الساحل الأفريقي بين انكفاء فرنسا وصعود النفوذ الروسي.. فراغ أمني يعيد تشكيل خرائط القوة
الخميس 27/نوفمبر/2025 - 01:56 م
طباعة
محمود البتاكوشي
في واحدة من أكثر بقاع العالم هشاشة، تتراكم طبقات الانهيار فوق بعضها في منطقة الساحل الأفريقي، حيث تتقاطع الجغرافيا الوعرة مع دول مُنهكة ونفوذ خارجي متقلب، ومع انسحاب القوات الفرنسية وتقدم المرتزقة الروس، وجدت المنطقة نفسها أمام فراغ أمني متسع سرّع تمدد الجماعات الإرهابية وأضعف قدرة الحكومات على السيطرة.
منذ خروج آخر جندي فرنسي من مالي قبل ثلاثة أعوام، لم تفِ الوعود الروسية بإنهاء التمرد المسلح أو إعادة بناء المؤسسات، الفيلق الروسي الجديد المعروف بـ"فيلق إفريقيا"، الذي حل محل قوات فاغنر، لم يسع فقط إلى حماية الأنظمة العسكرية، بل اتجه لتأمين نفوذ اقتصادي طويل الأمد عبر السيطرة على الموارد الاستراتيجية، خصوصاً مناجم الذهب، هذا التداخل بين الوظيفة العسكرية والمصلحة الاقتصادية يجعل وجوده أداة نفوذ أكثر منه شريكاً أمنياً.
كما أوضح الدكتور أكاري سامبي، مدير معهد تمبكتو الإقليمي، أن هذه البنية الأمنية الهجينة تعمق اعتماد دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر على موسكو، مقابل تنازلات سياسية واقتصادية تضعف سيادة الدولة، فالمرتزقة لا يتدخلون لمنع الانهيار الأمني بقدر ما يركزون على حماية مناطق النفوذ، بينما تستمر الجماعات الإرهابية في توسيع سيطرتها.
الأزمة لم تعد مقتصرة على مناطق الأطراف، بل باتت تهدد العواصم، ففي مالي، ضيّقت جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" الخناق على باماكو من خلال حصار إمدادات الوقود.
ودفعت هذه الفوضى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى سحب موظفين غير أساسيين، كما دعت عدة سفارات رعاياها إلى مغادرة البلاد، المؤشرات الأممية تؤكد أن منطقة الساحل تحولت إلى بؤرة الإرهاب الأكبر عالميًا في 2024، حيث شهدت أكثر من نصف ضحايا الإرهاب المسجلين دوليًا.
ورغم الخطاب السيادي للأنظمة العسكرية الجديدة، فإن إبعاد النفوذ الغربي ترافق مع التعمق في علاقات بديلة مع موسكو؛ ما جعل دول الساحل تنتقل من دائرة نفوذ إلى أخرى دون بناء منظومة أمنية مستقلة.
ومع خروج مالي وبوركينا فاسو والنيجر من إيكواس، ازدادت عزلة المنطقة، وتفاقمت المخاوف لدى دول الجوار مثل بنين وغانا وساحل العاج من تمدد الإرهاب جنوبًا.
المقاربة العسكرية القائمة حالياً أثبتت محدوديتها، بل فاقمت جذور التطرف. فغياب التنمية وتآكل الخدمات العامة وتهميش المجتمعات المحلية جعلت تجنيد الشباب أسهل من أي وقت مضى.
كما شدد سامبي على أن الحل لا يمكن أن يقوم على القوة وحدها، بل على إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة عبر الحكم الرشيد، وإطلاق مشاريع تنموية توفر بديلاً حقيقياً للتمرد.
الغرب، رغم تردده، يجد نفسه مضطرًا لإعادة الانخراط، تقرير "فايننشال تايمز" يدعو إلى دعم استخباراتي وعسكري للدول الأكثر استقرارًا في الساحل الجنوبي، وإلى ضخ استثمارات تنموية توفر وظائف تكبح انتشار الفكر المتطرف، فالأزمة لم تعد محلية، بل تتجاوز حدود القارة وتهدد الأمن الدولي.
مما لا شك فيه أن الساحل يقف أمام لحظة مفصلية. فبين انسحاب القوى التقليدية وصعود لاعبين جدد، وتغوّل الإرهاب وتآكل الدولة، تبدو المنطقة بحاجة إلى مشروع سياسي شامل يعيد بناء المؤسسات قبل الحدود، والدولة قبل الجغرافيا، بدون ذلك، يبقى الساحل مساحة مفتوحة لكل من يملك سلاحًا أو نفوذًا أو أطماعًا في فراغ لا يحرسه أحد.
