تمدّد نصرة الإسلام والمسلمين.. مشهد إرهابي متفجر يعيد رسم خرائط الساحل وغرب أفريقيا
الثلاثاء 18/نوفمبر/2025 - 12:38 م
طباعة
حسام الحداد
تشهد منطقة الساحل الأفريقي تحوّلًا غير مسبوق في خارطة الإرهاب، إذ أصبحت واحدة من أكثر بؤر العنف دموية في العالم خلال الأعوام الأخيرة. المنطقة التي يسكنها نحو 75 مليون نسمة سجّلت منذ عام 2021 أعلى معدلات القتلى في أفريقيا، وبلغ عدد ضحايا الإرهاب فيها عام 2024 وحده أكثر من 11,200 قتيل—أي أكثر من نصف ضحايا القارة في ذلك العام. وفي ظل الانقلابات المتتالية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ازداد الوضع هشاشة، ليرتفع عدد النازحين إلى أكثر من 2.9 مليون شخص بحلول منتصف 2025، معظمهم من الأطفال.
وسط هذا الانهيار الأمني، برزت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين كأقوى الفاعلين الجهاديين المرتبطين بتنظيم القاعدة، مستغلة مظالم اجتماعية واقتصادية عميقة، وتدهور الحكم، وضعف المؤسسات، والتغيرات البيئية. الجماعة التي تأسست عام 2017 ويصل عدد مقاتليها إلى 6000 عنصر، تحولت بسرعة إلى رأس الحربة في الصراع المحتدم على النوذ بين الجماعات الإسلامية المسلحة في الساحل.
هجمات تتغير تكتيكاتها.. وذكاء اصطناعي وطائرات مسيرة
تشهد الهجمات الإرهابية في الساحل تطوّرًا لافتًا في التكتيكات المستخدمة، مع انتقال الجماعات المتطرفة من الأساليب التقليدية—كالكمائن والهجمات المباشرة—إلى أدوات أكثر تطورًا وفعالية. فخلال العامين الأخيرين زاد اعتماد الجماعات المرتبطة بالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية على الطائرات التجارية المسيرة منخفضة التكلفة، التي تحولت إلى وسيلة هجوم تجمع بين الدقة وصعوبة الرصد. هذه الطائرات تُستخدم في عمليات الاستطلاع قبل الهجوم، وفي ضرب الأهداف العسكرية، وحتى في الهجمات بالمتفجرات ضد مواقع حساسة، وهو ما أربك الجيوش المحلية التي تفتقر إلى أنظمة متخصصة للتعامل مع هذا النوع من التهديد.
وفي موازاة العمل الميداني، توسعت التنظيمات المسلحة في دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في حملاتها الدعائية، ما منح خطابها قدرة أكبر على الوصول والتأثير. فالجماعات باتت تنتج محتوى مرئيًا وصوتيًا محسّنًا بالذكاء الاصطناعي، يحاكي اللغة المحلية ويستهدف الفئات الأكثر هشاشة، خصوصًا الشباب في المناطق الريفية. كما تستخدم برامج توليد النصوص والصوت والوجه لتزييف بيانات أو تهديدات، مما يعرقل جهود الحكومات في كشف الأخبار الكاذبة ويمنح التنظيمات تفوّقًا جديدًا في ساحة الحرب الإعلامية.
إلى جانب ذلك، تتجه الجماعات الإرهابية نحو توسيع مصادر تمويلها عبر العملات المشفّرة، مُستفيدة من ضعف الرقابة المالية في المنطقة وصعوبة تتبع المعاملات الرقمية. هذا التحول جاء بالتوازي مع سعيها للسيطرة على الموارد الطبيعية، وعلى رأسها الذهب. ففي إقليم كايس بمالي—الذي يوفّر نحو 70% من إنتاج الذهب في البلاد—فرضت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين حصارًا على إمدادات الوقود، في محاولة للضغط على المنقّبين وفرض الإتاوات، مستفيدة من الارتفاع العالمي في أسعار الذهب لتحويل المناجم الحرفية إلى مصدر تمويل رئيسي لدعم عملياتها العسكرية وتوسيع نفوذها.
تمدد لا يتوقف.. من الساحل إلى خليج غينيا
شهدت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين خلال العامين 2024 و2025 مرحلة جديدة من التمدد الجغرافي، انتقلت فيها من حدود نشاطها التقليدي في مالي وبوركينا فاسو والنيجر إلى فضاءات أوسع في غرب أفريقيا. فقد باتت الجماعة قادرة على تنفيذ هجمات منسقة داخل دول خليج غينيا مثل بنين وتوغو وكوت ديفوار، مستفيدة من ضعف السيطرة الأمنية في المناطق الحدودية وغياب التنسيق الإقليمي الفعال. هذا الانتشار السريع يعكس قدرتها التنظيمية على التحرك عبر مساحات واسعة وبناء شبكات دعم محلية تعتمد على التحريض الأيديولوجي، وتوظيف المظالم الاجتماعية والاقتصادية في المناطق الطرفية.
ومع نهاية أكتوبر 2025، سجّلت الجماعة تحولًا خطيرًا عندما نفذت أول هجوم على الأراضي النيجيرية، استهدف جنودًا في دورية بولاية كوارا وأسفر عن مقتل أحدهم. هذا الهجوم لم يكن مجرد حادث معزول، بل إشارة إلى نية واضحة لفتح جبهة جديدة داخل أكبر دولة في غرب أفريقيا من حيث عدد السكان. وقد سبقت الهجوم مؤشرات عدة، أبرزها إعلان الجماعة في يونيو 2025 مساعيها لإنشاء كتيبة تعمل داخل نيجيريا، في خطوة تعكس ثقتها بنمو قدراتها وتوسع نفوذها الإقليمي.
يمثل اختيار ولاية كوارا نقطة استراتيجية بالغة الأهمية؛ فالولاية تقع في قلب نيجيريا، وتمتد حدودها غربًا نحو بنين ما يسهل عمليات التسلل والانسحاب السريع. كما أن قربها من العاصمة الفيدرالية يجعلها بوابة محتملة للضغط السياسي والأمني على الدولة النيجيرية. إضافة إلى ذلك، يشكل قرب كوارا من ولايات مثل نيجر وأوسون—حيث توجد رواسب ذهبية كبيرة—عامل جذب للجماعات الإرهابية الساعية للسيطرة على الموارد الطبيعية لتمويل أنشطتها. هذا الطموح يعزز النظرة إلى أن تمدد الجماعة ليس فقط جغرافيًا، بل اقتصاديًا أيضًا، وهو ما ينذر بمرحلة أشد تعقيدًا في المواجهة مع الإرهاب في المنطقة.
صعود داعش.. وتنافس دموي على النفوذ
بينما تواصل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تمددها عبر غرب أفريقيا، يعيش تنظيم الدولة الإسلامية مرحلة صعود موازية، خصوصًا في ولاية بورنو وشمال شرق نيجيريا. فقد ارتفع عدد مقاتلي التنظيم من نحو 400 عنصر فقط عام 2018 إلى أكثر من 3000 مقاتل اليوم، في نمو غير مسبوق يعكس قدرة التنظيم على التجنيد واستغلال هشاشة الدولة في المناطق الريفية. هذا التمدد ترافق مع تصاعد في وحشية هجماته، كان أبرزها مجزرة يونيو الماضي في مسجد بمدينة ماندا النيجيرية، حيث قتل عناصر التنظيم 70 مصلّيًا أثناء صلاة الفجر، في رسالة دموية تؤكد رغبته في ترهيب السكان وإحكام قبضته على المجتمعات المحلية.
ويُعدّ الصراع بين داعش وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين أحد أخطر عوامل تفاقم العنف في منطقة الساحل. فالتنافس بينهما لم يعد مجرد خلاف عقائدي، بل تحول إلى صراع مفتوح على النفوذ والموارد والممرات الاستراتيجية، خصوصًا داخل مثلث ليبتاكو–غورما الذي تلتقي فيه حدود مالي والنيجر وبوركينا فاسو. في هذه المنطقة الغنية بالطرق التجارية والموارد الطبيعية، تسعى كل جماعة لإثبات تفوقها عبر السيطرة على القرى والطرق الرابطة ومخازن الأسلحة، ما يدفع السكان إلى النزوح ويزيد من تعقيد المشهد الأمني، ويخلق فراغًا تستغله الجماعتان لتوسيع نطاق عملياتهما.
تُظهر بيانات مشروع ACLED وتحليل وكالة فرانس برس حجم الانفجار الأمني في الساحل خلال السنوات الأخيرة. فمنذ عام 2019، نفذت الجماعات الإرهابية أكثر من 28 ألف هجوم، أسفرت عن 77 ألف قتيل. وخلال خمس سنوات فقط، ارتفع المعدل السنوي للهجمات من أقل من 1900 هجوم في 2019 إلى أكثر من 5500 هجوم في 2024. أمّا عام 2025، فقد شهد حتى منتصف أكتوبر وحده تسجيل أكثر من 3800 هجوم، ما يؤشر إلى أن وتيرة العنف تتجه إلى مستويات غير مسبوقة. هذه الأرقام تعكس ليس فقط تصاعد قدرات الجماعات المسلحة، بل أيضًا ضعف الاستجابات الحكومية والإقليمية، وغياب إستراتيجية موحدة لكبح تمدد التنظيمين المتنافسين.
شبح الحصار على باماكو.. ومخاوف من "أول دولة للقاعدة"
تعيش مالي، خلال الأشهر الأخيرة، واحدة من أكثر المراحل الأمنية اضطرابًا منذ اندلاع تمرد الجماعات المتطرفة في الساحل، بعدما صعّدت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين عملياتها العسكرية على نحو غير مسبوق. فالهجمات لم تعد متفرقة أو ذات طابع رمزي بل تحوّلت إلى استراتيجية ممنهجة تستهدف خنق خطوط الإمداد الحيوية للدولة، وعلى رأسها محاصرة شحنات الوقود المتجهة إلى البلد، ما يهدد الشريان الاقتصادي لمالي ويزيد من هشاشة الوضع المعيشي لسكانها.
وفي الوقت نفسه، تتزامن هذه التحركات مع توسّع لافت لنفوذ التنظيم في الجوار الإقليمي، حيث تشير التقديرات الأمنية إلى أن الجماعة، بالتوازي مع فرع داعش المحلي، تمكنت من السيطرة على نحو 50% من أراضي بوركينا فاسو خارج العاصمة واغادوغو. هذا التقدم يعكس حجم الفراغ الأمني في البلاد ويؤكد قدرة التنظيمات على ملء مساحات واسعة في ظل تراجع حضور الدولة المركزية وضعف الجيوش.
كما وسّعت الجماعة نطاق هجماتها على طول الحدود بين النيجر والجزائر، في تحرك يوحي بإعادة رسم مناطق النفوذ شمالًا، بالتوازي مع التقدم جنوبًا نحو بنين، وهو ما ينذر بتوسّع غير مسبوق للجماعات المتطرفة باتجاه الساحل الأطلسي. أما التطور الأخطر فكان السيطرة مؤخرًا على المركز الحدودي في أساماكا بالنيجر، بعد هجوم أدى إلى مقتل ستة جنود، ما كشف حجم هشاشة الدفاعات الحدودية لدول المنطقة.
هذا التمدد دفع محللين، مثل الباحث المتخصص جاكوب زين، إلى التحذير من احتمال توجّه الجماعة نحو محاصرة العاصمة المالية باماكو نفسها، في سيناريو غير مسبوق قد يجعل مالي على أعتاب أن تصبح أول دولة تخضع بشكل مباشر أو غير مباشر لنفوذ تنظيم القاعدة. فالتنظيم لم يعد مجرد فاعل متمرد في الأطراف، بل بات يقترب تدريجيًا من مركز الدولة.
وبرغم قوة التمدد العسكري، يرى الخبراء أن الجماعة لا تبدو حتى الآن مهتمة بإدارة المناطق التي تقع تحت سيطرتها، ربما لأسباب تتعلق بنقص الموارد أو بسبب خشيتها من فقدان التأييد المحلي إذا تحولت إلى سلطة حاكمة. لكن تقديرات أخرى تشير إلى أن هدفها على المدى المتوسط قد يكون فرض حكومة صديقة أو متعاونة معها في باماكو، حتى لو لم تحكم بشكل مباشر، بما يسمح لها بتحويل مالي إلى قاعدة نفوذ إقليمية تمنح القاعدة موقعًا استراتيجيًا لم تحصل عليه من قبل.
نيجيريا في مرمى النيران.. واستراتيجيات المواجهة
رغم أن نيجيريا حققت خلال السنوات الأخيرة قدرًا من التقدم في مكافحة الإرهاب عبر الجمع بين المقاربات العسكرية التقليدية والإجراءات غير القتالية، فإن دخول جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى جزء من أراضيها بات يمثل تحديًا استراتيجيًا جديدًا ومعقدًا. فبعد سنوات كان فيها التهديد يتمثل أساسًا في بوكو حرام وتنظيم الدولة في غرب أفريقيا، تواجه نيجيريا الآن جماعة أكثر مرونة وقدرة على المناورة عبر الحدود، خصوصًا مع تصاعد نشاطها في النيجر وبوركينا فاسو ومالي.
وتقترح الدوائر الأمنية في أبوجا حزمة من الإجراءات لتعزيز قدرة الدولة على منع تمدد الجماعة الجديدة، من بينها تعزيز أمن الحدود باستخدام تقنيات حديثة مثل أنظمة التعرف على الوجه والطائرات بدون طيار لمراقبة الممرات غير الشرعية. كما يجري بحث إنشاء قواعد عسكرية مؤقتة للانتشار السريع في مناطق التوتر بالشمال الأوسط، بما يسمح بالتصدي للهجمات في لحظاتها الأولى قبل اتساع دائرة العنف. إضافة إلى ذلك، يتم العمل على تفعيل أنظمة إنذار مبكر على مستوى الولايات، بهدف رصد التحركات المشبوهة وتحسين التواصل بين الأجهزة الأمنية والسكان المحليين.
لكن التحدي في نيجيريا لا يمكن فصله عن المشهد الإقليمي الأوسع في الساحل، حيث يتفاقم الصراع نتيجة تداخل عوامل هيكلية عميقة: غياب الحكم الرشيد، هشاشة مؤسسات الدولة، الفقر المزمن، وتراجع الاستقرار السياسي. وقد تعمّقت هذه الأزمات بعد طرد القوات الغربية من المنطقة واستقدام السلطات العسكرية في دول الساحل لمرتزقة "فيلق أفريقيا" كبديل عن قوات فاغنر، ما خلق فراغات أمنية جديدة وقلّص قدرة الدول على مواجهة التهديدات المتصاعدة. وفي ظل هذا الواقع، تبدو نيجيريا أمام اختبار مصيري يتطلب معالجة جذور الأزمة وليس فقط مظاهرها الأمنية.
خلاصة المشهد
تتوسع الهجمات الإرهابية في الساحل بوتيرة غير مسبوقة، مدفوعة بتنافس القاعدة وداعش، وانهيار الأنظمة الحاكمة، وتحوّل الموارد الطبيعية إلى وقود للصراع. ويبرز اسم نصرة الإسلام والمسلمين باعتبارها أقوى لاعب جهادي في المنطقة، مع طموحات تمتد من مناجم الذهب في مالي إلى قلب نيجيريا. وفي غياب حلول سياسية واستقرار مؤسسي، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة أكثر خطورة، قد تعيد رسم خريطة غرب أفريقيا لعقود قادمة.
