من إفريقيا إلى أوكرانيا .. دراسة تكشف اتساع رقعة النزاعات المسلحة وارتباطها بالإرهاب المتصاعد

الخميس 12/يونيو/2025 - 09:36 ص
طباعة من إفريقيا إلى أوكرانيا أميرة الشريف
 
كشفت دراسة جديدة صادرة عن معهد أبحاث السلام في أوسلو، ونقلتها وكالة الصحافة الفرنسية، أن عام 2024 شهد أكبر عدد من النزاعات المسلحة منذ عام 1946، مسجلاً 61 نزاعاً في 36 دولة، متجاوزاً الرقم القياسي الذي سُجل في عام 2023، حيث بلغ عدد النزاعات آنذاك 59 في 34 دولة. 

هذه الأرقام، التي تمثل مؤشراً صادماً على تدهور النظام الدولي، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن العالم دخل في مرحلة خطيرة من العنف المتصاعد والانقسام الحاد، وسط تصاعد وتيرة الإرهاب وغياب ردع دولي فعّال.

وأوضحت الباحثة سيري آس روستاد، المعدّة الرئيسة للتقرير الذي يغطي الفترة الممتدة من عام 1946 وحتى 2024، أن هذا التصعيد في عدد النزاعات لا يمكن اعتباره ارتفاعاً مؤقتاً أو عرضياً، بل هو بمثابة تحول هيكلي في بنية العلاقات الدولية، ويعكس حالة متفاقمة من فقدان السيطرة على أدوات الصراع، وانهيار الوساطات التقليدية، وتفكك الأطر الدبلوماسية التي كانت تضع حدًا للانفجارات العنيفة بين الدول أو داخلها.

الواقع الميداني يرسم صورة قاتمة، إذ إن أكثر من نصف الدول التي شملتها الدراسة تعاني من نزاعين أو أكثر في الوقت ذاته، ما يعني أن الجغرافيا السياسية باتت تعج ببيئات ملتهبة، مرشحة لمزيد من التدهور والانفجار. 

في هذا السياق، تبرز إفريقيا كأكثر القارات تضرراً، حيث شهدت 28 نزاعاً على مستوى الدول، تليها آسيا بـ17 نزاعاً، ثم الشرق الأوسط بـ10 نزاعات، فيما سجلت أوروبا 3 نزاعات والأميركيتان نزاعين.

الخطير في هذه الأرقام ليس فقط العدد، بل التداخل بين هذه النزاعات وبروز أطراف من غير الدول، لا سيما الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، التي باتت حاضرة بقوة في مختلف بؤر التوتر، مستغلة الفوضى الأمنية لتوسيع نفوذها، وتنفيذ عمليات نوعية تزيد من تعقيد المشهد. 

فالإرهاب لم يعد مجرد نتيجة للنزاعات، بل أصبح جزءاً من محركاتها الأساسية، وعاملاً فاعلاً في إعادة رسم الخرائط السياسية والاجتماعية للمنطقة المتضررة.

ففي إفريقيا، على سبيل المثال، لعبت التنظيمات الإرهابية مثل “بوكو حرام” و”داعش في غرب إفريقيا” و”حركة الشباب” في الصومال دوراً محورياً في تعميق الأزمات المحلية، وتحويلها من نزاعات سياسية إلى حروب مفتوحة على أسس طائفية وعرقية وأيديولوجية. 

وقد ساعد ضعف الحكومات، وانشغالها بصراعات داخلية، على خلق فراغات أمنية ضخمة مكّنت هذه الجماعات من التمدد، وتهديد الاستقرار الإقليمي والدولي.

وبالتوازي، لم تختلف الأوضاع كثيراً في آسيا والشرق الأوسط، حيث تسود بيئة خصبة للإرهاب والتطرف العنيف. 

فقد ساهمت الحروب المزمنة، مثل تلك الدائرة في سوريا واليمن، إلى جانب التوترات المستمرة في العراق ولبنان وأفغانستان، في إعادة إحياء نشاط جماعات مثل “القاعدة” و”داعش”، التي تعيد بناء نفسها بصمت مستغلة غياب الحلول السياسية، وانشغال المجتمع الدولي بأزمات أخرى أكثر بروزاً في الإعلام الغربي.

ولا يمكن إغفال البعد الدولي في هذه الفوضى المتصاعدة، حيث أكدت الدراسة أن 2024 شهد مقتل نحو 129 ألف شخص جراء المعارك المسلحة، وهو رقم يضع هذا العام في المرتبة الرابعة ضمن الأعوام الأكثر دموية منذ نهاية الحرب الباردة عام 1989. 

وقد تركزت أعداد القتلى في أوكرانيا نتيجة الحرب الروسية، وفي قطاع غزة بسبب الحرب الإسرائيلية المتواصلة، إضافة إلى الاشتباكات العنيفة في إقليم تيغراي الإثيوبي.

هذه النزاعات الثلاثة تحديداً تمثل نماذج فاضحة لفشل المجتمع الدولي في التدخل المبكر، وغياب الرؤية الاستراتيجية لدى القوى الكبرى. في أوكرانيا، يواصل الصراع حصد الأرواح، في ظل عجز الوساطات الدولية عن التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة. 

وفي غزة، تنفجر الكارثة الإنسانية بلا هوادة وسط تعنت سياسي وفقدان الحد الأدنى من التضامن العالمي. أما في تيغراي، فإن الصراع المسلح الذي اندلع قبل سنوات، ظل مهمشاً على جدول أولويات المجتمع الدولي، رغم أن تداعياته تجاوزت إثيوبيا ووصلت إلى جوارها الإقليمي.

وفي خضم هذا المشهد القاتم، حذرت روستاد من أن الوقت ليس مناسباً للانعزالية أو الانكفاء على الداخل، مشيرة بوضوح إلى سياسات “أمريكا أولاً” التي يلوّح بها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، والتي تعني فعلياً انسحاب الولايات المتحدة من المسرح الدولي، وتخليها عن مسؤولياتها التاريخية في قيادة النظام العالمي. 

وأكدت أن التخلي عن التضامن العالمي، في هذه المرحلة الدقيقة، لن يؤدي سوى إلى زعزعة الاستقرار الذي ساهمت واشنطن نفسها في ترسيخه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويأتي هذا التحذير في وقت تتصاعد فيه دعوات الانسحاب من الحروب، والتقليل من التدخلات الخارجية، وهو ما يبدو جاذباً لكثير من الشعوب المتعبة اقتصادياً بعد جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا. 

لكن ما تغفله هذه الدعوات أن ترك الساحة فارغة يعني بالضرورة تسليمها لقوى متطرفة، سواء كانت إرهابية أو انفصالية أو حتى أنظمة سلطوية تستغل الفوضى للتمدد والبطش.

ويري مراقبون أن تفشي النزاعات على هذا النحو، وارتباطها العضوي بالإرهاب، يفرض على المجتمع الدولي – لا سيما القوى الكبرى – أن تعيد التفكير في أدواتها التقليدية لحفظ السلم والأمن الدوليين، فالاكتفاء بالتصريحات، وترك الأزمات تتفاقم، لم يعد يجدي. المطلوب اليوم هو تحرك دولي منسق، يعيد الاعتبار للدبلوماسية الوقائية، ويستثمر في بناء السلام، ويواجه الإرهاب لا بالشعارات بل بالاستراتيجيات طويلة المدى.
 تقرير معهد أوسلو لا يضعنا أمام أرقام مجردة، بل يكشف عن مسار خطير يتجه إليه العالم، حيث يتداخل العنف المسلح مع الإرهاب، وتغيب الحلول، وتغلق النوافذ أمام التسويات، وإذا استمر هذا الاتجاه دون تدخل حاسم، فإن المستقبل القريب قد يحمل المزيد من الحروب، والمزيد من الضحايا، والمزيد من الفوضى.

شارك