اتفاق تاريخي بين أرمينيا وأذربيجان يفتح الطريق للسلام.. ويثير مخاوف من تمدد الإرهاب
السبت 09/أغسطس/2025 - 10:52 ص
طباعة

شهدت العاصمة الأمريكية واشنطن حدثًا استثنائيًا أعاد تشكيل المشهد الجيوسياسي في منطقة جنوب القوقاز، عندما استضاف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قمة ثلاثية جمعت بين الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، توجت بتوقيع إعلان مشترك تم تقديمه بوصفه "خارطة طريق من أجل السلام"، في خطوة وصفت بأنها لحظة فاصلة في تاريخ العلاقات بين البلدين المتنازعين.
هذا الإعلان، الذي تم التوقيع عليه في البيت الأبيض، جاء بعد سنوات من الصراع الدموي، وآخره الحرب التي اندلعت في سبتمبر 2020 واستمرت 44 يومًا، وأدت إلى استعادة أذربيجان السيطرة على مناطق واسعة من إقليم قره باغ المتنازع عليه، مما كرس واقعًا جديدًا على الأرض وأعاد ترتيب موازين القوى في المنطقة.
ترامب يعلن خارطة الطريق
و في كلمته بعد التوقيع، أعرب ترامب عن امتنانه لقادة البلدين لقبولهم دعوته للمشاركة في قمة السلام، واعتبر أن هذه الوثيقة تمثل فرصة تاريخية لإنهاء الصراع الممتد منذ عقود، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة ستدعم هذا الاتفاق بكل الوسائل الممكنة.
وتعهدت أرمينيا وأذربيجان بموجب الإعلان بوقف كافة الأعمال العدائية، واستئناف العلاقات الدبلوماسية والتجارية، واحترام سيادة كل منهما على أراضيه، وهو ما يمثل سابقة في العلاقات الثنائية المتوترة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.
ورغم اللغة الدبلوماسية الهادئة التي استخدمت في المؤتمر الصحفي، إلا أن تفاصيل الاتفاق تكشف عن تنازلات عميقة، خاصة من الجانب الأرميني، الذي وافق ضمنيًا على تعديل دستوره من أجل إزالة المواد التي تتعارض مع سيادة أذربيجان ووحدة أراضيها، وهي نقطة ظلت طوال العقود الماضية من أبرز أسباب توتر العلاقات.
كما تضمّن الاتفاق قرارًا مفاجئًا بإلغاء "مجموعة مينسك" التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي كانت تُشرف على محاولات التسوية بين البلدين منذ تسعينيات القرن الماضي.
وقد برر الزعماء الثلاثة هذا القرار بأن المجموعة فقدت فعاليتها وأن الاتفاق الجديد يُمثل بداية مرحلة جديدة لا تحتاج إلى وساطات خارجية.
رفع العقوبات عن أذربيجان
ومن أبرز ما جاء في المؤتمر إعلان ترامب رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على أذربيجان في قطاع الدفاع، وهو القرار الذي وصفه بأنه بالغ الأهمية لتعزيز الاستقرار، كما ألمح إلى تعاون عسكري مستقبلي بين واشنطن وباكو في مجال مكافحة الإرهاب وحماية الممرات الاستراتيجية، في إشارة واضحة إلى الممر الذي يُعرف باسم "ممر زنغزور" والذي سيمتد من أذربيجان إلى تركيا مرورًا بأراضي أرمينيا وجمهورية نخجوان ذاتية الحكم.
واعتبر ترامب أن هذا المشروع الاستراتيجي من شأنه أن يُعيد ربط أذربيجان بجمهورية نخجوان عبر أرمينيا، ويساهم في تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي، وذهب إلى حد القول إن البعض بدأ يطلق عليه "طريق ترامب الدولي للسلام والرفاه"، رغم تأكيده أنه لم يطلب من أحد أن يُسمى بهذا الاسم.
لكن رغم الاحتفاء الأمريكي بهذا التحول، تبرز العديد من التساؤلات حول تبعات هذا الاتفاق على الأمن الإقليمي، خصوصًا في ظل هشاشة الأوضاع الحدودية بين البلدين، وغياب آليات رقابة دولية بعد حل مجموعة مينسك. فالمناطق التي كانت مسرحًا للنزاعات المسلحة سابقًا لا تزال تعاني من فراغات أمنية، ونزوح جماعي، وبُنى تحتية مدمرة، ما يجعلها بيئة خصبة لتسلل الجماعات الإرهابية.
وقد حذرت مراكز أبحاث أمنية من احتمال ظهور تنظيمات متطرفة جديدة في جنوب القوقاز، خصوصًا مع تزايد نشاط الجماعات العابرة للحدود والتي تستغل حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
ويخشى بعض المراقبين من أن يؤدي الانسحاب التدريجي للقوات الروسية، التي كانت تنتشر في مناطق التماس بعد اتفاق وقف إطلاق النار عام 2020، إلى ترك فجوة قد تملأها جهات غير حكومية، بعضها مرتبط بشبكات إرهابية دولية.
فراغ أمني يهدد بتحول المنطقة إلى بؤرة للإرهاب
وقد أشار تقرير لمركز دراسات الإرهاب التابع للاتحاد الأوروبي إلى أن منطقة القوقاز تشكل إحدى النقاط الساخنة التي تُعد من بين الأهداف الاستراتيجية لتنظيمات مثل داعش والقاعدة، حيث تسعى هذه الجماعات إلى إيجاد موطئ قدم جديد بعد تراجع نفوذها في سوريا والعراق.
ومع استئناف حركة النقل عبر ممر زنغزور، وفتح الحدود بين أرمينيا وأذربيجان، فإن أي ضعف في الرقابة الأمنية أو التنسيق الاستخباراتي قد يسمح بتهريب الأسلحة أو تسلل عناصر متطرفة إلى قلب أوروبا أو آسيا الوسطى.
ومن هنا، فإن الاتفاق الجديد، على أهميته السياسية، لا يمكن أن يُكتب له النجاح الكامل إلا إذا تم دعمه بخطط أمنية واستخباراتية شاملة، تشمل نشر نقاط مراقبة مشتركة، وتبادل معلومات استخباراتية في الزمن الفعلي، وتعاون وثيق مع الأجهزة الأمنية الغربية، وخصوصًا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وقد طرحت بعض الأصوات في أرمينيا تساؤلات حول ما إذا كانت التنازلات التي تم تقديمها في هذا الاتفاق قد جاءت تحت ضغط أمريكي أو نتيجة تراجع الدعم الروسي التقليدي، في ظل انشغال موسكو بأولوياتها في أوكرانيا. كما لم يغب العامل الإيراني عن التحليلات، حيث ترى طهران أن إنشاء ممر زنغزور يُهدد دورها الجغرافي في الربط بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وقد ألمحت مرارًا إلى أن أي تغيير جغرافي يتم فرضه بالقوة أو عبر صفقات لا تأخذ في الحسبان مصالح الدول المجاورة سيُقابل برد حازم.
إنجاز تاريخي يُعزز من رصيد ترامب
أما على المستوى الإعلامي والسياسي، فقد أعلن كل من علييف وباشينيان أنهما يفكران في ترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام، في خطوة رمزية تعكس حجم الرهان الذي وضعه الزعيمان على هذه الوساطة الأمريكية.
وبينما يروج ترامب للاتفاق كإنجاز تاريخي يُعزز من رصيده السياسي، لا سيما في خضم استعداداته للانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن التحدي الأكبر لا يزال يكمن في مدى الالتزام الفعلي ببنود الاتفاق على الأرض، ومدى قدرة واشنطن على ضمان تنفيذه دون أن يتحول إلى مجرد وثيقة رمزية سرعان ما تنهار تحت وقع الضغوط الإقليمية أو تهديدات الجماعات المسلحة.
وبين تفاؤل سياسي أمريكي، وحذر أمني أوروبي، وشكوك إيرانية وروسية، يبدو أن اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التوازنات في جنوب القوقاز.
ويري مراقبون أن فرص النجاح ستعتمد على مدى تماسك الداخل السياسي في كل من باكو ويريفان، وعلى قدرة الولايات المتحدة على التحول من وسيط إلى شريك في البناء الأمني والاقتصادي، بعيدًا عن مقاربات استعراضية قد تُغري الأطراف المتطرفة بمحاولة الانقضاض على ما تبقى من استقرار هش في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية.