الشماتة العقائدية: داعش تستغل صراع إيران وإسرائيل لتعبئة أتباعها
الجمعة 20/يونيو/2025 - 04:22 ص
طباعة

في عددها رقم 500 الصادر مساء الخميس 19 يونيو 2025، تُواصل صحيفة النبأ، الذراع الإعلامية لتنظيم داعش، بث خطابها العقائدي المتشدد، من خلال افتتاحية تفيض بالتحريض الطائفي والتحليل المضلل للواقع السياسي والعسكري في المنطقة. وتأتي هذه الافتتاحية في لحظة تشهد تصاعدًا في التوترات بين إيران وإسرائيل، خصوصًا بعد الضربات المتبادلة بين الطرفين على خلفية التطورات في سوريا ولبنان، وهو ما وظفته "النبأ" لتجديد مواقفها القديمة على ضوء مستجدات الصراع الإقليمي.
السياق الزمني والسياسي
صدرت افتتاحية النبأ في لحظة فارقة تشهد اشتعالًا متصاعدًا في التوتر بين إيران وإسرائيل، خصوصًا بعد الضربات النوعية التي استهدفت مواقع نووية وقادة بارزين في الحرس الثوري. هذا المشهد الجيوسياسي المعقد، والذي يطرح تساؤلات حول موازين القوى في المنطقة ومستقبل الصراع، تحوّل في خطاب داعش إلى فرصة دعوية تعبويّة لإحياء سرديته حول "المعسكرين المتصارعين على حرب الإسلام"، حيث تصف الافتتاحية هذا الاشتباك بأنه "صراع بين مشروع دولة اليهود الكبرى ومشروع دولة فارس الكبرى"، في إصرار على تجاهل تعقيدات الواقع وتحويله إلى ثنائية عقدية مغلقة.
تُمعن الافتتاحية في تجاهل العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة، متجنبةً أي حديث مباشر عن الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني أو معاناة المدنيين. بل أكثر من ذلك، فهي تنظر إلى الصراع الدائر من زاوية "مصلحة المشروع الداعشي"، فتقول: "فرحنا باقتتال اليهود والرافضة وخسائرهما المتبادلة في هذه الحرب، فرح مشروع بتضرر عدوين رئيسين للإسلام". هذا الخطاب يكشف بوضوح أن التنظيم لا يرى في فلسطين قضية تحرر، بل مجرد ساحة اختبار لولاء الآخرين، ووسيلة لإدانة من لا ينتمي لمشروعه التكفيري، حتى وإن كان يقاوم الاحتلال.
ما تسميه الافتتاحية بـ"الفرح المشروع" ليس إلا تبريرًا شماتة طائفية موغلة في الانتقام العقائدي. ففي أكثر من موضع، تبرر الصحيفة الابتهاج بمقتل قادة إيرانيين، ليس لانتصار للمسلمين، بل لأنهم "قادوا الحرب ضد المسلمين في العراق والشام بالتحالف مع الروم الصليبيين"، وفق تعبيرها. هذا التوظيف للحدث يُعبّر عن موقف عقائدي متطرف يُغلّب الثأر الطائفي على أي شعور بالعدالة أو الإنصاف، ويحوّل السياسة إلى تصفية مذهبية بحتة، تُبارك فيها الدماء إن كانت على "الطريق الصحيح" وفق منظومة التنظيم.
في حين أن كثيرًا من المسلمين يتعاملون مع القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة، ترى الافتتاحية في هذا التعاطف انحرافًا عن "عقيدة التوحيد"، وتقول صراحة إن "تقديس هؤلاء للمحور الإيراني سببه تقديس القضية الفلسطينية وجعلها فوق مقام الإسلام لا تبعًا له". هذا الاتهام لا يستهدف الإيرانيين وحدهم، بل كل من يرى في فلسطين رمزًا جامعًا للمسلمين. وهنا تتجلى أخطر جوانب الخطاب الداعشي، حيث يتم نزع الشرعية عن مشاعر الانتماء إلى الأمة الإسلامية الأوسع، لصالح عصبية ضيقة قائمة على الطاعة الفكرية والولاء العقائدي الصارم، في تفكيك مباشر لوحدة المسلمين التي يدّعي التنظيم الدفاع عنها.
الرسائل المسكوت عنها
الافتتاحية تخفي وراء خطابها الظاهري عدة رسائل ضمنية وخطيرة اهمها:
تبرير العنف الداخلي تحت غطاء “الفوضى النافعة”
بين السطور، تدعو الافتتاحية إلى استغلال ما تسميه بـ"الفرصة التاريخية" الناتجة عن انشغال إيران وإسرائيل بصراعهما، وذلك ليس لتخفيف المعاناة عن المدنيين أو كسب مساحة سياسية للمسلمين، بل لتصعيد ما تصفه بـ"الجهاد في كل الصعد"، من الإمداد إلى الاستقطاب والتجنيد. تقول الصحيفة نصًا: "يجب على المسلمين المسارعة إلى استغلال الفوضى الناجمة عن هذه الحروب في مضاعفة الجهاد على كل الصعد...". هذا الخطاب لا يوجّه للكيانات السياسية أو الجيوش، بل يُخاطب قواعد التنظيم وذئابه المنفردة، محرضًا على التحرك داخل الفوضى لا ضدها، وفي غياب أي مرجعية شرعية سوى التنظيم نفسه.
ثمّة محاولة خبيثة لإعادة تفعيل "دينامية الحرب"، باعتبارها أداة تجديد للوجود الداعشي، من خلال بث فكرة أن هذه الصراعات تتيح بيئة خصبة للعمل السرّي، ما يعني عودة التحريض على العمليات النوعية، لا ضد "اليهود" أو "الرافضة" فقط، بل في الداخل الإسلامي ذاته، حيث يعتبر التنظيم أن من لم يُبادر بـ"الجهاد" في هذه اللحظة قد خذل الإسلام وضيّع السنن. هذا النوع من الدعوة يندرج ضمن ما يسميه الفكر الجهادي بـ"حالة الاستنفار الفردي"، التي يُبنى عليها كثير من عمليات الذئاب المنفردة عالميًا.
محو فلسطين كقضية جامعة وتحويلها إلى أداة للفرز العقائدي
تكشف الافتتاحية عن موقف عدائي غير مباشر تجاه القضية الفلسطينية ذاتها، حين تصف مناصريها بأنهم "جعلوا قضية فلسطين فوق مقام الإسلام لا تبعًا له". هنا، يتم انتزاع فلسطين من موقعها كقضية جامعة للمسلمين على اختلاف مشاربهم، وتحويلها إلى "اختبار ولاء" لا تُقبل فيه إلا قراءة التنظيم، وهو ما يمهد عمليًا لتكفير من يتبنى خطابًا مقاومًا وطنيًا أو غير جهادي سلفي، حتى وإن كان ضد الاحتلال.
الأخطر أن الصحيفة تهاجم "تقديس" فلسطين، وكأن حب القضية أو الدفاع عنها خارج منطق "التوحيد" يُعدّ انحرافًا عقديًا. تقول: "هؤلاء القوم قد أسلموا الرافضة وانخرطوا في محاورهم... إذْ أنه لمّّا غاب ميزان الإسلام من حياة هؤلاء... جعلوا قضية فلسطين ميزانًا ومقياسًا لتزكية الأفراد والجماعات بغض النظر عن دينهم أو مناهجهم". بهذا المنطق، لا تتحول القضية الفلسطينية إلى مجال جامع، بل إلى ساحة لإقصاء من لا يدخل تحت راية التنظيم، في تشويه صريح لمعاني العدل والحرية والتحرير، واستبدالها بميزان الولاء العقائدي الصارم.
إحياء خطاب “الطائفة الممتنعة” لتبرير استهداف الخصوم
من خلال هجومها المتكرر على مَن ساندوا المحور الإيراني أو تحمسوا لأي دور مقاوم لحزب الله أو حماس، تُعيد النبأ تفعيل إحدى ركائز الخطاب الداعشي وهي "الطائفة الممتنعة"، أي الجماعة التي يُتّهم أفرادها بالردّة لأنها تمتنع عن تطبيق الشريعة الكاملة أو تعترف بشرعية أنظمة أو فصائل أخرى. تقول الافتتاحية: "انخدع كثير من أهل القبلة بإيران ومحورها... ومن لم يدرك ذلك فقد ضل الطريق إلى القدس"، في إشارة ضمنية إلى أن مجرد التعاطف مع محور إيران يُعدّ خروجًا عن الصراط المستقيم.
هذا النوع من الخطاب يُشرعن مسبقًا أي عمليات قادمة ضد الفصائل الفلسطينية أو الإسلامية التي لا تتفق مع عقيدة التنظيم، بل يضعها في موقع "العدو الداخلي"، الأخطر من العدو الخارجي، مما يفتح الباب أمام استهداف مساجدهم ومقارهم ومؤيديهم كما حصل سابقًا في العراق وسوريا. وهو بذلك يُعيد إنتاج منطق أن "المرتد أخطر من الكافر الأصلي"، لتبرير دماء المسلمين ما داموا ليسوا على النهج الداعشي.
صناعة انتصارات وهمية كمحاولة للهروب من الهزيمة الذاتية
تعمد الافتتاحية إلى تصوير النزاع الإيراني-الإسرائيلي على أنه انتصار مباشر للمسلمين، دون أن يكلّفهم شيئًا. تقول: "إنّ فرحنا باقتتال اليهود والرافضة وخسائرهما المتبادلة في هذه الحرب، فرح مشروع..."، وهي رؤية انتقائية ونفعية تستند إلى منطق "عدو عدوي هو فرصة"، دون أي اعتبار للمآسي والدماء والدمار المصاحب لتلك الحروب، لا سيما في الساحات التي تشمل مدنيين أبرياء في لبنان وغزة وسوريا.
اللافت أن التنظيم لا يرى نفسه فاعلًا في هذا السياق، لكنه يستثمر في خسائر الآخرين ليصنع منها مكاسب وهمية، في تعويض نفسي عن هزائمه المتكررة وفقدانه لمناطقه السابقة. هذه "الشماتة المؤدلجة" تتحول إلى استراتيجية لإعادة تأهيل معنويات أتباعه، وكأن كل حدث كارثي في المنطقة، طالما لم يمسّهم مباشرة، هو انتصار مبين. وهكذا يعيد التنظيم إنتاج سرديته القديمة: "نحن المنتصرون ولو من وراء ستار".
دلالات الخطاب الطائفي والدعوة للفرز
تتسم الافتتاحية بطابع طائفي فجّ، لا يكتفي بوصف إيران بأنها خصم سياسي أو حتى عدو ديني، بل تصفها بوضوح بأنها "دولة رافضية كافرة"، وتؤكد أن أتباعها "محاربون لنا، والِغون في دمائنا، معادون لصحابة نبينا صلى الله عليه وسلم". هذه الصياغة لا تهدف فقط إلى تحديد العدو، بل إلى تعبئة أتباع التنظيم على أساس كراهية مطلقة، تُجرّم المذهب قبل السلوك، وتؤسس لفرز طائفي يبرر القتل الجماعي تحت راية "العقيدة الصحيحة". وهكذا، تتحول الخصومة السياسية مع إيران إلى صراع وجودي لا تسويات فيه، وهو جوهر الخطاب الداعشي.
وفي تصعيد لافت، تنقل الافتتاحية مركز الخطر من "اليهود" إلى "الرافضة"، إذ تقول: "أحدهما أشدّ كفرًا، والثاني أشد خطرًا". هذه المعادلة تعني ضمنًا أن خطر إيران ليس في عقيدتها فقط، بل في قابليتها لخداع المسلمين السُّنة وادعاء نصرة فلسطين. وبهذا، لا يعود اليهود وحدهم العدو التقليدي، بل يصبح الإيرانيون أشد خطرًا لأنهم "يتسللون" إلى وعي المسلمين، بينما لا ينخدع أحد – حسب زعمهم – باليهود. بهذا المنطق، يُعاد إنتاج فكرة أن "العدو القريب" أخطر من "العدو البعيد"، وهي قاعدة استخدمتها التنظيمات الجهادية سابقًا لتبرير استهداف المسلمين قبل غيرهم.
وكذلك تُظهر الافتتاحية احتقارًا صريحًا لكل مَن استُشهدوا في سبيل القضية الفلسطينية خارج سياق التنظيم. تقول نصًا: "لا تجد في قضية فلسطين قتيلاً واحدًا لم ينل مرتبة الشهادة، يستوي عندهم في ذلك المسلم والمرتد والكافر، بل حتى من الجيش الأحمر الياباني الذي كتبوا على قبور جنوده في جنوب لبنان 'شهداء'!". هذا الطعن الساخر في مفاهيم الشهادة كما تُفهم لدى قوى المقاومة أو الشعوب، يعكس إصرار داعش على احتكار تعريف "الموت المشروع". فالشهادة، وفق منطقهم، لا تُمنح إلا لمن يموت تحت رايتهم، ويؤمن بنسختهم الحصرية من "التوحيد"، ما يعني أن كل أشكال النضال الأخرى لا قيمة لها، مهما كان الثمن.
كما يتبنى التنظيم في الافتتاحية خطابًا يقوم على الفصل التام بين من هم "معه" ومن هم "ضده"، لا وفق الولاء السياسي أو الميداني، بل وفق الفرز العقائدي الحاد. فتصف من تعاطف مع محور إيران أو دعم قوى مقاومة فلسطينية بـأنه "انخدع وانخرط وذاب في معسكراتهم". هذا لا يعني نقد المواقف، بل إصدار حكم ديني وأخلاقي على الأشخاص، يُخرجهم من جماعة المسلمين ضمنيًا. وبهذا، لا يعود الانتماء للأمة الإسلامية قائمًا على العقيدة الجامعة أو المشروع التحرري، بل على الاصطفاف الكامل مع التنظيم. كل ما عداه هو "باطل"، بل و"ارتداد" يستوجب الاستهداف والعقاب.
الافتتاحية كأداة تعبئة وتجنيد
تُقدّم الافتتاحية الصراع الدائر بين إيران وإسرائيل بوصفه "فرصة سانحة" يجب ألا تُفوّت، وتدعو بشكل صريح إلى استغلال الفوضى الناجمة عنه. تقول: "في الشأن الميداني العملياتي، يجب على المسلمين المسارعة إلى استغلال الفوضى الناجمة عن هذه الحروب، في مضاعفة الجهاد على كل الصُعد...". هذا التحريض لا يخاطب دولة أو تنظيم بالمعنى التقليدي، بل هو توجيه مباشر إلى الأفراد والخلايا الصغيرة، بما في ذلك الذئاب المنفردة، لتكثيف النشاط القتالي في الفجوات الأمنية والسياسية التي تخلّفها هذه الصراعات. وهذا ما يجعل الافتتاحية أداة تحشيد فعّالة وليست فقط بيانًا عقائديًا.
تُلمّح الافتتاحية إلى ضرورة رفض كل الاصطفافات القائمة في المنطقة، سواء كانت مع "المحور الإيراني" أو "المعسكر الغربي"، وتدعو المسلمين إلى "الانحياز التام إلى معسكر الإسلام وقوامه التوحيد والجهاد"، كما ورد نصًا. هذا الخطاب لا يدفع فقط إلى الرفض، بل إلى تشكيل حراك مستقل عن كل المعادلات السياسية الإقليمية، مما يعيد تفعيل النموذج الداعشي في أذهان أتباعه باعتباره "الطريق النقي الوحيد"، في مقابل ما يُقدّمه من وصف للمحاور الأخرى على أنها إما كافرة أو مخدوعة أو مبدّدة للولاء العقائدي.
في عدة مواضع، تُكرّس الافتتاحية خطاب الريبة تجاه كل مَن يدعم فلسطين من خارج عباءة التنظيم، وتصف ذلك بأنه "انخداع كثير من أهل القبلة بإيران ومحورها"، وتتهمهم بأنهم "ذوّبوا أنفسهم في معسكرات الباطل". هذه العبارات لا تهدف فقط إلى عزل الآخرين فكريًا، بل تُسهم في تفكيك الشعور الجمعي بالانتماء للقضية الفلسطينية، وتحويلها إلى مساحة مشبوهة. وهكذا تُستخدم القضية لا كهدف للتحرير، بل كسلاح دعائي للطعن في خصوم التنظيم، ووسيلة لزرع الشك لدى قواعده حول شرعية أي فصيل أو دولة تدّعي الدفاع عن فلسطين خارج منطق "الجهاد الداعشي".
لا تقف الافتتاحية عند التحليل أو التنظير، بل تتحول في بنيتها إلى ما يشبه "المانيفستو الجهادي"، خاصة حين تُخاطب القارئ بصيغة الأمر المباشر: "فخذوا بالأسباب واعقلوها وتوكلوا، فإنْ لم تبادروا بادر عدوكم"، مما يؤكد أنها موجهة لتحريك أفراد وليس فقط بناء رأي عام. وتضيف تحذيرًا ضمنيًا من تفويت الفرصة: "لأن السنن لا تحابي، والنصر لا يأتي بالتمني". هذا النمط من الخطاب يهدف إلى تحفيز الانخراط العملي، لا الاكتفاء بالتعاطف العقائدي، في رسالة صريحة لكل من يقرأ الصحيفة بأن عليه اتخاذ خطوة فورية في مشروع التنظيم، ولو من موقعه الفردي.
دور هذا الخطاب في تنامي التطرف والإرهاب
الافتتاحية لا تتحدث عن صراع سياسي عابر أو مواجهات مرحلية، بل تؤطر الواقع كله ضمن خطاب نهاية العالم. فالحرب بين إيران وإسرائيل، في نظر التنظيم، ليست سوى "مكر من الله بأعدائه، واشتداد في دورة الصدامات بينهم". هذا التوصيف يُخرج الأحداث من سياقها الواقعي ويضعها ضمن سردية كونية، حيث "الله يخطط، والسنن تعمل، والحسم قريب"، ما يغذي قناعة لدى أتباع التنظيم بأنهم يعيشون "المرحلة الأخيرة"، حيث يختلط الدين بالتاريخ بالدم. وبهذا، يصبح كل فعل عنيف -مهما كان وحشيًا- جزءًا من معركة كبرى مقدسة لا تخضع لأحكام العقل أو القانون أو الأخلاق.
في نصٍّ طويل يتجاوز الألف كلمة، لا تذكر الافتتاحية أي دعوة لإنقاذ الأبرياء في غزة، ولا تعترف بأي اعتبار سياسي أو إنساني للمقاومة الفلسطينية إذا لم تكن على نهج التنظيم. بل تذهب إلى ما هو أبعد من التجاهل، حين تصف مناصري فلسطين من خارج "معسكر التوحيد" بأنهم "نبذوا شريعة الله واتخذوا موازين أخرى للحكم على الأشياء، فجعلوا قضية فلسطين مقياسًا لتزكية الأفراد والجماعات"، في تزييف صريح للوعي الديني وتحويله إلى مسطرة عقدية تُقدّم الانتماء الفكري على نصرة المظلوم، وعلى تحرير الأرض، بل وعلى حق الحياة ذاته.
بعيدًا عن مهاجمة "الرافضة" و"اليهود"، يخصص التنظيم حيزًا واضحًا من خطابه للطعن في تيارات سنية أخرى، وخصوصًا من وصفهم بـ"دراويش الإخوان أشياع إيران"، في تعبير يشي بالازدراء ويؤسس لفرز داخلي خطير داخل الطيف الإسلامي السنّي. هذا النمط من الخطاب ليس موجهًا فقط لإقصاء المختلف، بل لتحقير فكره والطعن في دينه، ومن ثم تهيئة القاعدة الفقهية لاستباحة دمه. فالإخوان المسلمون، والمقاومون الفلسطينيون، والناشطون الإسلاميون القوميون أو الوطنيون، يُقدَّمون هنا كخونة حقيقيين، بل كـ"مرتدين متواطئين"، ما يُعيد إنتاج منطق "العدو القريب أولى بالاستهداف من العدو البعيد".
الافتتاحية ليست نصًا تأمليًا أو تنظيريًا فحسب، بل نص عملي يُنتج أثرًا مباشرًا في من يستهلكه. فالدعوة إلى "مضاعفة الجهاد في كل الصُعد" و"عدم تفويت الفرصة، لأن السنن لا تحابي والنصر لا يأتي بالتمني"، تشكّل نداءً تعبويًا مباشراً للفعل الفردي. وفي ظل تفكك الهيكل التنظيمي لداعش بعد خسائره الميدانية، يعتمد التنظيم اليوم على نمط "التحفيز غير المركزي"، حيث يُدفع الأفراد للتصرف من تلقاء أنفسهم استجابة لخطاب يُغذّي فيهم الشعور بالحرب الدائمة، والعزلة، والتكليف الشرعي الشخصي. وهذا ما يجعل مثل هذه النصوص أخطر من البيانات العسكرية أو الفتاوى الرسمية، لأنها تعبئ القلوب وتُطلق الأيدي.
التلاعب بالمصطلحات الدينية لتزييف الوعي
تُظهر الافتتاحية كيف يُعاد توظيف المفاهيم الإسلامية الكبرى – مثل "التوحيد" و*"الجهاد"* و*"الشهادة"* – في سياق دعائي مغلق، لا يسعى لإحياء معانيها الأصلية بقدر ما يبتغي احتكارها وتفريغها من بعدها الروحي والإنساني. فعلى سبيل المثال، تُستخدم عبارة "معسكر الإسلام وقوامه التوحيد والجهاد" في مقابل كل مشروع وطني أو مقاوم، ما يعني أن أي تحرك لا يصدر عن عقيدة داعشية صِرفة يُعد باطلًا أو منحرفًا. هذه الازدواجية تمنح التنظيم سلطة دينية مطلقة، حيث يُحدّد وحده من هو "الموحّد"، ومن يستحق "الشهادة"، ومن يُستباح دمه تحت لافتة "الردة"، وهو تلاعب بالمقدسات يهدف إلى صناعة شرعية زائفة للعنف.
تُكرّس الافتتاحية منطق أن الانتماء إلى الإسلام لا يُقاس بالإيمان أو الفعل، بل بالولاء المطلق للتنظيم ومنهجه. فيُوصف من يدعم فلسطين من خارج هذا النهج بأنه "اتخذ من القضية ميزانًا لتزكية الأفراد والجماعات بغضّ النظر عن دينهم أو مناهجهم". هذه العبارة تكشف كيف يتحول المفهوم الديني إلى أداة فرز عقائدي: فـ"التوحيد" ليس وحدانية الله، بل اعترافٌ ضمني بأحقية التنظيم؛ و"الجهاد" ليس مقاومة الاحتلال، بل تنفيذ ما تقرره قيادة التنظيم؛ و"الشهادة" لا تُمنح لمن يُقتل في سبيل المظلومين، بل لمن يموت تحت راية داعش. هذا الاستخدام الأداتي للمصطلحات يفضي إلى خلق جيل مشوش الوعي، يرى أن الحقيقة لا توجد إلا تحت سلاحه، وأن ما سواه باطل وكفر.
توظيف الحرب النفسية عبر خطاب “الشماتة العقائدية”
تعتمد الافتتاحية على أسلوب شماتة عقائدية صارخة، تُقدَّم على أنها "فرح مشروع بتضرر عدوين رئيسين للإسلام". لكنها في جوهرها، توظيف دعائي للحرب النفسية، يُراد منه تغذية شعور بالنشوة لدى أتباع التنظيم، في لحظة يُعاني فيها من الانكماش الميداني والانحسار الجغرافي. فعندما تقول: "عادوا يُقتلون بنفس الطائرات الأمريكية التي شكلت من قبل غطاءً جويا لحشودهم في الموصل وغيرها، والجزاء من جنس العمل", فهي لا توثق حدثًا بقدر ما تروّج لفكرة أن الأعداء يُهزمون دون أن يُقاتَلوا، وأن الله يتولى الانتقام نيابة عن التنظيم، مما يُعمّق الإحساس بالعناية الإلهية الحصرية لديهم ويعوضهم نفسيًا عن غياب الإنجاز العسكري المباشر.
في سردها لما تسميه "سقوط قادة الفرس" و"ضرب طهران في عقر دارها"، لا تتعامل الافتتاحية مع الوقائع كحقائق سياسية أو عسكرية، بل تُحوّلها إلى لحظات انتصار ديني خالص، يُخاطب الوجدان العقائدي أكثر من العقل التحليلي. هذه النبرة الشامتة تُستثمر لتضليل الأتباع وبث الوهم بأن أعداءهم يُصفّون واحدًا تلو الآخر في سلسلة عقاب رباني، دون الحاجة لخوض معارك حقيقية. وهنا يكمن خطر هذا الخطاب، إذ يُفرغ الفعل الجهادي من مضمونه الواقعي، ويحوّل "الشماتة" إلى بديل نفسي عن الفعل، ما يخلق جيلًا مؤدلجًا يرى في كل نكبة للآخرين انتصارًا شخصيًا له، دون أن يشارك فيها أو يكلّف نفسه ثمنًا.
التنكر الكامل لمفهوم الأمة الإسلامية الجامعة
تُبرز الافتتاحية موقفًا صارمًا يرفض أي تعبير عن وحدة أو تلاحم بين المسلمين لا يتجسد في إطار "معسكر التوحيد والجهاد" الذي تمثله داعش. فهي تصف حركات المقاومة التي تنتمي إلى توجهات وطنية أو قومية أو حتى إسلامية غير جهادية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، حماس، أو حزب الله، بأنها "انحراف عن عقيدة التوحيد" و"ذوبان في معسكرات الباطل"، مما يعني إلغاء شرعيتها الدينية والسياسية. هذا الخطاب لا يعيد إنتاج خلاف عقائدي فحسب، بل يُرسّخ طائفية مفرطة داخل الفضاء السني ذاته، حيث تصبح كل مقاومة خارج إطار داعش لا قيمة لها، بل وتُعدّ خيانة.
من خلال هذا الموقف المتصلب، يُقدّم التنظيم نفسه كـ"الأمة الوحيدة" الحقيقية، التي تمثل الإسلام الخالص. هذه الهيمنة المزعومة لا تُفسر فقط على أنها تطرف فكري، بل تشكل استراتيجية لتبرير العنف ضد المسلمين المختلفين معه، وتجريدهم من صفاتهم كمسلمين شرعيين. الافتتاحية تؤكد أن "لا يحق لأحد أن يخيّرنا بين معسكر اليهود ومعسكر الرافضة فهما سيّان"، وفي ذات الوقت تغلق الباب أمام أي تحالف أو تواصل مع حركات إسلامية أخرى، معتبرة أن الولاء الحقيقي لا يكون إلا لـ"الخلافة" أو التنظيم فقط. وهكذا، يُمحى مفهوم الأمة الجامعة لصالح تنظيم جهادي أحادي الصوت يُفرط في الطائفية والانغلاق.
خاتمة:
افتتاحية العدد 500 من صحيفة النبأ ليست مجرد مقال، بل هي بيان تعبئة أيديولوجي وتنظيمي خطير، يعيد تأكيد الهوية القتالية لداعش في لحظة تراجع نفوذها الميداني. وهي تعكس أيضًا مأزق التنظيم الذي لم يعُد يمتلك زمام المبادرة، فراح يُراهن على تفكك خصومه الطائفيين لتحقيق مكاسب معنوية.
إن تحليل مثل هذه النصوص ضرورة، ليس فقط لفهم الخطاب الجهادي، بل لمواجهة التطرف بالمضاد الفكري، وكشف تناقضاته، وفضح منطقه الدموي المغلف بالشعارات الدينية، خاصة حين يحاول التسلل إلى المزاج العام مستغلاً قضايا عادلة كفلسطين.
"إن خطاب النبأ لا يعكس قوة التنظيم، بل مأزقه: مأزق العزلة، وانعدام التأثير، والارتهان لتفسيرات متكلسة للصراع. هو خطاب يائس يتغذى على الفوضى، لا يبني مشروعًا ولا يؤسس لعدالة، بل يحرق ما تبقى من جسور بين المجتمعات الإسلامية وبين معاني الدين الرحيمة، في سبيل بناء سردية لا ترى في الآخر إلا مرتدًا، ولا في العالم إلا ساحة قتال."