استهداف طالبان للسينما.. الحركة تصعّد حربها ضد الثقافة الأفغانية

الأربعاء 17/ديسمبر/2025 - 08:46 م
طباعة محمد شعت
 

فوجئ سكان العاصمة الأفغانية "كابول" بهدم مبنى "سينما أريانا"، أحد أقدم المعالم الثقافية والفنية في البلاد، بقرار من بلدية العاصمة الخاضعة لسيطرة حركة طالبان، ولم يكن الحدث مجرد إزالة مبنى قديم أو إعادة تنظيم عمراني، بل شكّل صدمة ثقافية جديدة، وفتح بابًا واسعًا للنقاش حول سياسات طالبان تجاه الفن والفكر والإبداع، وحول مستقبل الذاكرة الثقافية الأفغانية التي تتعرض منذ سنوات لعملية محو منهجية، وفق تقارير أفغانية.

سينما أريانا، التي شُيّدت في منتصف القرن الماضي، لم تكن مجرد دار عرض للأفلام، بل كانت فضاءً ثقافيًا احتضن المسرح والعروض الفنية والفعاليات الاجتماعية، وشهد تحولات المجتمع الأفغاني في فترات السلم والحرب. ومع بدء عمليات الهدم، تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر عناصر من طالبان وهم يدمّرون المبنى ويزيلون أنقاضه، في مشهد أعاد إلى الأذهان صورًا سابقة لتدمير التماثيل والمعالم التاريخية التي ارتبط اسم الحركة بها منذ تسعينيات القرن الماضي. وبحسب مصادر محلية، فإن عملية إزالة الأنقاض استمرت لأيام، تمهيدًا لبناء سوق تجاري مكان السينما، في خطوة تُعبّر عن أولوية اقتصادية ضيقة على حساب القيمة الثقافية والرمزية للمكان.

لم يكن مصير سينما أريانا استثناءً، بل جاء ضمن سلسلة طويلة من الإجراءات التي اتخذتها طالبان ضد دور السينما والمراكز الفنية منذ عودتها إلى السلطة. فالحركة التي رفعت منذ تأسيسها شعار “تنقية المجتمع” من مظاهر ما تعتبره انحلالًا أخلاقيًا، ترى في السينما والفنون البصرية أدوات غربية تهدد رؤيتها الأيديولوجية الصارمة. وعلى الرغم من أن طالبان أقامت، بعد سيطرتها على البلاد في أغسطس 2021، مهرجانًا سينمائيًا محدودًا داخل مبنى سينما أريانا في محاولة لإظهار انفتاح شكلي أمام المجتمع الدولي، فإن هذا المشهد سرعان ما تلاشى، ليُغلق المبنى نهائيًا ثم يُهدم لاحقًا، في تناقض يعكس غياب رؤية ثقافية واضحة، وهيمنة الاعتبارات العقائدية والأمنية.

 

الفن تحت قبضة الأيديولوجيا

 

تتعامل حكومة طالبان مع الفن بوصفه ساحة صراع أيديولوجي، لا مجال فيها للتعدد أو التأويل. فالفنون، من سينما ومسرح وموسيقى ورسم، تخضع اليوم لقيود صارمة، وصلت في كثير من الأحيان إلى حد الحظر الكامل. وقد أعلنت السلطات منع بث الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، وفرضت رقابة مشددة على وسائل الإعلام، ما أدى إلى اختفاء شبه تام للإنتاج الفني المحلي. ومع غياب صناعة سينمائية فاعلة، أصبحت أفغانستان بلدًا بلا شاشة، وبلا منصة تعكس قصصه وهمومه وتناقضاته.

 

هذا النهج لا يمكن فصله عن الرؤية الدينية المتشددة التي تتبناها الحركة، والتي تفسر النصوص الدينية تفسيرًا أحاديًا، يجرّم الصورة والصوت والمشهد الدرامي. لكن المفارقة أن التاريخ الأفغاني نفسه حافل بالتنوع الثقافي والفني، وأن السينما والمسرح لعبا دورًا مهمًا في تشكيل الوعي الاجتماعي، خاصة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حين شهدت كابول ازدهارًا ثقافيًا لافتًا. هدم سينما أريانا، في هذا السياق، لا يعني فقط إزالة مبنى، بل يمثل قطعًا متعمدًا مع هذا الإرث، وإعلانًا عن قطيعة ثقافية مع الماضي.

 

تأتي هذه السياسات في وقت يعاني فيه المجتمع الأفغاني من أزمات اقتصادية وإنسانية خانقة، كان من الممكن أن يشكل فيه الفن متنفسًا نفسيًا ومساحة للتعبير. إلا أن طالبان اختارت مسار التضييق، مفضّلة تحويل المساحات الثقافية إلى أسواق تجارية أو مبانٍ دينية، في إعادة تعريف للفضاء العام بما يخدم رؤيتها الأحادية. وقد سبق للحركة أن هدمت سينما خير خانة، وهي دار سينما قديمة أخرى في كابول، معلنة نيتها بناء مسجد وسوق تجاري ومبنى سكني مكانها، في تكرار لنمط يضع الربح المادي أو الوظيفة الدينية فوق القيمة الثقافية.

 

المحو يطارد الذاكرة الجماعية

 

لا يقتصر أثر هدم دور السينما على الفنانين والمثقفين وحدهم، بل يمتد ليطال الذاكرة الجماعية للأفغان. فهذه المباني ارتبطت بذكريات أجيال كاملة، وكانت شاهدة على تحولات اجتماعية وسياسية عميقة. لذلك قوبل تدمير سينما أريانا، كما حدث سابقًا مع سينما بارك، بردود فعل غاضبة وحزينة، واعتبره كثيرون اعتداءً على الذاكرة الوطنية. سينما بارك، التي هُدمت عام 2020 بأمر من نائب الرئيس السابق أمر الله صالح، أثارت آنذاك موجة انتقادات واسعة، ورغم اختلاف السياق السياسي، فإن النتيجة كانت واحدة: خسارة معلم ثقافي لا يمكن تعويضه.

 

اليوم، ومع هدم ثالث دار سينما قديمة في البلاد خلال سنوات قليلة، يتأكد أن الثقافة في أفغانستان تقف على حافة الاندثار المؤسسي. فحين تُمحى الرموز المادية للثقافة، يصبح من السهل محو الأفكار والقيم المرتبطة بها. وهذا ما يثير قلق المثقفين في الداخل والخارج، الذين يرون في سياسات طالبان محاولة لإعادة تشكيل المجتمع وفق قالب واحد، يُقصي كل أشكال الاختلاف والتعبير الحر.

 اللافت أن طالبان، في خطابها الرسمي، تحاول أحيانًا تبرير هذه الإجراءات باعتبارات اقتصادية أو عمرانية، متجاهلة البعد الرمزي والثقافي. غير أن هذه المبررات لا تصمد أمام حقيقة أن البدائل الثقافية غائبة تمامًا. فلا توجد خطط لإنشاء مسارح أو مراكز ثقافية بديلة، ولا دعم للفنانين أو المبدعين، بل على العكس، يتعرض كثير منهم للملاحقة أو يُجبرون على الصمت أو الهجرة. وقد غادر عدد كبير من السينمائيين والممثلين والموسيقيين البلاد خوفًا على حياتهم، ما أدى إلى نزيف ثقافي حاد.

 إن تدمير سينما أريانا لا يمكن قراءته بمعزل عن هذا السياق الأوسع، الذي يشمل تضييقًا على حرية الفكر، وتكميمًا للأصوات النقدية، وإقصاءً ممنهجًا للإبداع. فالفن، بطبيعته، يطرح الأسئلة ويكشف التناقضات، وهو ما تخشاه الأنظمة الشمولية. وطالبان، التي تسعى إلى فرض رؤية واحدة للحياة والدين والمجتمع، ترى في الفن تهديدًا مباشرًا لسلطتها الرمزية.

 في المحصلة، يعكس هدم دور السينما في أفغانستان صراعًا عميقًا بين مشروعين: مشروع يسعى إلى مجتمع مغلق، يخضع للرقابة الصارمة ويُدار بمنطق الطاعة، وآخر يؤمن بالتعدد والانفتاح وحق الإنسان في التعبير. وبين هذين المشروعين، تدفع الثقافة الأفغانية ثمنًا باهظًا، قد يستغرق ترميمه عقودًا إن لم يكن مستحيلًا. فحين تُهدم المسارح وتُطفأ الشاشات، لا يُسكت الفنانون وحدهم، بل يُسكت صوت المجتمع بأكمله، ويُترك شعب كامل بلا مرآة يرى فيها نفسه وتاريخه ومستقبله.

شارك