محمود الزهار: صراع الصقور والحمائم داخل حماس
الأربعاء 10/سبتمبر/2025 - 11:16 ص
طباعة
حسام الحداد
يعد محمود خليل الزهار أحد أبرز الشخصيات في تاريخ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وأحد مؤسسيها البارزين، حيث جمع بين شخصية الطبيب الجراح المثقف والقيادي السياسي الصلب. ولد الزهار في السادس من مايو عام 1945 بحي الزيتون في غزة، وعرف بلقب "صقر حماس" نظرا لمواقفه المتشددة تجاه الاحتلال الإسرائيلي ورفضه لأي تسويات سياسية، ما جعله أحد أكثر الشخصيات نفوذا وإثارة للجدل داخل الحركة وخارجها.
نشأ الزهار في بيئة محافظة تأثرت بالخطاب الديني والسياسي السائد في غزة آنذاك، لكنه قضى جزءا مهما من طفولته في مدينة الإسماعيلية المصرية، وهو ما أسهم في تشكيل وعيه المبكر بالأفكار الإسلامية والسياسية. هذا الاحتكاك المبكر بالبيئة المصرية، إلى جانب جذوره الفلسطينية، منحه رؤية مزدوجة حول قضايا الهوية والمقاومة، وأثر لاحقا في مساره الفكري والسياسي.
بعد عودته إلى غزة، واصل دراسته حتى حصل على بكالوريوس الطب من جامعة عين شمس بالقاهرة عام 1971، ثم نال ماجستير الجراحة العامة عام 1976. عمل طبيبا في مستشفيات غزة وخان يونس، غير أن نشاطه السياسي ومواقفه المناهضة للاحتلال الإسرائيلي تسببا في فصله من عمله، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته كان فيها الطب والسياسة والمقاومة متداخلين في مسار واحد شكل ملامح شخصيته ودوره داخل حركة حماس.
الحياة العائلية والتجارب الشخصية
يعد الجانب العائلي في حياة محمود الزهار من أكثر المحطات تأثيرا في مسيرته السياسية والفكرية. فقد أنجب سبعة أبناء، أربعة ذكور وثلاث إناث، لكن مسار حياته تبدل بشكل جذري بعد أن فقد اثنين من أبنائه في عمليات قصف إسرائيلية مباشرة استهدفت منزله وأفراد عائلته، ما ترك جرحا عميقا في داخله ظل حاضرا في خطابه السياسي وتصريحاته الإعلامية.
في عام 2003، فقد الزهار ابنه خالد البالغ من العمر 24 عاما، بعد استهداف منزله في حي الرمال بمدينة غزة بواسطة طائرة إسرائيلية من طراز F-16، وهي الحادثة التي نجا منها الزهار نفسه بأعجوبة رغم إصابته، فيما أصيبت زوجته وابنته بجروح بالغة. بعد خمس سنوات فقط، وتحديدا في عام 2008، تلقى الزهار ضربة أخرى موجعة بفقدان ابنه الثاني حسام في قصف إسرائيلي استهدف محيط منزله.
شكلت هذه التجارب الشخصية العنيفة نقطة تحول بارزة في مسار الزهار، إذ دفعته نحو مزيد من التشدد الأيديولوجي والتمسك بخيار المقاومة المسلحة كحل وحيد لمواجهة إسرائيل، رافضا أي محاولات للتسوية السياسية أو المفاوضات التي اعتبرها "تنازلا عن الثوابت". ولعل خطابه بعد استشهاد ابنه خالد كان الأكثر وضوحا حين قال: "دماء أبنائي ليست أغلى من دماء أبناء فلسطين جميعا، وسنواصل الطريق حتى التحرير".
هذه الخسارات المتلاحقة منحت الزهار صورة مزدوجة في الرأي العام: فبينما يراه أنصاره نموذجا للثبات والصمود، يرى خصومه أن هذه التجارب دفعت به إلى مواقف متشددة حتى داخل حركة حماس نفسها، حيث اتخذ مواقف أكثر حدة من بعض القيادات فيما يتعلق بالمصالحة الوطنية أو التسويات الإقليمية.
المسار الأكاديمي والمهني
إلى جانب مسيرته السياسية، لعب محمود الزهار دورا بارزا في المجال الأكاديمي داخل قطاع غزة. فقد كان من المؤسسين الرئيسيين للجامعة الإسلامية عام 1978، وهي المؤسسة التعليمية التي شكلت لاحقا أحد أهم المراكز الفكرية والبحثية المرتبطة بحركة حماس. في الجامعة، تولى الزهار رئاسة قسم التمريض، حيث ساهم في تأسيس برامج أكاديمية متقدمة في علوم الصحة والتمريض، وكان له دور في صياغة مناهج تربط بين التعليم الأكاديمي والهوية الدينية والوطنية.
لم يقتصر نشاطه على التعليم الجامعي، بل شغل منصب رئيس الجمعية الطبية في غزة بين عامي 1981 و1985، وهو موقع مكنه من تعزيز نفوذه داخل الأوساط المهنية والطبية. من خلال هذا المنصب، ساهم في تطوير منظومة الرعاية الصحية في القطاع رغم محدودية الموارد، وكان معروفا بنشاطه النقابي والدفاع عن حقوق الأطباء والعاملين في المجال الصحي.
كما أسس الزهار مركز النور للدراسات والبحوث، وهو مركز بحثي يركز على قضايا الفكر الإسلامي والسياسة والمقاومة. من خلال هذا المركز، نشر العديد من الأبحاث والدراسات التي حاول من خلالها تحليل طبيعة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي من منظور إسلامي، مؤكدا على مركزية البعد العقائدي في المواجهة مع الاحتلال.
أضف إلى ذلك أن الزهار ساهم في نشر عشرات المقالات والأبحاث في مجلات فكرية متخصصة، تناول فيها
خامسا: المسار السياسي
بدأ محمود الزهار مسيرته السياسية مبكرا خلال فترة دراسته في القاهرة، حيث انخرط في جماعة الإخوان المسلمين وتأثر بشكل عميق بأفكار كل من حسن البنا وسيد قطب. وقد لعبت تلك المرحلة دورا محوريا في تشكيل توجهاته الأيديولوجية، إذ تبنى مبكرا مفهوم "الإسلام الشامل" الذي يدمج بين العقيدة والسياسة والمجتمع. ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، كان الزهار أحد المؤسسين الرئيسيين لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى جانب الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة. لعب دورا بارزا في صياغة الميثاق الأول لحماس الصادر عام 1988، الذي أسس لخطاب الحركة العقائدي القائم على فكرة "المقاومة الشاملة" ورفض أي تسوية مع إسرائيل، ما جعله من أبرز العقول السياسية داخل القيادة المبكرة للحركة.
2. الصدام مع إسرائيل
بسبب نشاطه السياسي داخل حماس، تعرض الزهار منذ بداية التسعينيات إلى حملة ملاحقة واعتقالات متكررة من قبل الاحتلال الإسرائيلي. ففي عام 1988، اعتقل لمدة ستة أشهر بتهمة "الانتماء إلى تنظيم معاد"، وهي الفترة التي شهدت تصاعدا في نفوذ حماس داخل الشارع الفلسطيني. وفي عام 1992، قامت السلطات الإسرائيلية بإبعاده إلى مرج الزهور في جنوب لبنان إلى جانب أكثر من 400 قيادي من حماس والجهاد الإسلامي، في خطوة اعتبرتها إسرائيل "إجراء وقائيا" ضد نشاطاتهم. شكل هذا الإبعاد نقطة تحول مهمة، إذ أسهم في بناء شبكة علاقات واسعة بين حماس وفصائل المقاومة اللبنانية، بما في ذلك حزب الله، كما عزز التواصل مع الحرس الثوري الإيراني الذي أصبح لاحقا أحد أبرز الداعمين العسكريين والماليين للحركة.
3. الصدام مع السلطة الفلسطينية
لم يقتصر صدام الزهار على الاحتلال الإسرائيلي، بل امتد إلى السلطة الفلسطينية نفسها بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، حيث اعتبر الزهار هذا الاتفاق "تنازلا خطيرا عن حقوق الفلسطينيين". وفي عام 1996، اعتقل في سجون السلطة بتهمة "التآمر ضد السلطة الشرعية"، وتعرض خلال فترة احتجازه إلى تعذيب شديد كاد أن يودي بحياته، قبل أن ينقل إلى المستشفى في حالة حرجة. ومنذ ذلك الحين، ظلت علاقته متوترة للغاية مع قيادات حركة فتح والسلطة الفلسطينية، حيث اتهمها بشكل متكرر بـ"التفريط بالثوابت الوطنية"، بينما اتهمته السلطة بالسعي لإفشال مسار التسوية السياسية وجر غزة نحو المواجهة المسلحة. هذه التوترات جعلت الزهار من أبرز الأصوات المعارضة لأي شكل من أشكال التنسيق الأمني أو التفاهمات السياسية مع إسرائيل عبر السلطة.
4. وزير الخارجية في حكومة حماس (2006-2007)
مع فوز حركة حماس الساحق في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، تولى الزهار منصب وزير الخارجية في حكومة إسماعيل هنية العاشرة، وهي الحكومة التي مثلت أول تجربة سياسية رسمية لحماس في إدارة السلطة الفلسطينية. خلال فترة ولايته، عمل الزهار على تعزيز العلاقات الخارجية للحركة، حيث ركز على بناء شراكات استراتيجية مع إيران وسوريا، وفتح قنوات تواصل مع حزب الله. وفي الوقت نفسه، كان من أشد المعارضين لأي اعتراف بإسرائيل أو التفاوض المباشر معها، رافعا شعار "لا اعتراف ولا تنازل". كما لعب دورا في توجيه سياسة حماس الخارجية لتكون أقرب إلى "محور المقاومة"، وهو ما تسبب في تصاعد الخلافات مع بعض القيادات الفلسطينية والعربية التي رأت في هذا التوجه تكريسا لعزلة غزة دوليا. انتهت فترة ولايته مع أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2007، لكنه ظل حتى اليوم أحد أبرز صقور حماس وصناع القرار داخل مكتبها السياسي.
محاولات الاغتيال
تعرض محمود الزهار لأكثر من محاولة اغتيال إسرائيلية، لكن أخطرها وقعت في 10 سبتمبر 2003 عندما استهدفت طائرة حربية من طراز F-16 منزله في حي الرمال بغزة بصاروخ مباشر. أسفر القصف عن استشهاد نجله خالد البالغ من العمر 24 عاما، وإصابة زوجته وابنته بجروح خطيرة، إضافة إلى تدمير المنزل بالكامل. نجا الزهار من الموت بأعجوبة، بعدما كان الهدف الرئيسي للعملية التي هدفت إسرائيل من خلالها إلى تصفية قيادات الصف الأول في حركة حماس عقب سلسلة من عمليات المقاومة النوعية ضد قواتها والمستوطنين.
شكلت هذه الحادثة نقطة تحول حاسمة في مسيرة الزهار السياسية والشخصية، إذ دفعته نحو مواقف أكثر تشددا، حيث أصبح من أشد الأصوات الداعية إلى تصعيد العمل المسلح ضد إسرائيل ورفض أي تسويات سياسية. ومنذ ذلك الحين، برز الزهار داخل حركة حماس كأحد صقورها الأكثر صلابة في مواجهة الاحتلال، متبنيا خطابا متشددا يرى أن المقاومة العسكرية هي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وهو ما عزز مكانته داخل جناح الحركة العسكري والسياسي في آن واحد.
الخلافات داخل حماس
يعد محمود الزهار من أبرز قيادات التيار المتشدد داخل حركة حماس، وهو ما جعله في صدام متكرر مع بعض أجنحة الحركة، خاصة تلك التي تميل إلى الانفتاح السياسي أو التفاوض مع أطراف إقليمية ودولية. عرف الزهار بموقفه الحاد الرافض لأي تسوية سياسية أو مصالحة مع إسرائيل، معتبرا أن أي اتفاقيات أو حلول وسط تمثل "تفريطا في الثوابت الوطنية". هذا الموقف جعله من الأصوات القليلة داخل حماس التي ترفض بشكل قاطع مسار المفاوضات أو أي شكل من أشكال "التهدئة طويلة الأمد" مع الاحتلال، ما عزز صورته كأحد صقور الحركة وأكثر قادتها تمسكا بخيار المقاومة المسلحة.
تصاعدت الخلافات بشكل خاص بين الزهار وقيادة حماس في الخارج، وتحديدا مع خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي للحركة. كان الزهار يتهم مشعل بالانحياز الكامل لسياسات قطر وتركيا، ورأى أن هذا التوجه أضر بعلاقات حماس الاستراتيجية مع إيران وسوريا، اللتين كانتا تعدان من أبرز الداعمين العسكريين والماليين للحركة. في المقابل، كان جناح مشعل يرى أن الزهار يميل إلى "الارتهان للمحور الإيراني" وأن مواقفه المتشددة قد تزيد عزلة حماس سياسيا وتضعف قدرتها على كسب الدعم العربي والدولي.
بلغت حدة التوتر ذروتها بعد صدور "وثيقة المبادئ والسياسات العامة" في مايو 2017، التي أعلنت فيها حماس قبولها بدولة فلسطينية على حدود 1967 دون اعتراف صريح بإسرائيل. اعتبر الزهار أن هذه الوثيقة تمثل "تنازلا عن الثوابت" ومحاولة لإرضاء أطراف إقليمية ودولية على حساب مشروع المقاومة. في تصريحات علنية، انتقد قيادة الحركة قائلا إن الوثيقة "تبدد هوية حماس الإسلامية" وتتناقض مع ميثاقها التأسيسي لعام 1988. موقفه المتشدد أثار انقساما داخل الحركة بين جناحين: أحدهما براغماتي يمثله مشعل وقيادات الخارج، وآخر أيديولوجي متشدد يقوده الزهار وقيادات الداخل.
رغم هذه الخلافات، ظل الزهار لاعبا محوريا داخل حماس بفضل نفوذه الكبير في قطاع غزة، حيث يحظى بتأييد جناح عسكري واسع داخل كتائب القسام، إضافة إلى دعمه القوي من إيران. هذا المزيج من الثقل السياسي والعسكري جعل من الصعب تهميشه داخل الحركة، حتى في فترات صعود قيادات أخرى مثل يحيى السنوار وصالح العاروري. ومع ذلك، ينظر إلى الزهار اليوم باعتباره رمزا للتيار الأيديولوجي المتشدد في حماس، وصوتا معارضا لأي تحولات براغماتية في سياساتها الداخلية أو الخارجية.
العلاقات الإقليمية
لعب محمود الزهار دورا محوريا في صياغة العلاقة الاستراتيجية بين حركة حماس وإيران منذ بدايات الألفية الجديدة. فقد كان من أبرز مهندسي التعاون العسكري والمالي بين الطرفين، حيث ساهم في بناء قنوات اتصال مباشرة مع الحرس الثوري الإيراني، أسهمت في تطوير قدرات كتائب القسام النوعية على مستوى التسليح والتدريب. كان الزهار يرى أن إيران تمثل "العمق الاستراتيجي" للمقاومة الفلسطينية، وأن دعمها العسكري والمالي لا غنى عنه في مواجهة إسرائيل، خصوصا في ظل تراجع الدعم العربي الرسمي لحماس منذ منتصف العقد الأول من الألفية.
إلى جانب دوره في ترسيخ العلاقة مع إيران، كان الزهار أحد أبرز الداعمين للمحور الذي يضم سوريا وحزب الله. قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، حافظ على علاقات وثيقة مع القيادة السورية، وشارك في لقاءات جمعت وفود حماس بالرئيس السوري بشار الأسد، حيث كان يعتبر دمشق حاضنة أساسية للحركة ومركزا استراتيجيا لعمل قيادتها في الخارج. كما لعب دورا في تنسيق التعاون مع حزب الله اللبناني، مستفيدا من خبراته العسكرية في حروب العصابات، وهو ما انعكس بشكل مباشر على تطور تكتيكات المقاومة في غزة.
لكن الموقف تغير جذريا بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، إذ انقسمت قيادة حماس حول مسألة الانحياز للنظام السوري أو دعم المعارضة. كان الزهار من أشد المعارضين لقطع العلاقات مع دمشق، معتبرا أن ذلك يضر بمصالح الحركة الاستراتيجية ويضعف صلتها بمحورها الأساسي الذي يضم إيران وحزب الله. في المقابل، انحازت قيادة الخارج بقيادة خالد مشعل إلى قطر وتركيا، وأعلنت مغادرتها لدمشق، وهو ما عمق الخلافات داخل حماس ودفع الزهار إلى توجيه انتقادات لاذعة لهذه السياسة، متهما مشعل بأنه "رهينة للأجندة القطرية والتركية" على حساب الدعم الإيراني والسوري.
هذا التباين في المواقف جعل الزهار واجهة للتيار الموالي لإيران داخل حماس، مقابل جناح آخر أكثر تقاربا مع قطر وتركيا. ومع صعود يحيى السنوار إلى قيادة الحركة في غزة عام 2017، وجد الزهار في ذلك فرصة لإعادة ترميم العلاقات مع طهران، حيث دعمت إيران الجناح العسكري لحماس بأسلحة متطورة وخبرات تقنية عالية. ومع ذلك، ما زالت الخلافات داخل الحركة قائمة حول حدود هذا التحالف الإقليمي، إذ يرى جناح الزهار أن المحور الإيراني – السوري – حزب الله هو الضامن الحقيقي لاستمرار المقاومة، بينما يعتقد جناح آخر أن الانفتاح على قطر وتركيا يوفر فرصا سياسية ومالية أوسع للحركة على المدى البعيد.
المواقف الفكرية والسياسية
يعد محمود الزهار أحد أبرز المنظرين داخل حركة حماس لفكرة "المقاومة المسلحة" كخيار استراتيجي وحيد لمواجهة إسرائيل، وهو من القيادات القليلة التي لم تغير موقفها منذ تأسيس الحركة عام 1987 وحتى اليوم. كان الزهار من أشد المعارضين لأي محاولات لتليين خطاب حماس أو تقديم تنازلات سياسية في سبيل المصالحة الفلسطينية أو التهدئة مع الاحتلال. فهو يرى أن أي تسوية سياسية مع إسرائيل تعد "خيانة وطنية" وتفريطا في دماء الشهداء وتضحيات الفلسطينيين، ويؤكد باستمرار أن العمل العسكري هو السبيل الأنجع لتحقيق التحرير.
على المستوى الفكري، تبنى الزهار رؤية قائمة على مركزية المشروع الإسلامي باعتباره الحل الوحيد للقضية الفلسطينية. فبالنسبة له، لا يمكن النظر إلى الصراع مع إسرائيل على أنه صراع حدودي أو سياسي فحسب، بل هو صراع عقائدي وحضاري بين مشروع إسلامي يسعى لتحرير الأرض واستعادة الهوية، ومشروع صهيوني مدعوم من الغرب يسعى للهيمنة على المنطقة. هذه القناعة جعلته من أكثر قيادات حماس قربا من الفكر الإخواني التقليدي، حيث تأثر منذ شبابه بأدبيات حسن البنا وسيد قطب، لكنه في الوقت نفسه صاغ خطابا عمليا يركز على المقاومة المسلحة بدلا من الخطاب الوعظي أو الحركي البحت.
رفض الزهار بشكل قاطع أي حلول مرحلية للصراع مع إسرائيل، بما في ذلك فكرة "الدولة الفلسطينية على حدود 1967"، التي اعتبرها خديعة سياسية تهدف إلى تصفية القضية. كما رفض التوقيع على أي اتفاقيات سلام أو اعتراف بإسرائيل، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهاجم قيادة السلطة الفلسطينية بشدة، متهما إياها بالتفريط في الحقوق الوطنية مقابل مكاسب سياسية ضيقة. وفي تصريحاته المتكررة، يؤكد أن الاعتراف بشرعية إسرائيل يعني "إلغاء تاريخ فلسطين وتضحيات شعبها"، وهو ما يرفضه بشكل مطلق.
إضافة إلى ذلك، يرى الزهار أن الجهاد هو الطريق الأوحد لتحرير فلسطين، وأن التفاوض والوساطات الدولية مجرد "فخاخ سياسية" تهدف لإجهاض روح المقاومة. وقد عبر عن هذه القناعة في أكثر من مناسبة، معتبرا أن ميزان القوى يمكن تغييره عبر تصعيد العمل العسكري وتطوير قدرات المقاومة، وليس عبر التنازلات الدبلوماسية. هذه الرؤية جعلته من أكثر القيادات تشددا داخل حماس، لكنها أيضا أكسبته شعبية بين أوساط القواعد الميدانية للحركة، خصوصا داخل كتائب القسام، التي ترى في مواقفه تعبيرا صريحا عن هوية حماس الأصلية كحركة مقاومة قبل أن تكون لاعبا سياسيا.
مواقف محمود الزهار من مصر
تشكل مصر بالنسبة لمحمود الزهار حالة خاصة تتجاوز البعد السياسي إلى أبعاد شخصية وتاريخية، نظرا لأن أمه مصرية، وقد قضى جزءا من طفولته في مدينة الإسماعيلية، فضلا عن دراسته للطب في جامعة عين شمس بالقاهرة في السبعينيات. هذا القرب الشخصي لم يمنع الزهار من اتخاذ مواقف سياسية حادة تجاه الحكومات المصرية، خصوصا في الملفات المرتبطة بعلاقة القاهرة بحركة حماس وبقطاع غزة. فبالنسبة له، مصر تمثل العمق الاستراتيجي لفلسطين، لكنها في الوقت نفسه قد تتحول إلى طرف ضاغط على غزة وفقا لمواقفها من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
العلاقات مع نظام مبارك
خلال فترة حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك (1981-2011)، كان الزهار من أبرز المنتقدين لسياسات القاهرة تجاه غزة، خاصة فيما يتعلق بالتنسيق الأمني مع إسرائيل وفرض القيود على معبر رفح. ورأى أن مصر كانت تضغط على حماس في سبيل دعم السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، معتبرا أن مبارك اتخذ موقفا منحازا ضد المقاومة. ومع ذلك، حافظ الزهار على قنوات تواصل أمنية وسياسية محدودة مع بعض الأجهزة المصرية، إدراكا منه لحساسية الموقع الجغرافي لغزة واعتمادها على المعبر الحدودي مع مصر في مواجهة الحصار الإسرائيلي.
الزهار وثورة 25 يناير 2011
رحب الزهار بثورة 25 يناير وسقوط نظام مبارك، واعتبر أن التغيير في مصر يشكل فرصة تاريخية لدعم القضية الفلسطينية ورفع الحصار عن غزة. شهدت تلك المرحلة دفئا نسبيا في علاقة حماس بالقاهرة، خاصة مع صعود الإخوان المسلمين ووصول الرئيس الراحل محمد مرسي إلى الحكم عام 2012. وخلال تلك الفترة، برز الزهار كأحد مهندسي العلاقة بين حماس ومصر، حيث كثف زياراته إلى القاهرة وشارك في حوارات حول ملف المصالحة الفلسطينية وفتح المعابر وتسهيل حركة البضائع والأفراد.
الصدام مع نظام السيسي
بعد 30 يونيو 2013 وسقوط حكم الإخوان، دخلت علاقة حماس مع مصر مرحلة شديدة التعقيد، خاصة بعد اتهام السلطات المصرية للحركة بالتورط في عمليات تهريب أسلحة ودعم جماعات مسلحة في سيناء. في تلك الفترة، اتخذ الزهار موقفا دفاعيا، نافيا أي تدخل لحماس في الشأن الداخلي المصري، لكنه في الوقت نفسه انتقد بشدة الحملة الإعلامية والأمنية التي استهدفت الحركة. كما وصف بعض الممارسات المصرية بأنها "ضغط سياسي لصالح إسرائيل"، لكنه حاول لاحقا تبني خطاب أكثر هدوءا للحفاظ على قنوات الاتصال مع القاهرة، نظرا لاعتماد غزة بشكل كبير على معبر رفح.
مواقفه من الجيش المصري ودوره الإقليمي
يؤكد الزهار في خطاباته أن مصر، رغم خلافاته مع أنظمتها المتعاقبة، تبقى الركيزة الأساسية للأمن القومي الفلسطيني، وأن دور الجيش المصري تاريخيا لا يمكن تجاهله في دعم القضية الفلسطينية. ومع ذلك، ينتقد بقوة أي تنسيق أمني بين القاهرة وتل أبيب، معتبرا أنه يقوض "المشروع المقاوم". وفي الوقت ذاته، يرى أن مصر يجب أن تلعب دور الوسيط النزيه بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، لكنه يرفض أن يتحول هذا الدور إلى ضغوط على حماس للتخلي عن خيار المقاومة أو القبول بحلول سياسية مجتزأة.
يمكن القول إن مواقف محمود الزهار من مصر تتراوح بين الترحيب والتصعيد وفقا لطبيعة النظام الحاكم في القاهرة. فبينما كانت علاقته دافئة في عهد مرسي ومتوترة في عهدي مبارك والسيسي، ظل ينظر إلى مصر باعتبارها اللاعب الإقليمي الأهم في الملف الفلسطيني، مع تمسكه الدائم برفض أي ضغوط تمس سلاح المقاومة أو تفرض على حماس التخلي عن ثوابتها السياسية.
الخاتمة
يظل محمود الزهار واحدا من أكثر الشخصيات تأثيرا في مسيرة حركة حماس منذ تأسيسها وحتى اليوم، ليس فقط بسبب حضوره السياسي القوي ومواقفه الفكرية المتشددة، بل أيضا بفضل قدرته على رسم مسارات بديلة للحركة في لحظات التحول الإقليمي والدولي. فالرجل الذي فقد اثنين من أبنائه في قصف إسرائيلي، لم يغير قناعته بأن المقاومة المسلحة هي الخيار الاستراتيجي الوحيد لتحرير فلسطين، رافضا أي حلول وسط أو تسويات سياسية. وبينما يرى فيه أنصاره "صقر حماس" الذي لا يلين، يعتبره خصومه صوتا متصلبا ساهم في تكريس عزلة الحركة سياسيا وإقليميا.
ومع تعقد المشهد الفلسطيني وتزايد الضغوط الإقليمية والدولية على حماس، يظل الزهار رمزا للصراع الداخلي بين تيار براغماتي يسعى للانفتاح على تسويات سياسية وتفاهمات إقليمية، وتيار أيديولوجي متشدد يتمسك بالثوابت ويرفض أي تنازل. اليوم، ورغم تقدمه في العمر وتراجع حضوره الإعلامي مقارنة بقيادات شابة مثل يحيى السنوار وصالح العاروري، يبقى الزهار أحد أبرز الأصوات التي تعبر عن جوهر الهوية الأصلية للحركة، وعن رؤيتها للصراع باعتباره معركة وجود لا تسوية فيها.
