نزع السلاح في كردستان.. بداية نهاية "الإرهاب الكردي" أم هدنة مؤقتة؟

السبت 12/يوليو/2025 - 12:44 م
طباعة نزع السلاح في كردستان.. أميرة الشريف
 
في مشهد بدا أقرب إلى لحظة تاريخية حاسمة، شرع مقاتلو حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراق في تسليم أسلحتهم، في مراسم وُصفت بأنها تمثل التحول الأبرز في مسار أحد أطول النزاعات المسلحة في المنطقة. وبحسب تقارير إعلامية، فقد ألقي نحو 30 عنصراً من الحزب، بينهم أربعة من القيادات الميدانية، سلاحهم،  في كهف ناءٍ بمحافظة السليمانية، وأضرموا فيه النيران، في خطوة رمزية تعكس تحولاً جوهرياً في نهج التنظيم الذي طالما حمل السلاح ضد الدولة التركية منذ عام 1984، مخلفاً أكثر من 40 ألف قتيل، بينهم مدنيون وأفراد من القوات الأمنية التركية.
تأتي هذه الخطوة بعد إعلان الحزب، في مايو الماضي، عن حل بنيته التنظيمية ونهاية الكفاح المسلح، وذلك استجابة لدعوة زعيمه التاريخي عبد الله أوجلان، الذي يقضي عقوبة السجن المؤبد منذ عام 1999 في جزيرة إيمرالي التركية.
 وقد طالب أوجلان، في تسجيل مصور مؤرخ في 19 يونيو، بإنهاء الكفاح المسلح طوعاً، والانتقال إلى العمل السياسي والقانوني، داعياً إلى إنشاء آلية منظمة لعملية نزع السلاح بشكل عملي وسريع.
 هذه التصريحات، التي بُثت لاحقاً، أكدت أن الحزب لم يتخذ القرار بمعزل عن تنسيق داخلي وبدعم من وساطات إقليمية ودولية.
 في هذا السياق، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تصريح رسمي، أن عملية السلام دخلت "مرحلة جديدة"، واعتبر أن ما وصفه بـ"آفة الإرهاب" قد بدأت في الزوال.
 وأكد أردوغان أن اليوم الذي بدأ فيه مسلحو حزب العمال الكردستاني بتسليم أسلحتهم هو يوم تاريخي لتركيا، معلناً أن صفحة جديدة فُتحت في البلاد، وأن كل المواطنين، من أتراك وأكراد وعرب، سينعمون بثمار السلام بعد عقود من العنف وسفك الدماء.
 ولم تغب الأرقام عن خطابه، إذ أشار إلى أن العمليات الإرهابية التي تعرضت لها تركيا خلال سنوات الصراع أسفرت عن مقتل نحو 10 آلاف من عناصر الأمن و50 ألف مدني، فضلاً عن خسائر اقتصادية تجاوزت التريليوني دولار، وهي أرقام توضح مدى فداحة الثمن الذي دفعته البلاد جراء استمرار النزاع المسلح.
ومع أن هذه الخطوة تنظر إليها الأوساط السياسية كفرصة ذهبية لإنهاء الصراع، إلا أن مراقبين يرون أن خلف هذا التحول تقف مجموعة من العوامل المتشابكة، التي لم تكن كلها إرادية أو سلمية الطابع.
 فمن ناحية، فإن حزب العمال الكردستاني، الذي قضى العقدين الأخيرين من الصراع متحصناً في الجبال الوعرة شمال العراق، واجه ضغوطاً متزايدة بعد سنوات من العمليات العسكرية التركية التي طالت معاقله هناك، حيث شنت أنقرة عشرات الغارات الجوية، وأقامت قواعد عسكرية في الأراضي العراقية، بدعوى محاربة "الإرهاب".
 ومن ناحية أخرى، فإن التحولات الجيوسياسية في المنطقة، خصوصاً بعد انهيار تنظيم داعش، قلّصت من الدور الذي كانت تلعبه القوى الكردية المسلحة، التي لطالما استفادت من حالة الفوضى التي رافقت الحرب على الإرهاب في كل من العراق وسوريا.
على الصعيد الداخلي التركي، لا يُخفى أن توقيت هذه الخطوة يرتبط أيضاً بمساعٍ سياسية للرئيس أردوغان، الذي يسعى إلى ترسيخ شرعيته أمام جمهور واسع يتطلع إلى الأمن والاستقرار بعد سنوات من القلق الأمني والتوترات الداخلية. 
وتزامنت تصريحات أردوغان مع إشارات إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تسارعاً في الخطوات السياسية التي تهدف إلى إدماج الأكراد في العملية السياسية من خلال تشكيل حزب سياسي جديد يُبنى على أنقاض حزب العمال الكردستاني.
 وبحسب مصادر عراقية، فإن عملية نزع السلاح يُتوقع أن تكتمل بحلول عام 2026، مما يعني أن السنوات المقبلة ستشهد تحولات بنيوية داخل الكيان الكردي المسلح، تمهيداً لولادة كيان سياسي جديد يسعى إلى التأثير في السياسة التركية عبر الوسائل الديمقراطية لا العنف.
لكن هذا الانتقال من الكفاح المسلح إلى السياسة الديمقراطية لا يخلو من التحديات، فالتجربة التركية السابقة مع "عملية السلام" التي بدأت في العقد الماضي ثم انهارت عام 2015، أظهرت أن السلام الهش يمكن أن ينهار بسرعة إذا لم يُدعّم بإصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية.
 كما أن الشكوك لا تزال قائمة في بعض الأوساط التركية، التي ترى في هذه الخطوة تكتيكاً من الحزب لإعادة التموضع، لا إعلاناً نهائياً عن نهاية العنف.
 وفي المقابل، فإن قطاعات من الأكراد في تركيا لا تزال متشككة في وعود أنقرة، وتخشى من أن تقتصر العملية على تسليم السلاح دون أن تقابلها خطوات حقيقية تعالج التهميش السياسي والثقافي الذي يعانون منه منذ عقود.
أما في المحيط الإقليمي، فإن لهذه الخطوة تداعيات عميقة.
و في سوريا، لا يزال الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني – والمتمثل في وحدات حماية الشعب الكردية – محور خلاف بين أنقرة وواشنطن، التي تدعم هذه الوحدات في إطار الحرب على تنظيم داعش.
 وتخشى تركيا من أن يؤدي استمرار الدعم الأمريكي لها إلى ولادة كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية. أما في العراق، فإن حكومة إقليم كردستان تنظر بعين الحذر إلى التطورات الجارية، خاصة في ظل التوتر المزمن بين أربيل وبغداد من جهة، والتنافس الكردي الداخلي من جهة أخرى.
وبرغم الاحتفالية التي أحاطت بالمراسم، إلا أن الواقع الأمني والسياسي لا يزال معقداً. فإلقاء السلاح لا يعني تلقائياً إلقاء أسباب النزاع، كما أن مشاهد إحراق البنادق قد تكون رمزية أكثر منها فعلية، خاصة وأن الحزب لا يزال يحتفظ ببنية تنظيمية قائمة، حتى لو أُعلن عن "حلّه"،  إضافة إلى ذلك، فإن الجماعات المنشقة أو الرافضة لهذا المسار قد تواصل العنف، ما لم تُدرج ضمن آلية نزع السلاح والتسوية السياسية.
ومع ذلك، فإن ما يجري حالياً لا يمكن إنكار أهميته، فهو يعكس، على أقل تقدير، إرادة سياسية لدى أطراف النزاع للخروج من دوامة الدم، في منطقة أنهكتها الحروب والهويات المتصارعة.
ويرى مراقبون أنه في حال اقترن تنفيذ هذه الخطوة بإجراءات عملية تضمن الحقوق الثقافية والسياسية والاقتصادية للأكراد داخل تركيا، فإن الأمل يبقى قائماً في أن تتحول لحظة تسليم السلاح إلى بداية حقيقية لمصالحة تاريخية طال انتظارها، أما إذا لم تُستثمر هذه الفرصة بالشكل المطلوب، فقد يُفتح الباب مجدداً أمام عودة التنظيمات إلى حمل السلاح، ولكن تحت عنوان جديد، وبمظلومية ربما تكون أعمق وأكثر تعقيداً من ذي قبل.

شارك