هذا المسار، هو قدرة التنظيم على إضفاء طابع طقوسي على العنف، فيبدو التفجير طقسًا تعبديًا لا يقل مكانة عن الصلاة والصوم، ويغدو القتل فعل قربى، يُكافأ عليه بالرضا الإلهي. وهنا تتجاوز المسألة حدود التحريض، لتصل إلى إعادة بناء منظومة دينية موازية، تُنتج أتباعًا لا يتورعون عن الفتك بأقرب الناس إليهم، ما دام "التكليف الشرعي" قد صدر من مصدره المفترض.
إن السماح لهذا الخطاب بالتكاثر دون مواجهة، يعني القبول بزحف بطيء للتطرف داخل بنية التدين الشعبي. فليس الخطر في المنفذين فقط، بل في البيئة التي تتشرّب هذه الأفكار على نحو غير واعٍ، وتعيد تدويرها في صيغٍ أقل عنفًا ولكن لا تقل خطورة. لذلك، فإن تفكيك هذا الخطاب، وكشف منطقه المقلوب، وتحطيم هالته الزائفة، هو جهاد من نوع آخر، لا يُخاض بالسلاح، بل بالكلمة، والوعي، والجرأة على تسمية الأشياء بأسمائها.