في ذكرى اغتياله.. الأيام الأخيرة في حياة حسن البنا

الجمعة 12/فبراير/2021 - 10:00 ص
طباعة في ذكرى اغتياله.. حسام الحداد
 

مدخل: يومه الأخير:

الايام الاخيرة من حياة حسن البنا كانت حبلى بالاشارات التي ترسم ملامح نهاية حياة رجل لم يكن هناك شئ يستوعب طموحه وتطلعاته.
في الساعة الثامنة من مساء السبت 12 فبراير 1949 م كان حسن البنا يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين ويرافقه رئيس الجمعية لوداعه ودق جرس الهاتف داخل الجمعية فعاد رئيسها ليجيب الهاتف فسمع إطلاق الرصاص فخرج ليرى صديقه الأستاذ البنا وقد أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة التي ركبها القاتل، وأخذ رقمها وهو رقم “,”9979“,” والتي عرف فيما بعد أنها السيارة الرسمية للأميرالاي محمود عبد المجيد المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية كما هو ثابت في مفكرة النيابة العمومية عام 1952 م . 
لم تكن الإصابة خطرة بل بقي البنا بعدها متماسك القوى كامل الوعي وقد أبلغ كل من شهدوا الحادث رقم السيارة ثم نقل إلى مستشفى القصر العيني فخلع ملابسه بنفسه. لفظ البنا أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل أي بعد أربع ساعات ونصف من محاولة الاغتيال بسبب فقده للكثير من الدماء بعد أن منعت الحكومة دخول الأطباء أو معالجتهم للبنا مما أدى إلى وفاته ولم يعلم والده وأهله بالحادث إلا بعد ساعتين أخرىين وأرادت الحكومة أن تظل الجثة في المستشفى حتى تخرج إلى الدفن مباشرة ولكن ثورة والده جعلتها تتنازل فتسمح بحمل الجثة إلى البيت مشترطة أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحاً وألا يقام عزاء . 
اعتقلت السلطة كل رجل حاول الاقتراب من بيت البنا قبل الدفن فخرجت الجنازة تحملها النساء إذ لم يكن هناك رجل غير والده ومكرم عبيد باشا والذي لم تعتقله السلطه لكونه مسيحيا وكانت تربطه علاقة صداقة بحسن البنا. 
الايام الاخيرة للبنا وصفتها بدقه شديدة ثلاث وثائق هي من الخطورة بمكان لتوضح كيف كانت النهاية وشيكة وقريبة، لكن البنا كان يعاند ويكابر.

الوثيقة الأولى:

الوثيقة الأولى:
رواية عبد العزيز كامل : الأيام الأخيرة للبنا 
كتب عبدالعزيز كامل في كتابه“,”نهر الحياة“,” عن الأيام الأخيرة في حياة البنا، وعن حالة الندم التي عاشها أواخر أيامه ، يقول د.عبدالعزيز في كتابه صفحة 61 

خريف 1948 
عاد الأستاذ المرشد من أداء فريضة الحج بفكر جديد، لم يكن يخفيه، ولا يخفي الذين تأثر بهم. 
وأود أن أسجل هنا اسم الحاج عبدالستار سيت سفير باكستان في القاهرة وقتئذ.. 
لقد كان رجلاً هادئاً، رضي النفس، مؤمناً بالعمل الهادئ الطويل النفس، وكان يخشى على الإخوان عواقب الخطوات العنيفة التي اتخذوها، وأخذ يذكر للأستاذ ما اتبعوه في بلاده من عناية بتربية الشباب، واختيار العناصر التي يرجى لها مستقبل في الحياة العامة، أو يمكن أن يسمى بالجيل المقبل من القادة .. ولم يكن هؤلاء بعيدين عن شخصيات في الحكم بحكم النشأة، فقوى في النفس الأستاذ الاتجاه نحو التربية.. 
ولكن الرجل عاد ليجد حوادث القنابل والانفجارات في القاهرة، سلسلة تواليت حلقاتها: انفجار ممر شيكوريل، شركة الإعلانات الشرقية، حارة اليهود. 
وإلى جوار الانفجارات، مصرع المستشار الخازندار من رجال القضاء، ومصر سليم زكي من رجال الأمن. 
ملامح الصورة يرسمها المسدس والقنبلة والديناميت. وكانت ملامح القلق بادية على وجهه، حتى المحاضرات وزيارات الأقاليم زهد فيها. 
بأذني سمعت منه وصف هذه الاحتفالات العامة بأنها “,”شغل دكاكيني“,”؛ أي عمل صغير متفرق لا قيمة له. 
في ذكرى اغتياله..
ويأتي مصرع النقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية ليضع الأستاذ في أشد المواقف حرجاً. 
كان كل أمله – كما سمعت ذلك منه بنفسي – أن يخلص باسم الإخوان المسلمين ومائة شاب “,”أربيهم ينتشرون في الأرض داعين إلى الإسلام، ويجادلون الله عني يوم القيامة .. حين يسألني أقول: يا رب ربيت هؤلاء، ونشرتهم في الأرض يدعون إلى دينك“,”. 
حصاد العمر الطويل: آلاف الشُعب، وآلاف المعسكرات، وآلاف الحفلات، والجرائد والمجلات والمنشورات، تركزه عنده في مائة شاب يلقى الله بهم. 
وتصدر عنه بعد مصرع النقراشي وثيقته الخطيرة: “,”ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين“,”. 
ورب قائل يقول: إن هذا كله تم عن تراض وتشاور بين الأستاذ وبين الذين قاموا بهذا الأمر؟ ولكنه دفاع أهون منه الإدانة، والوقوف إلى جوار المسئولية، أو على الأقل عدم إدانة من قام بالأمر بأنه ليس أخًا – وهذه تهون – وليس مسلماً. 
وتحولت الحكومة المصرية كالوحش الجريح، وفي عيونها نظرات القلق، وفي يدها بقايا بطش، وفي نفسها صدع تريد أن تشد عليه بحبيرة من ثياب الإخوان .. وبين يديها من أحداث القنابل والديناميت والمسدسات ما يمكن أن تتخذه مبرراً. 
وللأمانة أقول: ألم يقدم الإخوان بأنفسهم بعض أدلة إدانتهم؟ ألم يحكم الاستعمار خطته حتى يحول الصراع بعد هزيمة 1948 إلى ضرب عنيف للإخوان مستفيداً من كل هذه الظروف؟ 
على أنني مع كل الحطام والآلام لا زلت أذكر آخر نصيحة للاستاذ: “,”لو أخلص باسم الإخوان ومائة شاب أربيهم، ينتشرون في الأرض داعين إلى الإسلام، يجادلون الله عني يوم القيامة .. حين يسألني أقول: يا رب ربيت هؤلاء ونشرتهم في الأرض يدعون إلى دينك...“,(نص)

الوثيقة الثانية: الخطاب الذى رفعه حسن البنا إلى الملك يستعديه على النقراشي

الوثيقة الثانية:
(نص الخطاب – بخط يد البنا أوردته كاملا الدكتورة هدى شامل أباظة، فى كتابها حول النقراشى باشا – الطبعة الأولى – دار الشروق . فالوثيقة تشرح نفسها بنفسها وتدل على مدى حنق البنا على النقراشى وسعيه إلى تنحيته عن الحكم بأى وسيلة .

في ذكرى اغتياله..
(حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك وادى النيل حفظه الله، 

أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو وأصلى وأسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين وأمام المتقين وأحيِّى سُـدَّة جلالتكم المجيدة بتحية الإسـلام, فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته متبوعة بأصدق آيات الإخلاص وأخلص معانى الولاء. 
يا صاحب الجلالة:
لقد حُرمنا جهادنا فى فلسطين أو كدنا لا لضعف فى جيشنا أو تخاذل فى شعبنا أو نقص فى عددنا أو جهل بواجبنا ولكن لتحكم السياسة المترددة فى الحرب الصارمة وتدخل رئيس الحكومة (فى إشارة إلى النقراشى باشا) فى شئون القتال وتردده فى مواجهة المواقف بما تقتضيه إلى جانب العوامل الأخرى التى لا يد لنا فيها ولكن كان فى وسع الحازم اللبق والقوى الفَطِن أن ينتفع بها ويستفيد منها. 
ولقد انفرد الحاكم العام بالعمل فى السودان ينفذ فيه سياسة بريطانيا المرسومة وخططها الانفصالية المعلومة وأخذ يوجّه إلى مصر اللطمة بعد اللطمة وينفّذ من برنامجه الخطوة تلو الخطوة والحكومة المصرية تمد له فى ذلك وتشجعه على المضى فيه بسياستها السلبية وهو ممعن فى عدوانه حتى بلغ به الأمر أخيرًا إلى أن يمنع بعثة المحامين من أداء واجبها ويعلن على لسان رجاله أن مصر شىء والسودان شىء آخر وكل هذا يحدث والحكومة المصرية لم تفعل شيئًا بعد. 
والعالم كله الآن يا صاحب الجلالة تغلى مراجله بالأحداث الجسام والخطوب العظام ويبدو فى آفاقه كل يوم شأن جديد لا يقوى أبدًا دولة النقراشى باشا على أن يضطلع بأعباء التصرف فيه بما يحفظ كرامة مصر ويصون حقوق الوادى المجيد العظيم، والنزاهة وطهارة اليد (اعتراف جلى من البنا بنزاهة وطهارة يد النقراشى باشا تلك التى لمتشفع له عند الجماعة بحال) لا تكفى وحدها لمواجهة هذه الغمرات المتلاحقة من أحداث الزمن ومُضلاَّت الفتن. 
وفى وسط هذه اللجّة من الحوادث الجسيمة التى تتصل بحاضر الوطن ومستقبله وكيانه فى الصميم يعلن دولة النقراشى باشا الحرب السافرة الجائرة على الإخوان المسلمين. فيحل بالأمر العسكرى بعض شُعَبهم. ويعتقل بهذه السلطة نفسها بدون اتهام أو تحقيق سكرتيرهم العام وبعض أعضاء هيئتهم ويأمر الوزارات والمصالح المختلفة بتشريد الموظفين الذين يتصلون بالهيئة ولو بالاشتراك فى أقسام البر والخدمة الاجتماعية تليفونيًا أو تلغرافيًا إلى الأماكن النائية والمهاوى السحيقة وما عليهم أن ينقلوا فذلك شأن الموظف المفروض فيه ولكن صـدور هذه التنقلات فى هذه الصـور القاسية التى تحمل معنى الانتقام والاتهام تجرح الصدور وتثير النفوس وتسىء إليهم فى نظر رؤسائهم ومرؤوسيهم على السواء. 
ويصدر الرقيب العام أمره بتعطيل جريدتهم اليومية إلى أجل غير مسمى بحجة لا قيمة لها ولا دليل عليها, بل إنه لو صحت الأوضاع لكان للجريدة أن تؤاخذ الرقباء أشد المؤاخذة بمواقفهم منها وتعنُّتهم معها وعدم إصغائهم إلى شكاياتها المتلاحقة. 
ويتردد على الأفواه والشفاه قرار حل الهيئة ووعيد الحكومة لكل من اتصل بها بالويل والثبور وعظائم الأمور. 
وأخيرا يحاول دولة رئيس الحكومة أن يلصق بالإخوان تهمة الحوادث الأخيرة التى لم تكن إلا صدى لهذا العدوان من الحاكم فى السودان ولجهاد إخواننا السودانيين فى جنوب الوادى ويلقى عليهم تبعة هذا الحادث الأسيف حادث مصرع حكمدار العاصمة الذى كان المركز العام للإخوان المسلمين أول من أسف له وتألم منه إذ كان رحمه الله معروفا بعطفه على حركتهم ودفاعه عن هيئته ومواقفه الطيبة فى ساعات المحن إلى جانبهم مع حكمة فى العمل وإحسان فى التصرف ( لاحظ كلام البنا عن الرجل وما اعترف به الصباغ آنفًا من مسئولية للإخوان عن الحادث وحسبُنا الله ونعم الوكيل ).
ويحاول دولته أن يتذرع لهذه الحرب الشعواء بتحقيقات لم ينته أمرها بعد ولم يُعرف فيها المتهم من البرىء إلى الآن, وإن كانت وزارة الداخلية فى بلاغاتها الرسمية قد خالفت أمر النيابة وسبقت كلمة القضاء وأعلنت على رؤوس الأشهاد اتهام الأبرياء. 
يا صاحب الجلالة:
اسمح لى أن أجرأ فى هذا المقام الكريم فأقول إن هذه المجموعة من الإخوان المسلمين فى وادى النيل هى أطهر مجموعة على ظهر الأرض (لاحظ الوصف) نقاء سريرة وحسن سيرة وإخلاصا لله وللوطن وللجالس على العرش (لاحظ التملق) فى كل كفاحهم فى سبيل دعوة لا تخرج أبدا عما رسم الإسلام الحنيف قيد شعرة وأنهم بحكم إيمانهم ومنهاجهم ونظامهم وانتشار دعوتهم بكل مكان فى الداخل والخارج أفضل قوة يعتمد عليها من يريد بهذا الوطن الخير ويتمنى له التقدم والنهوض وأكتب ورقة فى يد كل عامل لخير البلاد والعباد وأن تحطيم دعوتهم والقضاء عليهم وهو ما تستطيعه الحكومة إذا أرادته وصممت عليه ولو فى ظاهر الأمر إلى حين بما فى يدها من سلطات عسكرية وما تملكه من قوة رسمية ليس من المصلحة فى شىء بل هو قضاء على نهضة هذا الوطن الحقيقية وقتل للبقية الباقية من روح الإخلاص والجد والاستقامة والطهر فيه على أن نتائج هذا الموقف فى مثل هذه الظروف غير مضمونة ولا معروفة ولا أدرى لحساب من يقوم دولة رئيس الحكومة بهذه المهمة ويحمل هذه التبعة الضخمة أمام الله وأمام الناس وفى التاريخ الذى لا ينسى ولا يرحم. 
يا صاحب الجلالة:
إن الإخوان المسلمين باسم شعب وادى النيل كله يلوذون بعرشكم (لاحظ اللغة) وهو خـير ملاذ ويعوذون بعطفكم وهو أفضـل معاذ ملتمسين أن تتفضلوا جلالتكم بتوجيه الحكومة إلى نهج الصواب أو بإعفائها من أعباء الحكم ليقوم بها من هو أقدر على حملها ولجلالتكم الرأى الأعلى والله أسأل أن يتم عليكم نعمة التأييد والتوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 
المخلص                  
حسـن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين (نص)

الوثيقة الثالثة: مذكـرة عبد الرحمن بك عمار وكيل وزارة الداخلية إلى النقراشى باشا

الوثيقة الثالثة:
الثامن من ديسمبر 1948 
“,”حضر الليلة الشيخ حسن البنا إلى ديوان وزارة الداخلية وطلب مقابلتنا بحجة الإفضاء إلينا بأمور هامة يرغب فى إبلاغها فورا إلى حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء، فلما قابلناه حدثنا بأنه قد علم أن الحكومة أصدرت قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين أو هى فى سبيل إصدار هذا القرار وأنه يريد أن ينهى إلى دولة رئيس الوزراء بأنه قد عوّل نهائيا على ترك الاشتغال بالشئون السياسية وقصر نشاط الجماعة على الشئون الدينية كما كان الحال فى بداية قيام جماعة الإخوان المسلمين وأنه يود من كل قلبه التعاون مع دولة الرئيس تعاونا وثيقا مؤيدا للحكومة فى كل الأمور وأنه كفيل بتوجيه رجاله فى كافة الجهات بالسير على مقتضى هذا الاتجاه، كما أعرب عن أسفه لما وقع من جرائم ارتكبها أشخاص يرى أنهم اندسوا على الإخوان المسلمين، وراح يترحم على سليم زكى باشا قائلاً, إنه كان صديقًا حميمًا له وكان بينهما تعاون وثيق وتفاهم تام – ثم أكمل مادحا دولة النقراشى باشا قائلاً, إنه على يقين من نزاهته وحرصه على خدمة وطنه وعدالته فى كل الأمور. وأنه لو تمكن من مقابلة دولته بعد أن مضت سنتان لم يلتقيا فيها بسبب جفوة أثارها الوشاة (هو لم يعتبر نفسه من الوشاة حيث لم تكن رسالته للملك قد جف حبرها بعد ) لأقنع دولته بأنه من صالح الحكومة والأمة معا أن يبقى الصرح الضخم الذى جاهد الإخوان المسلمون سنوات طويلة فى إقامته, كما قال إنه يعز عليه بل ويزعجه ويؤلمه أن ينهار هذا الصرح على يد دولة النقراشى باشا الحريص على خدمة بلاده. 
ثم قال إنه إذا قُدِّر أن تمضى الحكومة فى ما اعتزمته من حل الجماعة فإنه يؤكد أنه ورجاله سوف لا تبدر منهم بادرة تعكر صفو الأمن إذ لا يُقْدِم على مثل هذا العمل إلا مجنون, كما أكد أن الحكومة لو تعاونت معه لضمن للبلاد أمنًا شاملاً (انظر كيف يقدم البنا خدماته لوزير الداخلية النقراشى باشا).
وخـتم حديثه بقوله إنه على اسـتعداد للعودة بجمـاعة الإخوان المسلمين إلى قواعدها بعيدا عن السياسة والأحزاب متوفرا على خدمة الدين ونشر تعاليمه, بل إنه يتمنى لو استطاع أن يعتكف فى بيته ويقرأ ويؤلف مُؤْثرا حياة العزلة. ثم جعل يبكى بكاء شديدا ويقول, إنه سيعود إلى مقره فى انتظار تعليمات دولة رئيس الوزراء داعيا له بالخير والتوفيق . 
وكيل الداخلية 
8  ديسمبر سنة 1948 (نص)
هذه الوثيقة أيضا أوردتها كاملة الأستاذة الدكتورة هدى شامل أباظة، فى كتابها حول النقراشى باشا – الطبعة الأولى – دار الشروق . 

شارك