من بغداد إلى بكين.. واشنطن تحاصر اقتصاد الظل الإيراني وتقطع شرايين تمويل الحرس الثوري

السبت 11/أكتوبر/2025 - 10:57 ص
طباعة من بغداد إلى بكين.. فاطمة عبدالغني
 
في ظل تصاعد التوترات الإقليمية بالشرق الأوسط وتنامي المخاوف الغربية من اتساع نفوذ طهران عبر أذرعها المنتشرة في المنطقة، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية حزمة جديدة من العقوبات تعد الأوسع منذ عام 2019، مستهدفة شبكات مالية وتجارية معقدة مرتبطة بإيران، تمتد من مصارف عراقية وشركات مقاولات محلية إلى واجهات شحن ومصافي آسيوية ضخمة.
 هذه العقوبات لا تأتي في سياق منفصل أو خطوة دبلوماسية رمزية، بل تمثّل – بحسب توصيف مراقبين في واشنطن – المرحلة الأكثر حسماً في استراتيجية "الخنق الاقتصادي" التي تبنتها الإدارة الأمريكية لتجفيف الموارد التي تمول العمليات العسكرية والاستخباراتية الإيرانية في المنطقة، لا سيما في العراق واليمن وسوريا ولبنان.
وتسعى واشنطن من خلال هذه الحزمة المركبة، إلى إغلاق كل المنافذ المالية واللوجستية التي تُمكن النظام الإيراني من تجاوز القيود المفروضة عليه منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، فبدلاً من الاقتصار على معاقبة كيانات رسمية داخل إيران، امتدت الإجراءات إلى مراكز نفوذها الخارجية في العراق، حيث تغلغلت شبكات تابعة لفيلق القدس وكتائب حزب الله في النظام المصرفي العراقي، واستغلت ثغراته للحصول على الدولار وتهريب عائدات النفط عبر واجهات استثمارية وتجارية، كما طالت العقوبات أسطولاً بحرياً واسعاً يضم عشرات السفن التي تُستخدم لنقل النفط الإيراني بطريقة غير شرعية إلى مصاف وشركات آسيوية، أبرزها في الصين وهونغ كونغ وسنغافورة، مما جعلها – وفق توصيف وزارة الخزانة – "شريان الحياة المالي للنظام الإيراني".
وتأتي هذه الخطوة في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط تزايداً في التداخل بين الاقتصاد والسياسة والأمن، إذ باتت خطوط التهريب المالي والتجاري الإيرانية تتقاطع مع مصالح دول وشركات كبرى، ما جعل مواجهتها عملية معقدة تتطلب تعاوناً دولياً واسعاً. 
ومع تصاعد الدور الإيراني في دعم الميليشيات الموالية له داخل العراق، ووقوفها وراء الهجمات على المصالح الأمريكية وشركائها الإقليميين، رأت واشنطن أن تقليص نفوذ طهران لا يمكن أن يتحقق عبر الردع العسكري فقط، بل من خلال ضرب بنيتها المالية والاقتصادية التي تغذي أنشطتها. 
ومن هنا اتخذت الإدارة الأمريكية قراراً بتوسيع نطاق العقوبات لتشمل، لأول مرة بهذا الحجم، كيانات عراقية تعمل واجهة لتبييض أموال وتمويل أذرع الحرس الثوري، إلى جانب شركات نقل وشحن في آسيا اعتُبرت جزءاً من شبكة عالمية متشابكة تسعى إلى الالتفاف على القيود الدولية المفروضة على النفط الإيراني.
ولا يخفى أن هذه العقوبات تحمل في طيّاتها رسائل سياسية واضحة، مفادها أن واشنطن لم تعد ترى في العراق مجرد ساحة صراع جانبية، بل محوراً أساسياً في منظومة النفوذ الإيراني الإقليمي، وأن ضرب المصارف والشركات العراقية المرتبطة بطهران يهدف إلى تحجيم قدرة الأخيرة على تمويل عملياتها العسكرية دون الاصطدام المباشر داخل الأراضي الإيرانية، كما تعكس الخطوة تصميم الإدارة الأمريكية على تقويض ما يُعرف بـ"اقتصاد الظل" الذي مكّن طهران طوال السنوات الماضية من امتصاص أثر العقوبات السابقة والاستمرار في تمويل الحرس الثوري وعملياته الخارجية.
وقد شملت قائمة العقوبات الجديدة أكثر من خمسين كياناً وفرداً في العراق وإيران ودول آسيوية أخرى، بينهم مدراء مصارف وشركات وسماسرة نفط ووسطاء ماليون يتولون نقل الأموال والوقود والمعدات لصالح الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس، كما تم إدراج عدد من السفن التجارية العاملة ضمن ما يُعرف بـ"أسطول الظل" الذي يدير عمليات نقل النفط الإيراني سراً عبر سلسلة معقدة من شركات وسيطة وتبديل للأعلام ومسارات الشحن في المياه الدولية. 
وقد أكدت وزارة الخزانة الأمريكية أن هذه السفن قامت بعمليات تهريب تجاوزت قيمتها مليارات الدولارات خلال العامين الماضيين، ما مكن إيران من تمويل نشاطاتها العسكرية في سوريا واليمن والعراق ولبنان رغم العقوبات السابقة.
أما في العراق، فقد ركزت العقوبات على مصارف محلية وشركات مالية ومؤسسات مقاولات ضخمة استخدمتها ميليشيات موالية لإيران كواجهة لتمويل عملياتها وتحصيل الدولار من خلال مزادات البنك المركزي، وأوضحت الخزانة أن بعض هذه الكيانات كان يُسهّل تحويل الأموال إلى فيلق القدس وكتائب حزب الله، ويشارك في صفقات مشبوهة لشراء معدات مزدوجة الاستخدام يمكن استغلالها في برامج التسلّح الإيرانية، كما أُدرجت شخصيات عراقية بارزة على قوائم الحظر بتهمة استخدام نفوذها الحكومي لتغطية تلك الأنشطة، فيما حذرت واشنطن من أنها قد توسّع القائمة لتشمل مسؤولين آخرين إذا لم تتخذ بغداد خطوات فعلية لإغلاق هذه القنوات.
وفي الجانب الآسيوي، ركّزت العقوبات على شركات شحن ومصافي نفط في الصين وهونغ كونغ وسنغافورة ساعدت في تسويق النفط الإيراني عبر وسطاء، مستخدمة أنظمة معقّدة لتبديل أسماء السفن وتغيير وجهاتها خلال الرحلات لتضليل أنظمة التتبع البحرية. 
وأشارت التقارير الأمريكية إلى أن هذه المصافي تلقت ملايين البراميل من النفط الإيراني خلال عام 2024، ما ساهم في تزويد النظام الإيراني بإيرادات نقدية كبيرة تُستخدم في تمويل الحرس الثوري وأنشطته الإقليمية، كما تم تجميد أصول مالية وحسابات مصرفية تابعة لتلك الشركات والسفن، مع تحذير أمريكي صريح بأن أي جهة تتعاون معها ستخضع بدورها للعقوبات الثانوية.
وتُظهر هذه الإجراءات مدى توسع المنظور الأمريكي تجاه إيران، إذ لم تعد العقوبات تقتصر على "الكيانات المباشرة" داخل الحدود الإيرانية، بل باتت تستهدف "الدوائر المحيطة" التي تُمكن النظام من التحايل على القيود عبر واجهات مالية وتجارية في العراق وشرق آسيا، ويبدو أن واشنطن تراهن على أن ضرب هذه الشبكات المتشابكة سيحد تدريجياً من قدرة إيران على تمويل أنشطتها المزعزعة للاستقرار، خصوصاً في ظلّ الضغوط الاقتصادية الداخلية التي تعانيها البلاد نتيجة تراجع عملتها وارتفاع معدلات التضخم والبطالة.
ومن الناحية الاستراتيجية، تشير هذه العقوبات إلى محاولة واشنطن بناء "جدار مالي" يمنع تدفق الأموال والوقود والسلاح إلى وكلاء إيران في المنطقة، ويمنحها في الوقت نفسه أداة ضغط غير عسكرية قابلة للتصعيد أو التخفيف وفقاً للتطورات السياسية والأمنية، فهي تمهد لتكامل بين العمل الاستخباراتي والاقتصادي، وتضع حلفاء الولايات المتحدة أمام مسؤولية مشتركة في تتبّع مسارات المال والنفط الإيراني، ما يعزز قدرة واشنطن على عزل طهران دولياً دون الحاجة إلى مواجهة عسكرية مفتوحة. 
غير أن هذا التوجه يحمل أيضاً تحديات واقعية، إذ أثبتت التجارب السابقة قدرة إيران على إنشاء واجهات جديدة خلال أشهر قليلة، مستفيدة من دول وشركات لا تتقيد بشكل صارم بالعقوبات الأمريكية، الأمر الذي يفرض على واشنطن تطوير أدوات مراقبة أكثر ديناميكية ومرونة.
ويرى المراقبين أن الحزمة الأخيرة تمثل بداية مرحلة جديدة من الصراع غير المعلن بين واشنطن وطهران، فبينما تعتمد إيران على الاقتصاد الموازي والتحالف مع شبكات مالية خارجية لتأمين التمويل، تسعى الولايات المتحدة إلى ضرب تلك الروابط واحدة تلو الأخرى حتى تفقد طهران قدرتها على تمويل مشاريعها العسكرية والاستخباراتية، ويرى محللون أن العقوبات الأخيرة تحمل أيضاً رسالة تحذيرية إلى بغداد، مفادها أن أي تهاون مع تغلغل الحرس الثوري داخل النظام المالي العراقي سيضع المؤسسات العراقية تحت طائلة الإجراءات الأمريكية. 
وفي المقابل، يتوقع خبراء اقتصاديون أن تؤدي هذه العقوبات إلى اضطراب مؤقت في سوق الطاقة العالمية، لكنها على المدى البعيد ستدفع عدداً من الدول الآسيوية إلى تقليص تعاملاتها مع النفط الإيراني لتفادي العقوبات الثانوية.
ويجمع المراقبون في النهاية على أن واشنطن تعتمد في الوقت الراهن سياسة "الضغط المركّب" التي تجمع بين العقوبات المالية والعزلة الدبلوماسية والاستهداف الاستخباراتي، لتعيد رسم توازن القوى في الشرق الأوسط بما يحدّ من تمدد إيران ويكبح قدرتها على تهديد الاستقرار الإقليمي. 
ومع أن هذه الاستراتيجية لن تحقق نتائج فورية، إلا أن تكاملها مع الجهود الأوروبية والخليجية قد يجعلها أكثر تأثيراً في المدى المتوسط، خاصة إذا ترافق ذلك مع دعم إصلاحات اقتصادية داخل العراق تُغلق الثغرات التي تغذّي النفوذ الإيراني، وهكذا يبدو أن العقوبات الأخيرة ليست نهاية جولة، بل بداية فصل جديد من المواجهة المالية بين واشنطن وطهران، تُدار بصمت لكنها تترك بصماتها العميقة على خرائط القوة في المنطقة.

شارك