اللاعنف .. والخراب العاجل (2)

الأحد 06/أبريل/2014 - 10:21 م
طباعة
 
سبق نشر هذا الموضوع على حلقات بدأت بتاريخ 23/4/2009 تناولت فيه إرهاصات الإخوان مع الأمريكان مع شباب الثورة السلمية وتعاونهم المبكر، ولم يكن معلوما لنا - علم اليقين - بُعد هذه العلاقة الغريبة التي تكشفت بعد ثورة يناير وبعد ثورة 30 يونيو، وكتبت الموضوع ردّاً على الدكتور فتحي أبو حطب الذي كان ينظّر للتغيير اللا عنيف على شبكة الإخوان المسلمين المعروفة باسم "إسلام أون لاين"، ورأيت أن إعادة نشر الموضوع اليوم توضّح كثيرا ممّا لم يكن واضحا، وأن المسألة قد بدأت مع تاريخ نشر هذا الموضوع على شبكة الحوار المتمدن في عام 2009، وهنا الحلقة الثانية من الموضوع.
** مشكلتنا إذن هي مع فريق النصابين المشتغلين بالدين علينا، الذين يقومون باستحضار الألفاظ من أكفان 1425 عاما مضت، ثم يحمّلونها بدلالات ومفاهيم زماننا، رغم أن دلالات لفظنا الحفري لا علاقة لها بدلالات اليوم، بل يصل التباعد بينهما إلى درجة النقيض الكامل، إنهم يعيدون فرش بيت أجدادنا المهجور العتيق الذي تسكنه الخفافيش والسحالي والغيلان والبراق وناقة صالح وصاحب الصيحة، من أرقى بيوت الخبرة الفرنسية، من بيت ديكارت وبيت روسو وبيت فوليتر، ومن كبريات دور الحقوق الأمريكية المؤسسة كديكور حداثي متفوق، تقف جميعاً في خدمة حرية المواطن الفرد، ثم يقولون لنا إن هذا هو ميراث أجدادنا، يقول الغرب ديموقراطية نقول: عندنا شورى، يقول الغرب انتخابات حرّة، نقول: عندنا بيعة، يكتشفون "فاكسينات" للقضاء على معظم الأمراض القاتلة، نعيد نحن اكتشاف بول الناقة كسبق علمي لأنه "فاكسين" لكل ما اكتشف وما لم يكتشف بعد، "فاكسين رباني" لم يصنعه بشر. 
هذا رغم أن المسلم زمن الدعوة لم يفهم من الشورى ما نفهمه اليوم من الديمقراطية، لأن الديمقراطية بمعناها المعاصر هي شأن معاصر لم تكن له دلالات معلومة من المخزون الثقافي البشري قبل اكتشاف العقد الاجتماعي والمبادئ الحقوقية، ثم الديمقراطية المعاصرة، نعم كانت لها جذورها الأولى عند الرومان وقبلهم عند اليونانين، إلا أن الإسلام ونصوصه لم يأتيا بذكر لهذه الديمقراطيات الأولى بالمرة. 
وضم هذا الفريق المتفلسف مجموعة لا تملك معها إلا الشعور باحتقار وازدراء حقيقيين، وهم من يطلعون علينا كل يوم بتفسير عصري جديد للقرآن والحديث، مع كل إضافة علمية أو مع أي كشف جديد، يريدون تكريس وهم سار مسرى الحقائق بين المسلمين، وهو صلاحية مأثورهم للعمل في كل زمان ومكان، بينما ما يفعلونه هو إعادة ترجمة اللفظ القديم وتحميله بثقافة ومعارف زماننا - التي لم تكن متواجدة في مخزون المسلمين الثقافي قبل تلك الترجمة - والغريب والمثير للدهشة والقرف معاً، هو أنهم مثل الجميع يؤمنون بحقيقة التخلف الذي آلت إليه أمة محمد في قاع العالم، وأنهم مثل الجميع يؤمنون بضرورة إجراء إصلاحات تحديثية لمجتمعتنا على كل المستويات، حتى يمكن لبعض أمة محمد أن يلحقوا بآخر قاطرة في قطار الحضارة. 
وهو ما يعني أننا نعاني من تخلف علنيّ مهين مروّع لم يعد بالإمكان تزيينه بمساحيق التجميل لشدّة قبحه، وصلنا معه إلى مرحلة لم تعد حتى تثير شفقة الضمير العالمي التي تثيرها لديه الحيوانات - حتى غير الأليفة منها - حرصاً على بقاء نوعها، لقد هبطنا عن ذلك الدرك مسافات، هبطنا إلى درجة السطو على المنجز الإنساني بكل علمائه ومعاهده وأبحاثه والأموال المصروفة والجهود البشرية المبذولة بكل بساطة، عبر إعادة ترجمة اللفظ وتحميله بثقافات ومعارف زماننا غير المتواجد من الأصل في مخزوننا الثقافي المتضمن في اللفظة القديمة، وهو تزوير مفضوح يبذلون فيه جهوداً جمّة دون أي عائد أو ناتج يعود على المواطن أو الوطن، سوى مزيد من غيابه في غياهب جهله المركّب. 
انظروا معي إلى فريق رجال الدين الذين قرروا دخول مباراة الإصلاح فاكتشفوا أن الديمقراطية ليست شيئاً سوى الشورى الإسلامية، وهو ما يستدعي التساؤل الساذج: إذا كانت الديمقراطية هي الشورى، وكانت مبادئ الديمقراطية وقيمها ومؤسساتها معلومة لدى الصحابة، فلماذا لم يفعّلوها؟!، لماذا لم يقيموا مجتمعاً يقوم على العقد الإجتماعي ويقنن للإنسان حقوقاً ويقيم لتلك الحقوق دستوراً وقانوناً ومؤسسات تحميها، ويقيم هيئة أمم متحدة ومحكمة عدل دولية كناتج ضروري للديمقراطية قبل أن يكتشفها أهل الطاغوت بخمسة عشر قرناً؟!. 
لماذا لم يفعّلوها وينقلوا مجتمعهم وزمنهم كلّه نقلة عظيمة كانت كفيلة بجعل أمة المسلمين سيدة أمم العالم حتى اليوم؟!، وكنا علّمنا الغرب - كما سبق وعلمناه الاسطرلاب والسيمياء والخوارزميات وبقية أشيائنا العجيبة الهندية والرافدية والشامية والمصرية -ولتقدمت البشرية إلى مسافات لا تدركها المخيّلة عما هي عليه اليوم، لماذا لم يفعّلها الصحابة إذن؟!.
العجيب أن دعاة الإصلاح - من مشايخنا - يرون أن الإصلاح يكون بالعودة إلى ما كان سبباً في حاجتنا للإصلاح، بالعودة إلى خير القرون، إلى زمن وناس قتلوا بعضهم بعضاً على الدنيا، ولم يعرفوا كيف يصلحون مجتمعهم ومعهم رب السماء والصحابة والمبشرين بالجنة وأمهات المؤمنين بعد ذلك ظهيراً بدلاً من قتل بعضهم بعضاً، لو كانت معلومة لديهم لفعّلوها ولتفتحت أمام الإنسانية آفاق علم عظيم مبكر، ولما لجأوا بصلاة الغيث لإنزال المطر حتى اليوم، بل لأنزلوه بالعلم قسراً وجبراً كما فعل الكافرون، ولما لجأوا إلى حل مشكلاتهم بالصلاة والأدعية والقنوت كما هو حالنا حتى تاريخه، ولو قلنا إن الديمقراطية كانت لديهم ولم يطبقوها فسيكون ذلك ظلماً عظيماً لهم، وظلماً عظيماً لديننا لمطالبته بما ليس فيه فنضعه أمام حائط المستحيل، خاصة مع فشل التطبيق المعلوم دون تزويق في كتبنا التراثية على مدى القرون الماضية، ومع هذا الفشل يكمن السبب، وهو أنهم ما كانوا يعلمون معنى التعددية والحرية والحقوق، فاختفت كل الفرق الإسلامية لأن سادة الدين وسدنته - حلفاء السلطة والسلطان - رفضوا أيّة فرقة سواهم، لأنهم ببساطة لم يعرفوا معنى الحرية والتعدد الديمقراطي بالمرة، وهذا أيضاً ظلم لعقولنا عندما يطلبون لنا تجربة أثبتت فشلها على مدار أربعة عشر قرناً، فشلاً تاماً وكاملاً وذريعاً بكل ألوان الفشل وتفاصيله ومعانيه، إنه ليس ظلماً لعقولنا فقط بل هو إهانة علنية لها. 
وحتى عشية حضور العم "بوش" إلى المنطقة مباركاً، كان الإسلاميون يصرّون على الخلافة والقوة المجرّدة لاحتلال العالم، لكن بعد حضور خليفة العالم الحقيقي بما يملك من مؤهلات الخلافة، واحتلاله مقر الخلافة الإسلامية في بغداد، قام الإسلاميون يعيدون تنسيق ما بقي في أيديهم من أوراق لتتفق ومطالب سيد العالم، قاموا يعلنون أنهم هم أهل الإصلاح، بل هم الإصلاح نفسه، وأصبحوا يحدثوننا عن الديمقراطية كحل إسلامي مؤكد، كما لو كان أحد قد منعهم من إقامتها وهم رقود على أنفاسنا عبر القرون الماضية، الغريب أنهم يهتفون بطلب الحرية ويصادرون الحرية علناً، إنهم يطلبون الحرية لأنفسهم فقط دون بقية المواطنين، لأنهم لو كانوا أهلاً للحرية لأصدروا أبسط قررارت الحرية، بالأفراج عن الكتب الممنوعة حتى الآن، إنهم أكتر ضعفاً من مواجهة الكلمة، فتراهم كيف سيعيشون في مناخ الحرية؟!.
مصيبة أوطاننا أن المطروح أمام المواطن - على كل المستويات - هو نموذج واحد أحد، هو نموذج التخلّف، وليست هناك بدائل أخرى لأنها جميعاً كافرة، رجل الدين في بلادنا يدعم التخلّف ولا ولن يسمح بأيّة حرية، وسيستميت في المقاومة لوأد الحرية، لأنها لو حدثت فستسمح للنماذج الأخرى بعرض نفسها في سوق المفاضلة، الحرية ستطرح على الناس ما لم يكونوا يعرفون، لذلك هم - مهما علا صوتهم بالحديث عن الحريات -فإنهم لا يقرون أول وأبسط أسس الإصلاح، وهي حرية أن تقول، أن تتكلم، أليست الكتب الممنوعة هي مجرد كلمات؟، هي قول ليس أكثر؟!.
وعندما يقرون بضرورة الإصلاح، فهو ما يعني الاعتراف بخطأ متواجد في مجتمعنا الإسلامي، وبما أنهم وحدهم كانوا المسؤولين - في حلفهم السلطاني - عن هذا المجتمع وعن الإسلام عبر القرون الماضية، فإنهم بالتبعية هم المسؤولون عما آل إليه هذا المجتمع من تخلف، ثم - في الوقت نفسه - هم ضد طرح أي نموذج آخر في السوق، لأن أي آخر هو كافر زنديق عميل لأمريكا والصهيونية العالمية، إنهم بعد هذه القرون من امتصاص دم شعوبنا والتسلّط عليها، لا يريدون ترك الفريسة بحجة حماية الدين، حتى يجهزوا عليها تماماً عبر امتصاص آخر رحيق للحياة فيها.

شارك