السنغال في مواجهة عدوى الانقلابات.. وساطة إطفاء الحرائق بأزمة غينيا بيساو

الأربعاء 24/ديسمبر/2025 - 09:58 ص
طباعة السنغال في مواجهة محمود البتاكوشي
 
في إقليم اعتاد أن تتكاثر فيه الأزمات السياسية أسرع من أي حلول مستدامة، اختارت السنغال أن تخرج من موقع المراقب القلق إلى موقع الفاعل المباشر، فبدل الاكتفاء بمتابعة الحرائق من خلف الزجاج، قررت داكار أن تلعب دور «إطفائي الأزمات» في غينيا بيساو، إدراكًا منها أن أي شرارة انقلابية جديدة في غرب أفريقيا لا تبقى محصورة داخل حدودها، بل سرعان ما تنتقل كعدوى إلى فضاء إقليمي هش ومثقل بتاريخ طويل من الانقلابات وعدم الاستقرار.
التحرك السنغالي لا يأتي من فراغ. فداكار راكمت خلال السنوات الماضية خبرة هادئة لكنها فعّالة في إدارة التوازنات الإقليمية، قائمة على مبدأ الاحتواء الاستباقي لا المواجهة الصدامية. 
ومن هذا المنطلق، تسعى السنغال إلى منع الأزمة في غينيا بيساو من التحول إلى نقطة ارتكاز جديدة للفوضى، عبر مقاربة دقيقة تمزج بين الضغط السياسي المحسوب والحوار المفتوح، دون الانزلاق إلى تبرير الانقلابات أو التطبيع معها.
أزمة غينيا بيساو.. سياق معقد وهشاشة مزمنة
غينيا بيساو ليست غريبة على الاضطرابات. فمنذ الاستقلال، عانت البلاد من ضعف بنيوي في مؤسسات الدولة، وتداخل مستمر بين السياسة والمؤسسة العسكرية؛ ما جعل الانقلابات خيارًا متكررًا كلما تعثرت العملية السياسية. الانقلاب الأخير في 26 نوفمبر الماضي، الذي أطاح بالرئيس أومارو سيسوكو إمبالو، أعاد البلاد إلى مربع عدم اليقين، وفتح الباب أمام سيناريوهات خطرة في منطقة تشهد أصلًا تمدد الجماعات المسلحة والجريمة المنظمة.
بعد قرابة شهر على الانقلاب، وصلت إلى بيساو بعثة سنغالية رفيعة المستوى، حاملة مطالب واضحة: الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وفتح مسار انتقالي يحظى بقبول داخلي ودعم إقليمي ودولي. في المقابل، رفضت السلطات العسكرية استقبال بعثة رؤساء أركان إيكواس، في مؤشر على ضيق هامش المناورة لدى العسكريين، ورغبتهم في كسب الوقت دون تقديم تنازلات جوهرية.
ما الذي تعنيه الوساطة السنغالية؟
يرى خبراء في شؤون غرب أفريقيا والساحل أن التحرك السنغالي يعكس إدراكًا عميقًا لمخاطر «العدوى الانقلابية» التي باتت تهدد الإقليم إذ يعتبر أن داكار تحاول لعب دور الوسيط المقبول، القادر على الجمع بين الضغط الدبلوماسي والحفاظ على قنوات الحوار مع العسكريين، في وقت باتت فيه أدوات إيكواس التقليدية، خاصة العقوبات، أقل فاعلية وأكثر إثارة للانقسام.
كما أن مطلب الإفراج عن المعتقلين ليس مجرد بند إنساني، بل شرط سياسي أساسي لتفادي راديكالية المعارضة، ومنع انزلاق الأزمة إلى مواجهة مفتوحة قد تعمّق الفوضى بدل احتوائها.
إعادة تشكيل موازين الوساطة الإقليمية
التحرك السنغالي يندرج، ضمن محاولة أوسع لإعادة تشكيل موازين الوساطة في غرب أفريقيا، فغينيا بيساو تمثل نموذجًا صارخًا لدولة فشلت انتقالاتها السابقة في بناء جيش مهني ومحايد؛ ما يجعل أي انقلاب جديد تهديدًا مباشرًا لمسار الدولة نفسها، لا مجرد تغيير في مراكز السلطة.
في الوقت ذاته، جاء هذا التحرك بينما لوّحت إيكواس بفرض عقوبات موجهة ضد معرقلي العودة إلى الحكم المدني، بعد تعليق المسار الانتخابي عشية إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية، غير أن الانقسامات داخل المنظمة الإقليمية أضعفت قدرتها على فرض مسار موحد، وهو ما فتح المجال أمام مبادرات ثنائية أكثر مرونة، تقودها دول مستقرة نسبيًا مثل السنغال.
كما يرى الخبراء أن دوافع داكار لا تقتصر على البعد الإقليمي، بل ترتبط أيضًا بحسابات الأمن الداخلي. فأي فوضى ممتدة في غينيا بيساو ستنعكس حتمًا على الجوار، عبر شبكات التهريب والجريمة المنظمة، ما يجعل الاستقرار هناك مصلحة سنغالية مباشرة.
يبقى نجاح الوساطة السنغالية مرهونًا بقدرتها على تحقيق توازن دقيق بين العصا والجزرة: التهديد بالعقوبات من جهة، وفتح أفق سياسي قابل للحياة من جهة أخرى، ويؤكد الخبراء أن هذا النهج، رغم صعوبته، يظل الخيار الأكثر واقعية في ضوء تجارب المنطقة، حيث أثبتت العقوبات وحدها محدودية تأثيرها، بل وأسهمت أحيانًا في تعقيد الأزمات بدل حلها.

شارك