منبر التوحش: كيف يروّج داعش للعنف باسم الإخلاص؟

الجمعة 27/يونيو/2025 - 04:48 م
طباعة منبر التوحش: كيف حسام الحداد
 
جاءت افتتاحية العدد 501 من صحيفة النبأ، الذراع الإعلامية لتنظيم داعش، في 27 يونيو 2025، بالتزامن مع حلول رأس السنة الهجرية، وهي مناسبة تحتفي بها الشعوب الإسلامية بتجديد العهد مع القيم النبوية، واستذكار معاني التضحية والهجرة والبناء. إلا أن التنظيم استغل هذا اليوم لتمرير خطاب وعظي مموّه، جاء تحت عنوان ظاهره التذكير بـ"غفلة المسلمين عن الزمان والمآل"، وباطنه استدعاء لمقولات قديمة حول الهجرة والجهاد والاصطفاف العقدي. في هذا السياق، يُلاحظ أن التنظيم لم يكتفِ بإحياء الذكرى، بل أعاد تدويرها في إطار دعوي تعبوي يكرّس مشروعه العقائدي، محوّلًا المناسبة الروحية إلى منصة للتحريض على الهجرة نحو "مناطق التنظيم"، والدعوة الضمنية إلى الانخراط في أنشطته المسلحة.
لكن ما يبدو للوهلة الأولى خطابًا تذكيريًا تقليديًا، سرعان ما ينكشف عن أبعاد أعمق تتجاوز الوعظ إلى التعبئة، وعن تحولات تكتيكية في سردية التنظيم، الذي يعاني من تراجع ميداني وارتباك داخلي واضح. فاللغة التي تغلب عليها عبارات التوبة ومحاسبة النفس والإخلاص، ليست سوى ستار يستخدمه التنظيم لإعادة ترميم خطابه المتهالك، وتجديد شرعية العنف باسم الإيمان، في محاولة يائسة لتعويض فقدان الأرض والنفوذ. وبهذا، تتحول لحظة دينية جامعة، يحتفي بها المسلمون بالسلام والتجديد، إلى لحظة تجييش وتحريض في أجندة تنظيمية معزولة عن الواقع الديني والسياسي العام.

أولًا: السياق الزمني والسياسي
تأتي افتتاحية العدد 501 من صحيفة النبأ في مرحلة حرجة بالنسبة لتنظيم داعش، إذ يعاني التنظيم من تراجع ميداني حاد في معاقله الأساسية في العراق وسوريا، بعد أن خسر معظم الأراضي التي كان يسيطر عليها في السابق. فقد تآكلت بنيته العسكرية التقليدية، وتعرضت قياداته الميدانية لسلسلة من الاغتيالات والاعتقالات بفعل العمليات الجوية والبرية للتحالف الدولي، فضلًا عن الانقسام داخل بعض خلاياه النائمة أو المتخفية. هذا الانكماش الجغرافي انعكس بشكل مباشر على قدرته على بث الرعب وتحقيق "الفتح العسكري" الذي طالما تغنّى به.
في المقابل، يشهد الفضاء الإعلامي التابع للتنظيم حالة من الشلل أو الشبه انقطاع، نتيجة الحملات الدولية المتواصلة على قنواته الإلكترونية. فقد تم إغلاق أو حظر العديد من حساباته ومنصاته المؤثرة، خاصة على تطبيقات مثل تيليغرام وتويتر، مما جعله غير قادر على إيصال رسائله بنفس الزخم الذي كان يتمتع به بين عامي 2014 و2017. وتحوّلت صحيفته النبأ إلى وسيلة شبه وحيدة للبقاء في واجهة الخطاب، وهو ما يفسر تصاعد النغمة الوعظية فيها، كمحاولة لتعويض غياب الخطاب التعبوي الحركي المباشر.
وفي الوقت نفسه، لا تعمل داعش في فراغ؛ فهناك صعود متسارع لتنظيمات جهادية منافسة، وعلى رأسها "القاعدة" وفروعها، وخصوصًا "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" التي توسعت عملياتها بشكل كبير في منطقة الساحل الإفريقي وغرب إفريقيا. هذه الجماعات باتت تتصدر المشهد الميداني، وتتمتع بامتدادات شعبية ومحلية نسبية تفوق ما لدى داعش في بعض المناطق. هذا التنافس أدى إلى محاولة التنظيم إعادة تفعيل رموزه وأفكاره التأسيسية من جديد، خصوصًا تلك المرتبطة بالولاء والبراء، والهجرة، والجهاد، بغية الحفاظ على هويته التعبوية واستقطاب أنصار جدد.
في هذا السياق، تمثل الافتتاحية الأخيرة محاولة مكشوفة لإعادة بعث الروح في سردية التنظيم عبر استدعاء حدث الهجرة النبوية، وتوظيفه كأداة تعبئة وتحريض، في وقت يفتقر فيه التنظيم لأي إنجاز ميداني يمكن الاستناد إليه. فالخطاب لم يعُد يدور حول "الفتوحات" و"التمكين"، بل انزاح باتجاه "النية" و"الإخلاص" و"الاعتبار بالزمن"، بما يعكس الانتقال من مرحلة الهجوم إلى مرحلة الدفاع والبقاء، في ظل فقدان الحاضنة الشعبية وفشل مشروع "الخلافة" في تقديم نموذج قابل للاستمرار.

ثانيًا: دلالات الخطاب
الافتتاحية مليئة بالدلالات التي تعبّر عن استراتيجية أيديولوجية مركبة:
1. إحياء مفهوم "الهجرة" و"المفاصلة"
تسعى افتتاحية النبأ إلى إعادة استحضار حدث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة لا باعتباره ذكرى تاريخية رمزية، بل كمشروع حركي دائم يُطلَب من "المسلم الصادق" أن يجسّده في واقعه، على نحو عملي ومباشر. فالهجرة، في خطاب التنظيم، لم تعد مجرد لحظة فاصلة في التاريخ الإسلامي، بل تحولت إلى واجب معاصر، يُفرض على من يعيش في ما يسمونه "ديار الكفر" أو المجتمعات الإسلامية "المرتدة" التي لا تطبق الشريعة كما يراها التنظيم. الهجرة هنا تعني الانتقال الجسدي والروحي من المجتمع إلى التنظيم، ومن الوطن إلى أرض التمكين – أي إلى حيث توجد فلول داعش أو معاقلها المتناثرة.
يكرّس هذا الطرح عقيدة "المفاصلة الشعورية" التي دعا إليها سيد قطب في كتاباته، وتبنّاها التيار الجهادي لاحقًا، وتقوم على قطيعة شاملة مع المحيط الاجتماعي والديني والسياسي. فالافتتاحية تُغلف الدعوة بالخطاب الوعظي والتذكيري، لكنها تهدف إلى عزل المسلم عن مجتمعه، وإقناعه بأن خلاصه في مفارقة وطنه وأهله، والالتحاق بصف "الطائفة المنصورة". بهذه الطريقة، تُحوّل الهجرة من فعل تعبدي رمزي إلى آلية للتجنيد، تُستعمل لتبرير التفكك الأسري، والاغتراب الفكري، والهروب من الواقع.

2. ترسيخ ثنائية الحق والباطل
يعتمد الخطاب الداعشي في الافتتاحية على ثنائية شديدة الحِدّة: "نحن" و"هم"، "المجاهدون" و"الغافلون"، "أهل التوحيد" و"أهل الشرك"، وهي ثنائية لا تترك مجالًا للرماديات أو التدرج في الحكم على الناس أو المجتمعات. فكل من لم ينخرط في مشروع التنظيم هو في خانة "الضالين" أو "المنافقين"، ولا يُستثنى من ذلك حتى المسلم الملتزم ما لم يحمل سلاحًا ويهاجر إلى أرض التنظيم. هذا التقسيم الحاد يفتح الباب لتكفير الجماهير، ويجعل من المجتمعات الإسلامية نفسها هدفًا مشروعًا للهجمات، لأنها في نظر التنظيم تعيش "جاهلية العصر".
تُعدّ هذه الثنائية من أخطر ما يميز أدبيات التنظيمات الجهادية المعاصرة، إذ تُلغي مفهوم الأمة الجامعة، وتحلّ محله تصنيفات انتقائية تُفرز المسلمين بين مؤمنين حقيقيين وخارجين عن الدين. وهذا المنطق هو ما يبرر تنفيذ عمليات انتحارية في مساجد وأسواق ومستشفيات، بدعوى أن من فيها "كفرة" أو "مرتدون". وهو أيضًا ما يجعل من العنف الجماعي ضد المدنيين أداة مشروعة في تحقيق ما يسميه التنظيم "إقامة الدين"، وهو تأويل متطرف ينسف مقاصد الشريعة ويفرغها من مضمونها الأخلاقي والإنساني.

3. تقديس العنف كذروة الطاعات
تبرز الافتتاحية مفهوم "الجهاد القتالي" بوصفه قمة القربات وأسمى درجات الطاعة، بل وتصفه بـ"واجب العصر" و"أمان أمة الإيمان"، في ترويج واضح ومباشر لفكرة أن القتال هو الطريق الأوحد إلى النجاة. وتُقدَّم كل أشكال الطاعة الأخرى – من عبادة، وزهد، وتعليم – باعتبارها أدنى مرتبة ما لم تقترن بالمواجهة المسلحة. بهذا الطرح، يتحول العنف من خيار سياسي أو وسيلة للدفاع إلى واجب ديني لا يجوز التخلّف عنه، مما ينسف كل سبل الإصلاح السلمي أو الدعوي أو المدني.
ويُلاحظ في الافتتاحية أنها تتعمد توظيف نبرة وعظية توهم القارئ بأنه مقصر في دينه إذا لم يكن جزءًا من الجهاد المسلح. هذا الاستخدام الخطابي يخلق شعورًا بالذنب، ويعزز حالة "الضغط النفسي الديني" الذي غالبًا ما يكون بوابة إلى الانخراط في العنف، خاصة في صفوف الشباب الذين يعانون من قلق وجودي أو فراغ معرفي. وبذلك، يصبح القتال ليس فقط عملًا مشروعًا، بل ضرورة تعبدية وفريضة عينية، لا تكتمل العقيدة إلا بها.

4. الإخلاص كشرط للقتل المقدس
من بين أكثر المفاهيم التي يُساء استخدامها في هذه الافتتاحية، هو مفهوم الإخلاص لله، الذي يُعاد تعريفه ضمن سياق التنظيم بأنه الإخلاص في "الجهاد والقتل". فالعنصر في داعش لا يُعدّ مخلصًا حتى يتجاوز مرحلة النية إلى مرحلة الفعل: أي الانخراط في القتال وتنفيذ العمليات باسم التنظيم. يتم بذلك اختزال الإخلاص، الذي هو في الأصل قيمة قلبية تُعنى بتجريد النية لله في كل أوجه الحياة، إلى شرط لتحليل الدماء.
ويتجلّى التلاعب الديني حين ترد جمل مثل "إن الإخلاص أول منازل الطلب، وهو حصن المجاهد"، فالمقصود هنا ليس طلب العلم أو العبادة، بل طلب الدم والسلاح. هذا الانحراف في المعنى يجعل من الفاعل الإرهابي لا مجرد مجرم، بل "مخلصًا" يسعى لنيل "رضا الله"، وهي عملية خطيرة من غسل العقول وإعادة تشكيل الضمير الديني بما يتوافق مع مشروع التنظيم. وهكذا، يصبح العنف وسيلة للتقرب من الله، ويُشرعن القتل الجماعي من بوابة الإخلاص، وهي قمة الانحراف العقائدي والسلوكي.

ثالثًا: الرسائل الدعائية والتعبوية
1. دعوة ضمنية لإعادة التمركز
تحمل افتتاحية العدد 501 من صحيفة النبأ رسالة دعائية تتجاوز الوعظ النظري إلى التحريض العملي، من خلال الترويج لمفهوم "الهجرة" لا كمجرد حركة رمزية أو روحية، بل كفعل جغرافي واقعي. فالهجرة، كما ترد في النص، يُراد بها الانتقال الفعلي من ديار يُصوَّر أنها تابعة للكفر أو للأنظمة "المرتدة" إلى أماكن "التمكين"، أي مناطق تواجد التنظيم أو ما تبقى من خلاياه. هذه الدعوة ليست جديدة، بل هي امتداد لاستراتيجية التجنيد العابرة للحدود التي اتبعها التنظيم منذ نشأته، واستقطب بها آلاف المقاتلين الأجانب، خصوصًا من أوروبا وشمال إفريقيا، ممن لبّوا نداء "الهجرة إلى أرض الخلافة".
ويُلاحظ أن هذه الرسالة تأتي في وقت بات التنظيم فيه ميدانيًا في حالة انكماش وضعف، ما يجعل هذه الدعوة إلى إعادة التمركز محاولة لإعادة إحياء الحراك التنظيمي الميداني. فالتنظيم يعلم أن بقاءه لا يمكن أن يتحقق إلا إذا استعاد "مناطق التجمع الآمن" التي كانت تسهّل له التدريب، وإعداد العمليات، ونشر خطاب الخلافة. لذا، فإن استخدام "الهجرة" بهذه الصيغة، في توقيت ضعف الهيكل الجغرافي، هو نوع من التحريض المقنّع لإعادة ملء فراغاته البشرية واللوجستية، واستدعاء التعاطف العقائدي على أنه واجب عملي عاجل.

2. تثبيت أركان "نخبة الطائفة المنصورة"
تعتمد الافتتاحية على خطاب تفوقي نخبوي، إذ تصوّر جنود التنظيم كطليعة مختارة، ساروا على نهج الأنبياء، وصبروا على طريق الحق، واستحقوا بذلك مرتبة الصفوة. في هذا الإطار، تُصاغ عبارات مثل "نحسبهم ولا نزكيهم"، و"اقتفوا أثر الأنبياء"، و"استنارت بصائرهم"، لتضفي عليهم هالة من القداسة والطهارة الروحية. هذا الخطاب يعيد إنتاج ما يُعرف في أدبيات الجهادية السلفية بمفهوم "الطائفة المنصورة"، التي يُزعم أنها وحدها تمثّل الإسلام الصحيح في زمن الغربة والانحراف العام.
خطورة هذا التصور النخبوي أنه لا يكتفي بإنتاج شعور بالتمايز لدى الأفراد المنتمين للتنظيم، بل يعمل على جذب المترددين أو الباحثين عن "معنى خاص" لحياتهم، من خلال إيهامهم بأن الالتحاق بهذه النخبة هو سبيلهم للخلود والمجد. كما أن تصوير أعضاء التنظيم باعتبارهم "المخلصين الوحيدين" و"من لم يغيّروا ولم يبدّلوا"، يخلق حالة من الاصطفاف الشعوري حولهم، ويدفع القارئ المتأثر إلى التماهي معهم، بل وربما السعي لأن يكون جزءًا من هذا "الصف المختار"، وهي آلية نفسية تستغل الحاجة البشرية للانتماء والتميّز.

3. نفي التوبة إلا عبر الجهاد
من أخطر الرسائل التي تنطوي عليها الافتتاحية، هي الرسالة التي تروّج لفكرة أن التوبة لا تُقبل من المسلم إلا إذا اقترنت بالجهاد والهجرة، وأن أي طاعة لا تندرج في إطار المشروع القتالي للتنظيم لا تُعدّ كافية للنجاة. فبحسب هذا الخطاب، لا تكفي الصلاة أو الصيام أو الصدقة، بل المطلوب هو أن تُترجم الطاعة إلى فعل عسكري. هذه الفكرة تقلب المفهوم القرآني الشامل للتوبة، وتحصر النجاة في بوابة واحدة هي "القتال في سبيل الله" كما تفهمه داعش، في تزييف كامل لمقاصد الإسلام.
هذا النفي الضمني للتوبة "السلمية" أو العادية يضرب كل المعاني التربوية والإصلاحية للدين، ويحوّل الإسلام إلى أيديولوجيا عنف خالص. كما أنه يدفع الأفراد الذين يشعرون بالذنب أو التقصير إلى الانخراط في صفوف التنظيم بدافع التكفير عن "الذنوب"، خاصة إذا كانوا يعيشون في بيئات مهمّشة أو مضطربة نفسيًا. وهكذا يتحوّل الجهاد في خطاب داعش من فريضة مشروطة بظروف وشروط، إلى الوسيلة الوحيدة للتوبة، ومن ثم يصبح العنف المسلّح ليس فقط أمرًا جائزًا، بل ضرورة عقائدية لا تتم الطاعة إلا بها.

رابعًا: أثر الخطاب في تنامي التطرف والإرهاب
هذه الافتتاحية، رغم لغتها الدينية الوعظية، تُعدّ نموذجًا من نماذج الخطاب التحريضي المُقنّع، الذي يضرب في عمق الاستقرار المجتمعي ويغذي:
1. الاغتراب العقدي لدى الشباب
يُعدّ الخطاب الوعظي الذي تتبناه افتتاحية النبأ نموذجًا لما يمكن تسميته بـ"الاغتراب العقدي"، حيث يتم دفع الشباب المسلم إلى الشعور بأنهم خارج إطار الإسلام الصحيح ما لم يهاجروا ويجاهدوا. فالافتتاحية تستخدم لغة مشحونة بالعاطفة واللوم الديني، تَصِم المسلم الذي يعيش حياة عادية أو يمارس شعائره بعيدًا عن التنظيم بأنه "غافل"، "متثاقل"، وربما "منافق"، مما يزرع بداخله شعورًا بالذنب الديني العميق. هذا الشعور بالذنب، عندما لا يصاحبه فهم ديني معتدل أو بدائل فكرية، يمكن أن يتحول إلى دافع قوي للانجراف نحو جماعات تتبنى خطاب "الخلاص" عبر العنف.
ولا يقتصر خطر هذا الاغتراب على الجانب النفسي، بل يتعداه إلى توليد قطيعة بين الفرد وبيئته الاجتماعية والدينية. فالشاب الذي يتشرب هذه الرسائل يرى في مجتمعه المحيط بيئة "مهادِنة للكفر" أو "ساكتة عن الحق"، ما يعزز لديه الميل إلى الانعزال والانتماء إلى جماعة تدّعي احتكار الحقيقة. وبذلك، تُغذّي هذه النوعية من الخطابات حالة من الانفصال الوجداني والعقائدي عن المحيط، وتحوّل الشاب من مكوّن طبيعي في المجتمع إلى مشروع "قنبلة موقوتة"، تعيش بين الناس بينما ولاؤها العقائدي قد تحول إلى جهة متطرفة بعيدة جغرافيًا وقيميًا.

2. شرعنة التكفير والإرهاب
تقوم افتتاحية النبأ على تقسيم حاد للعالم إلى "دار كفر" و"دار إيمان"، مستندة إلى خطاب سلفي جهادي قديم يعيد تعريف العلاقة بين المسلم والآخر – حتى لو كان هذا "الآخر" من نفس العقيدة – ضمن منظومة "الولاء والبراء". هذا الخطاب يُشرعن التكفير بصورة ضمنية، ويمنح الممارسات الإرهابية شرعية دينية تحت مظلة "الإخلاص" و"الذب عن الدين". وفي ظل هذا التوظيف المنحرف للمفاهيم الشرعية، يصبح القتل في المساجد والأسواق، والانتحار بحزام ناسف، مظهرًا من مظاهر القرب إلى الله.
الخطورة الأكبر تكمن في أن هذا النمط من الخطاب لا يقدم فقط مبررًا للتكفير، بل يجعله واجبًا شرعيًا، ويحوّل أدوات الإرهاب إلى "وسائل خلاص". الانتحار، وهو من أعظم الكبائر في الإسلام، يُقدَّم هنا بوصفه شهادة، والقتل الجماعي يُقدَّم كجهاد، وكل من يعارض ذلك يُعدّ خصمًا لله ورسوله. وهكذا تُلغى كل المسافات بين الفتوى والدم، ويتم تمزيق النسيج الديني والاجتماعي للأمة من الداخل، في ظل صمت أو ضعف المواجهة الفكرية المؤسسية لهذا الانحراف العنيف.

3. إعادة تفعيل شبكات التجنيد
تعتمد هذه الافتتاحية على ما يمكن تسميته "التحفيز الموسمي"، وهو أسلوب يُستثمر في المناسبات الدينية الكبرى – كالهجرة، أو رمضان، أو العشر الأواخر – لتفعيل المشاعر الدينية وتوجيهها نحو أجندة التنظيم. في هذا العدد، يُستغل رأس السنة الهجرية لتحفيز مشاعر التوبة، وتوجيهها نحو الانضمام للتنظيم من خلال بوابة "الهجرة والجهاد"، وهو خطاب عاطفي محسوب بدقة، يراهن على اللحظة الوجدانية أكثر من الحجة العقلية. وهذه الآلية أثبتت فعاليتها في السنوات الماضية، خاصة في البيئات التي تعاني من الفقر، أو القمع السياسي، أو الانفصال الثقافي عن المؤسسات الدينية الرسمية.
ويزداد أثر هذا النوع من الخطاب في الأوساط الهشّة نفسيًا واجتماعيًا، حيث تلتقي الحاجة الروحية بحالة الفراغ، وتجد في الرسالة الجهادية خطابًا يمنحها "معنى" و"دورًا" و"غاية". يستغل التنظيم هذا الضعف لإعادة تفعيل شبكات التجنيد، سواء عبر الإنترنت أو الخلايا المحلية، مستندًا إلى هذه النصوص التي تُقدَّم كنداء رباني، لا كدعوة بشرية. وبذلك، تتحول الافتتاحية من مقال وعظي إلى أداة تعبئة وتحريض خفية، تُبذر فيها بذور التطرف، وتُستدرج بها العقول تحت غطاء الإيمان والنية والإخلاص.

خامسًا: مؤشرات الأزمة الداخلية والانفصال عن الواقع
1. توتر داخلي مبطّن في الخطاب
تكشف افتتاحية النبأ، من خلال تركيزها الشديد على مفاهيم مثل "الإخلاص"، و"تجديد النية"، و"محاسبة النفس"، عن وجود ارتباك داخلي في بنية التنظيم العقائدية والنفسية. فالإفراط في الوعظ الداخلي، وتكرار عبارات التذكير بالنية الصافية، لا يأتي عادة إلا في سياقات الأزمة والانكماش، حيث تحاول القيادة إعادة شحن أفرادها بشحنة إيمانية تعويضية. هذا النوع من الخطاب غالبًا ما يظهر في المراحل التي يشعر فيها التنظيم بأنه فقد "الحالة التعبوية" العامة، سواء نتيجة لانشقاقات داخلية أو تراخٍ سلوكي في صفوفه.
ويُفهم من هذا التركيز أن هناك خللًا في تماسك الصف الداخلي، وربما فقدانًا لليقين الحركي الذي كان يدفع الأفراد إلى التضحية الكاملة في السابق. فالحديث المتكرر عن ضرورة "النية الصادقة" يوحي بأن كثيرًا من الأفراد باتوا يتصرفون دون حماسة أو بدوافع شخصية، وهو ما يشكّل خطرًا على مشروع التنظيم القائم أصلًا على الاستماتة والولاء المطلق. وبالتالي، يمكن قراءة هذا الخطاب بوصفه اعترافًا ضمنيًا بوجود أزمة داخلية، يُراد معالجتها لا بالتحليل أو النقد، بل بجرعة إضافية من الخطاب الروحي الموجّه إلى من تبقى في الصف.

2. انفصال كامل عن الواقع السياسي والفكري
من اللافت في هذه الافتتاحية، كما في غيرها من أعداد النبأ، الغياب التام لأي إشارات تحليلية إلى الواقع السياسي العالمي أو الإقليمي، وكأن التنظيم يتعمد تجاهل المتغيرات التي تعصف بالعالم من حوله. لا نجد أي ذكر لموازين القوى، أو للتحولات في خريطة التنظيمات المسلحة، أو حتى للتحالفات الجديدة في مناطق الصراع، رغم أن كل هذه العناصر تؤثر بشكل مباشر على مستقبل التنظيم. وهذا الغياب لا يمكن تفسيره إلا بكونه انعكاسًا لحالة من الانفصال المتعمد عن الواقع، وإصرار على البقاء في عالم ذهني مغلق لا يرى من السياسة إلا ما يؤكد سرديته العقدية.
هذا الانعزال عن الواقع يُعتبر أحد أخطر ملامح الخطاب المتطرف، إذ ينتج خطابًا طوباويًا يتعامل مع المفاهيم المجردة – كالجهاد، والإخلاص، والهجرة – دون ربطها بالمعطيات الواقعية. فيصبح الخطاب أشبه بفقاعة لغوية، تُحاكي عالمًا مثاليًا لا وجود له، لكنها تُغذّي العنف في العالم الحقيقي. وفي هذا النوع من الخطاب، لا تُصاغ الحلول، ولا تُطرح الأسئلة الكبرى، بل يُكتفى بإعادة تدوير المقولات الحماسية لتعبئة جمهور يعيش في الهامش أو الفراغ، ويبحث عن معنى للانتماء بعيدًا عن السياسة، والدولة، والعقل. وهكذا يتحول النص من وسيلة تفسير للعالم إلى أداة هروب منه، فيغذي مزيدًا من التطرف بدلًا من احتوائه.

خاتمة: بين الخوف من الزوال والحاجة إلى الإحياء
إن افتتاحية النبأ في عددها 501 تمثل محاولة من داعش لإعادة إنتاج أيديولوجيته في وقت يعاني فيه من الانحسار، فهي خطاب دفاعي أكثر منه هجومي، يؤكد أن التنظيم يعيش قلق الزوال ويحاول بثّ الحياة في أوصاله عبر الأدبيات القديمة ذاتها: الجهاد، الهجرة، المفاصلة، النخبة، والإخلاص.
لكن خطورة هذا الخطاب تكمن في استمراره، لا بمدى تأثيره المباشر، بل في تراكمه التدريجي على مستوى الوعي الجمعي في البيئات المهمّشة، مما يوجب على المؤسسات الدينية والإعلامية تفكيك هذا الخطاب، وكشف زيفه، وإنتاج خطاب ديني بديل يعيد الاعتبار للرحمة، والتنمية، والعمل، لا الموت باسم الله.

شارك