نموذج بورنو.. قراءة تحليلية في تجربة نيجيريا المحلية لمكافحة الإرهاب
الإثنين 20/أكتوبر/2025 - 10:07 ص
طباعة

شكل التقرير الصادر مؤخرًا عن منظمة Hum Angel، التي تعنى برصد النزاعات والأزمات الإنسانية في إفريقيا، مدخلًا لنقاش جديد حول فعالية برامج إعادة تأهيل وإدماج المقاتلين المستسلمين في نيجيريا فقد انتقد التقرير تخصيص ولاية بورنو في شمال شرق البلاد ميزانية قدرها 7.46 مليار نيرة نيجيرية (نحو خمسة ملايين دولار أمريكي) لهذه البرامج، معتبرًا أن الإنفاق عليها "غير ذي جدوى".
غير أن هذا الرأي لا يعكس الصورة كاملة، إذ تشير تقارير أخرى، مثل التقرير المشترك بين معهد السياسات العامة العالمية (GPPi) في برلين ومعهد الدراسات الأمنية (ISS) في جنوب إفريقيا، إلى أن تجربة بورنو تمثل أحد أكثر النماذج المحلية نضجًا في مواجهة التطرف بوسائل غير عسكرية، تقوم على الدمج بين المعالجة النفسية والمقاربات الاجتماعية، في إطار رؤية تتلاءم مع الطبيعة الجغرافية والسياسية للولاية.
لقد شكلت ولاية بورنو منذ عام 2009 بؤرة النشاط الإرهابي في نيجيريا، نتيجة موقعها الاستراتيجي المحاذي لغابة سابمبيسا وبحيرة تشاد وجبال ماندارا، ما جعلها ملاذًا للجماعات المسلحة التابعة لكل من تنظيمي القاعدة وداعش.
في هذا السياق، جاء التحول في سياسات الولاية ليعكس فهمًا أعمق لطبيعة الصراع، إذ لم تعد المواجهة مقتصرة على السلاح، بل امتدت إلى إعادة بناء الإنسان.
محاكمات شاملة
على المستوى الاتحادي، حاولت الحكومة النيجيرية منذ البداية أن توازن بين نهج العفو العام الذي رفضه الشارع ورفضه الجيش، وبين المحاكمات الشاملة التي كانت تصطدم بعدد هائل من القضايا وضعف الإمكانات.
ومن هنا انطلقت برامج إعادة التأهيل التي تنوعت بين مبادرات مدنية محدودة وأخرى رسمية أكثر تنظيمًا، أبرزها "برنامج السجون" و"عملية الممر الآمن". وقد شكل الأخير تجربة متقدمة في هذا المجال، إذ أتاح للمنشقين عن التنظيمات الإرهابية فرصة الانخراط في برامج دينية ونفسية ومهنية تؤهلهم للعودة إلى الحياة الطبيعية، بتمويل ودعم من منظمات مثل اليونيسف والمنظمة الدولية للهجرة والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
وبفضل هذا الدعم، تمكن البرنامج من إعادة تأهيل أكثر من ألفي مقاتل سابق، ما يعد مؤشرًا على نجاح المقاربة الاتحادية حين تتوفر لها الإرادة السياسية والبنية المؤسسية.
غير أن التحول النوعي الحقيقي جاء من المستوى المحلي. فبعد مقتل زعيم جماعة بوكو حرام، أبوبكر شيكاو، في مايو 2021، شهدت المنطقة موجة استسلام جماعي غير مسبوقة في صفوف التنظيم.
ومع هذا التدفق الكبير، أدركت سلطات بورنو أن مواجهة الظاهرة لم تعد أمنية فحسب، بل إن إدارة ما بعد الاستسلام باتت معضلة قائمة بذاتها ومن هنا ولد ما عرف بـ"نموذج بورنو" في أبريل 2022، كإطار حكومي محلي لإدارة الانشقاقات الجماعية عن الجماعات المسلحة ضمن رؤية إنسانية متكاملة.
معالجة شاملة للجوانب النفسية والاجتماعية
يقوم "نموذج بورنو" على معالجة شاملة للجوانب النفسية والاجتماعية للمستسلمين، مع توفير فرص التدريب المهني والدعم المادي، وضمان وحدة الأسرة خلال فترة إعادة التأهيل التي تمتد في الغالب إلى تسعة أشهر.
وأنشأت الولاية لجنة متخصصة تعرف باسم "لجنة إعادة الإدماج المجتمعية" لتنسيق الجهود بين الأجهزة المحلية والاتحادية والمنظمات الدولية، بهدف ضمان استمرارية العمل ضمن خطة حوكمة واضحة.
ويتميز هذا النموذج بكونه يقتصر على من استسلموا طواعية دون إكراه، كما أنه يستثني نقلهم إلى مراكز التحقيق العسكرية سيئة السمعة، الأمر الذي عزز طابعه الإنساني ورفع من نسب الإقبال عليه.
من الناحية المفاهيمية، يمثل "نموذج بورنو" تحولًا في التفكير الأمني النيجيري، إذ يعيد تعريف مكافحة الإرهاب من منظور اجتماعي وثقافي، لا يكتفي بتفكيك التنظيمات بل يسعى إلى تفكيك الأفكار والبنى النفسية التي أنتجتها.
وهو بذلك ينتقل من منطق الردع إلى منطق الإدماج، ومن أولوية الأمن الصلب إلى أولوية الأمن الإنساني وقد أظهرت الدراسات المشتركة بين GPPi وISS أن سر نجاح هذا النموذج يكمن في إنسانيته وطابعه التطوعي القائم على الثقة أكثر من القسر، إلى جانب اعتماده على مقاربات محلية منسجمة مع ثقافة المجتمع، وتعاونه المستمر مع الهيئات الوطنية والدولية لتأمين بيئة مؤسسية مرنة ومتعددة المستويات.
كما أبرزت تلك الدراسات أهمية المتابعة اللاحقة للمستفيدين بعد الإفراج عنهم، وضرورة تمكينهم اقتصاديًا لتفادي عودتهم إلى التطرف.
تحديات هيكلية
لكن هذه النجاحات لم تخف التحديات الهيكلية التي تواجه النموذج فغياب هدنة حقيقية في الميدان واستمرار حملات التجنيد داخل التنظيمات الإرهابية يقللان من أثر المبادرات المدنية.
كما أن محدودية التمويل الدولي، وضعف التنسيق بين المستويات الاتحادية والإقليمية، وغياب الدراسات الأكاديمية المتخصصة التي توثق نتائج النموذج، كلها عوامل تعرقل تحوله إلى تجربة معيارية قابلة للتعميم.
يضاف إلى ذلك استمرار الشكوك المجتمعية تجاه المقاتلين التائبين، ما يهدد بخلق فجوة نفسية واجتماعية بين المستفيدين والمجتمعات المحلية التي يفترض أن تعيد احتواءهم.
من منظور استراتيجي، يمثل "نموذج بورنو" محاولة طموحة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع في مناطق النزاع فهو يؤكد أن معالجة التطرف لا يمكن أن تتحقق عبر القوة وحدها، بل عبر استعادة الثقة وإعادة بناء الروابط الاجتماعية التي دمرها العنف.
وفي هذا المعنى، يمكن النظر إلى التجربة بوصفها خطوة نحو ترسيخ مفهوم "الأمن الإنساني" كبديل واقعي لمقاربات العسكرة التقليدية.