شرق الكونغو بلا دولة: "23 مارس" تبسط سيطرتها وتعيد تشكيل التركيبة السكانية

الأربعاء 04/يونيو/2025 - 02:34 ص
طباعة شرق الكونغو بلا دولة: حسام الحداد
 
تشهد منطقة شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية موجة تصعيد جديدة في الصراع المعقّد والممتد منذ سنوات، مع استمرار توسع نفوذ حركة "حركة 23 مارس" المسلحة وسعيها لترسيخ سيطرتها على مدينة جوما ومحيطها. ففي الوقت الذي تروج فيه الحركة لنفسها كقوة بديلة قادرة على فرض الاستقرار ومكافحة الفساد الذي تتهم به حكومة كينشاسا، تشير الوقائع الميدانية إلى عجزها عن ضبط الأوضاع الأمنية وتزايد الانتهاكات بحق المدنيين. وتواجه جوما منذ سقوطها بيد الحركة مطلع العام الجاري حالة من الفوضى وارتفاعًا في معدلات الجريمة، وسط اتهامات لـ"حركة 23 مارس" بتجنيد قسري وعمليات قمع تستهدف كل من يُشتبه بولائه للسلطات الرسمية.
في هذا السياق، تبرز ممارسات أخرى تزيد من تعقيد المشهد، أبرزها ترحيل آلاف اللاجئين الروانديين قسرًا إلى بلادهم، في خطوة أثارت انتقادات واسعة من الحكومة الكونغولية ومنظمات حقوقية، وُصفت بأنها محاولات لتغيير ديمغرافي تحت غطاء أمني. وبينما تدّعي "حركة 23 مارس" أن هذه العمليات تستهدف عناصر مرتبطة بميليشيات معادية، ترى كينشاسا أن ما يجري يُعد تطهيرًا عرقيًا ممنهجًا، يفضح الوجه الحقيقي لحركة تسعى للسيطرة دون امتلاك أدوات الحكم الرشيد أو احترام القانون الدولي. هكذا، تجد "حركة 23 مارس" نفسها في مواجهة اختبار سياسي وأخلاقي حاسم، قد يحدّد مستقبل حضورها في المشهد الكونغولي المضطرب.

حركة 23 مارس تكثّف هجماتها لتأمين معاقلها الاستراتيجية
كثّفت حركة "حركة 23 مارس" المتمردة، المدعومة من رواندا، عملياتها العسكرية في مقاطعة شمال كيفو شرقي الكونغو الديمقراطية، مستهدفة المقاتلين الموالين للحكومة في تصعيد لافت خلال الأسابيع الأخيرة. وتركّزت المعارك بشكل خاص ضد ميليشيا "وازاليندو" الموالية للسلطات الكونغولية، وعناصر يُشتبه بانتمائهم إلى "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" (FDLR)، وهي جماعة مسلحة من الهوتو تعارض النظام الرواندي، وذلك في محيط منتزه فيرونغا الوطني ومنطقة روتشورو، منذ أواخر مارس 2025.
وشهدت مشيخة بويتو، غرب روتشورو، أعنف موجات التصعيد، حيث شنّت حركة 23 مارس هجمات منسقة على أربع مناطق ذات كثافة سكانية عالية منذ 14 مايو الجاري، في محاولة لاستعادة مواقع استراتيجية سبق أن فقدتها هناك.
ويرجّح مراقبون أن التصعيد الأخير يهدف إلى تطهير المنطقة من الميليشيات الموالية للحكومة الكونغولية، وتأمين خطوط الإمداد الحيوية التي تمر عبر روتشورو، والتي تُعدّ مركز ثقل عسكريًا ولوجستيًا للحركة منذ عودتها إلى الواجهة أواخر عام 2021.
وقبل هذا التصعيد، كانت الحركة قد أحكمت سيطرتها على أجزاء من أربع مجموعات قروية داخل مشيخة بويتو، وعلى نحو 20% من سكان منطقة تونغو. إلا أن تقليص وجود حركة 23 مارس في المنطقة خلال عام 2024، سمح للميليشيات الحكومية بإعادة التمركز ومهاجمة مواقع الحركة بشكل متكرر، ما دفع الأخيرة إلى تصعيد هجماتها لاستعادة نفوذها.

هجمات مضادة وتأمين لوجستي: 
صعّدت حركة "حركة 23 مارس" المتمردة من عملياتها العسكرية في مشيخة بويتو، مستهدفة بشكل خاص فصيل "وازاليندو" المنتمي إلى عرقية الهوتو، والذي سبق له تنفيذ هجمات ضد مواقع الحركة في منطقتي روتشورو وجوما. وتشير التقديرات إلى أن هذه الهجمات تأتي كردّ فعل على عمليات شنّها تحالف "حركات التغيير – قوات الدفاع عن الشعب" (CMC-FDP)، أحد أبرز مكونات تحالف وازاليندو، الذي نفّذ هجومًا واسع النطاق على مدينة جوما في 12 أبريل الماضي، مستخدمًا أسلحة خفيفة وثقيلة في محاولة فاشلة لاستعادة السيطرة على العاصمة الإقليمية.
وتصف مؤسسات بحثية متخصصة في النزاع بشرق الكونغو تحالف CMC-FDP بأنه فصيل متطرف من الهوتو، يشكّل جزءًا أساسيًا من تحالف وازاليندو، ويحتفظ بعلاقات وثيقة مع "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" (FDLR)، وهي جماعة معارضة للنظام الرواندي. من جهتها، زعمت حركة 23 مارس أن قوات FDLR شاركت بشكل مباشر في الهجوم على جوما.
وردًا على ذلك، شنت حركة 23 مارس هجمات متكررة على مقاتلي CMC-FDP في مناطق متفرقة من مشيخة بويتو أواخر أبريل وخلال شهر مايو ، في محاولة لتفكيك التحالفات المحلية المعادية لها وتأمين مناطق نفوذها الحيوية.
ويبدو أن الهجوم على هذه الفصائل يهدف كذلك إلى تأمين خطوط الإمداد الحيوية لحركة حركة 23 مارس في منطقتي روتشورو وماسيسي، لا سيما عبر السيطرة على طريق RP1030 الاستراتيجي، الذي يربط مشيخة بويتو بالمناطق الجنوبية والشمالية من ماسيسي. وتُعد السيطرة على هذا الطريق مسألة حاسمة في قدرة حركة 23 مارس على نقل القوات والمعدات العسكرية، وتقييد تحركات الميليشيات الموالية للحكومة، التي كثيرًا ما نصبت كمائن عرقلت إمدادات الجماعة المتمردة.
وتسعى حركة 23 مارس من خلال هذه العمليات المتصاعدة إلى تعزيز تواصلها الجغرافي والعسكري بين معاقلها في غرب روتشورو وامتداداتها في ماسيسي، ما يشير إلى تحوّل في تكتيكات الحركة باتجاه تحصين نفوذها على الأرض وتوسيع مجال عملياتها اللوجستية.

حملة تطهير وقمع في جوما: 
في خطوة مثيرة للجدل، شنّت حركة "حركة 23 مارس" المتمردة حملة اعتقالات واسعة النطاق في مدينة جوما، عاصمة إقليم شمال كيفو، خلال شهر مايو ، استهدفت من تصفهم بـ"الموالين للحكومة الكونغولية" في إطار مساعٍ لتثبيت سيطرتها على المدينة ومحيطها. وطالت العمليات آلاف المدنيين، بينهم شباب في سن القتال، إضافة إلى جنود وضباط شرطة ومقاتلين يشتبه في انتمائهم إلى ميليشيا "وازاليندو" و"القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" (FDLR).
ونُفذت الحملة بين 10 و13 مايو في عدد من الأحياء المكتظة في جوما وبلدة ساكي المجاورة، تحت ذريعة البحث عن مسلحين ومشتبه بهم. وأكد رئيس الحركة، برتراند بيسيموا، عبر منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، أن العمليات تهدف إلى "تأمين جوما" واستعادة الأسلحة التي زعمت الحركة أن الحكومة الكونغولية وزّعتها على المدنيين.
بحسب ما أعلنته حركة 23 مارس، أسفرت الحملة عن مصادرة أكثر من 1700 قطعة سلاح واعتقال نحو 300 شخص، من بينهم أفراد في قوات الأمن الكونغولية ومسلحون مرتبطون بميليشيات محلية. كما قامت الحركة بترحيل آلاف المدنيين إلى داخل الأراضي الرواندية، فيما قالت الحكومة الكونغولية إن حركة 23 مارس اختطفت نحو 4000 مدني "بناءً على اشتباهات خاطئة" بارتباطهم بالجماعات المسلحة أو الجيش النظامي.
وتحدثت منظمة العفو الدولية، في تقرير صادر أواخر مايو ، عن احتجاز تعسفي وتعذيب لمشتبه بهم داخل مراكز احتجاز "لاإنسانية" ومكتظة في جوما، منذ أن سيطرت حركة 23 مارس على المدينة في يناير الماضي، في انتهاك واضح للقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان.
ويزيد هذا التصعيد من تعقيد المشهد الأمني والإنساني في شرق الكونغو، ويعكس سعي حركة 23 مارس لفرض قبضتها بالقوة على المناطق الخاضعة لسيطرتها، في ظل تنديد دولي متصاعد بانتهاكاتها المتكررة.

انفلات أمني وترحيل قسري: 
منذ سيطرتها على مدينة جوما، عاصمة إقليم شمال كيفو، في أواخر يناير 2025، تواجه حركة «حركة 23 مارس» تحديات متزايدة في فرض الأمن، وسط تصاعد الاتهامات بانتهاك حقوق الإنسان وتنفيذ عمليات ترحيل قسري للاجئين الروانديين.
تشير تقارير إعلامية محلية ودولية إلى تصاعد معدلات الجرائم العنيفة في جوما والمناطق المجاورة، مع تراجع قدرة الحركة المتمردة على ضبط الأمن. واضطرت «حركة 23 مارس» إلى تجنيد الشباب بشكل قسري، والسعي إلى دمج عناصر من الجيش الكونغولي والشرطة المحلية ضمن صفوفها، في محاولة لاحتواء التدهور الأمني.
ويرى مراقبون، بينهم مركز مكافحة الإرهاب، أن عجز «حركة 23 مارس» عن فرض النظام يعكس فشلها في تقديم نفسها كبديل فعّال لحكومة كينشاسا، التي تتهمها الحركة بـ«الفساد» و«سوء الإدارة». ويعزو هؤلاء الخبراء هذا الانفلات إلى اختلاط مقاتلي مجموعات موالية للحكومة، مثل «وازاليندو»، بالمدنيين، مما أدى إلى تصاعد جرائم القتل والنهب.
وفي موازاة الأزمة الأمنية، تتعرض «حركة 23 مارس» لانتقادات متصاعدة على خلفية عمليات ترحيل قسري للاجئين الروانديين المقيمين في جوما وساكي. فوفقًا لتقارير أممية وإعلامية، أعادت الحركة منذ 17 مايو ما لا يقل عن 1800 لاجئ إلى رواندا، بعضهم يشتبه بانتمائهم أو ارتباطهم بـ«القوات الديمقراطية لتحرير رواندا» المعارضة لحكومة كيغالي.
وتعتبر الحكومة الكونغولية هذه الإعادات القسرية بمثابة «مطاردة منظمة» تستهدف المدنيين، وتتهم «حركة 23 مارس» بمحاولة تغيير التركيبة السكانية في المناطق التي تسيطر عليها. وفيما ترى الحركة أن المرحّلين يمثلون تهديدًا أمنيًا، يرى مراقبون أن ما يجري يندرج ضمن سياسة تطهير عرقي مغلفة بخطاب أمني.
هذه التطورات تضع «حركة 23 مارس» في موقف حرج على الساحة الدولية، وتثير الشكوك حول قدرتها على ممارسة الحكم الرشيد، وتعزز المخاوف من أن تتحول مناطق نفوذها إلى بؤر جديدة لانتهاكات حقوق الإنسان وانعدام الاستقرار. 

تفكك الدولة وتضخم الميليشيات:
تُظهر التطورات الميدانية في جوما ومحيطها أن حركة حركة 23 مارس، رغم توسع نفوذها العسكري، لم تنجح في التحول إلى سلطة حاكمة تمتلك أدوات إدارة مدنية أو قدرة على توفير الأمن والخدمات الأساسية. فبدلًا من تقديم نموذج بديل للحكم الرشيد، مارست الحركة سياسات قمعية، وعمليات ترحيل قسري، وتجنيدًا قسريًا للشباب، في مشهد يعيد إنتاج منطق الجماعات المتمردة التي تحكم بقوة السلاح لا بشرعية الدولة. ويبدو أن حركة 23 مارس تسير في طريق تقويض ما تبقى من مؤسسات الدولة في شرق الكونغو، لا بنائها أو تعويضها.
كما أن لجوء حركة 23 مارس إلى حملات تطهير أمني واعتقالات جماعية، فضلًا عن عمليات إعادة قسرية للاجئين، يثير القلق من انتهاكات ممنهجة ترتقي إلى جرائم حرب. فاستهداف أفراد على أساس عرقي أو انتماء محتمل لفصائل مسلحة معادية، دون سند قانوني أو إجراءات قضائية عادلة، لا يعبّر عن محاولة فرض الأمن بقدر ما يعكس عقلية الانتقام وترسيخ منطق السيطرة بالقوة. هذه السياسات ستزيد من حدة الانقسام المجتمعي وتعزز خطاب الكراهية، وتعيد إشعال النزاعات العرقية التي لطالما كانت وقود الحرب في الكونغو.
من جهة أخرى، تعكس هذه الفوضى الأمنية والعسكرية فشل الدولة الكونغولية في فرض سيادتها على كامل أراضيها، وتركها فراغًا قاتلًا ملأته عشرات الميليشيات، بما فيها حركة 23 مارس. فبينما تنشغل الحكومة المركزية في كينشاسا بصراعات سياسية داخلية، تتحول جوما ومحيطها إلى مسرح مفتوح لصراع إقليمي معقّد، تتداخل فيه أطراف داخلية وخارجية، من ميليشيات محلية إلى جماعات مرتبطة برواندا وأوغندا، وسط صمت دولي نسبي وانشغال العالم بأزمات أخرى.

التوقعات المستقبلية: 
من المرجح أن تستمر حركة حركة 23 مارس في تكثيف عملياتها لتوسيع رقعتها الجغرافية وربط خطوط إمدادها بين روتشورو وماسيسي، خاصة في ظل غياب ردع إقليمي حقيقي أو ضغوط دولية حاسمة. ومع استمرارها في سياسات إعادة تشكيل التركيبة السكانية وفرض "أمنها الخاص"، قد تواجه مقاومة شعبية متزايدة، إضافة إلى تصعيد من ميليشيات موالية للحكومة مثل وازاليندو وCMC-FDP، ما ينذر بتصاعد المواجهات المسلحة في الأشهر المقبلة.
كما أن مستقبل جوما كمدينة رئيسية مهدد بفقدان دورها الإداري والاقتصادي، ما سيزيد من معاناة المدنيين ويعزز من موجات النزوح واللجوء، خاصة إذا استمرت حركة 23 مارس في استهداف الفئات العمرية القابلة للتجنيد وتضييق الخناق على المعارضة الاجتماعية. هذا الوضع يهدد بانهيار النسيج المدني في المدينة، ويجعل من أي عملية إعادة إعمار أو مصالحة مستقبلية أمرًا بالغ التعقيد.
وفي حال استمرار الدعم غير المعلن الذي تتلقاه حركة 23 مارس من أطراف إقليمية، وتحديدًا من رواندا، ستتجه الأوضاع نحو مزيد من التدويل، وقد تفتح الباب أمام اشتباكات أوسع بين القوات الكونغولية وحلفائها الإقليميين من جهة، وحلفاء حركة 23 مارس من جهة أخرى. وفي ظل عجز بعثة الأمم المتحدة عن فرض الأمن، ستكون أي تسوية سياسية حقيقية رهينة بتفاهمات إقليمية شاملة تشمل كينشاسا وكيغالي وأطرافًا أخرى.
أما على المدى البعيد، فإن استمرار هذه الحلقة من العنف والتشظي قد يُنتج نسخة مكررة من "دولة داخل الدولة" في شرق الكونغو، تدار بعقلية أمنية ميليشياوية، وتُغذى بالاقتصاد غير الرسمي والتهريب. وفي غياب حل سياسي جذري يُعالج جذور النزاع ويُعيد الاعتبار للدولة المدنية، فإن شرق الكونغو يبدو ماضٍ نحو مزيد من الانهيار، لا الاستقرار.

شارك