المنظر الجهادي الأشهر أبو مصعب السوري.. استراتيجيات وأفكار الجهاديين بائسة وفقيرة

الأربعاء 04/مارس/2015 - 11:09 م
طباعة المنظر الجهادي الأشهر
 

من هو أبو مصعب السوري؟

من هو أبو مصعب السوري؟
أبو مصعب هو من التحق بتنظيم "الطليعة المقاتلة" الذي أسسه مروان حديد في سوريا، الطليعة المقاتلة التي حاربت نظام البعث في مدينة حماة السورية، تحدث في كتبه عن تلك المرحلة والرحلة، حيث تلقى عددًا من الدورات العسكرية بإشراف ضباط فارين من الجيش السوري في الأردن وضباط من الجيش العراقي والمصري في بغداد والقاهرة، تخصص في علم هندسة المتفجرات وحرب عصابات المدن والعمليات الخاصة وعمل مدرباً في قواعد الجهاز العسكري لتنظيم الإخوان المسلمين في الأردن وفي معسكراته ببغداد، أثناء معارك حماة عينته قيادة التنظيم عضواً في القيادة العسكرية العليا بإمارة الشيخ سعيد حوى ونائباً للمسئول عن منطقة شمال غرب سوريا، تلك البداية انتهت إثر دمار مدينة حماة وانهيار برنامج المواجهة مع النظام، فأعلن أبو مصعب انفصاله عن تنظيم الإخوان احتجاجاً على إبرامهم "التحالف الوطني" مع الأحزاب العلمانية والشيوعية والفرع العراقي لحزب البعث، لينتقل إلى مرحلة إحياء العمل الجهادي في بلاد الشام، إحياء العمل الجهادي نقله إلى باكستان حيث تعرف في بيشاور إلى عبدالله عزام فاصطف ضمن تجمع المجاهدين العرب ودرّب العديد منهم على فنون المتفجرات وغيرها من الخبرات العسكرية.
خبرته العسكرية والقتالية والتنظيمية تزاوجت مع المنهج الفقهي في كتابات عبدالقادر بن عبدالعزيز صاحب كتابي "العمدة" و"الجامع" الذي أجاز له نشر كتابه "التجربة السورية" و"البيان الأول لدعوة المقاومة الإسلامية العالمية"، وأجاز ما في الأخير من فتاوى، لم يقف أبو مصعب عند بن عبدالعزيز بل درس خلال فترته الجهادية في باكستان وأفغانستان كتب ابن تيمية وابن القيم الجوزية وطالع كتابات سيد قطب وعبدالله عزام.

مقدمة:

مقدمة:
يقدم ابو مصعب السوري في هذه الوثيقة إجابة لأسئلة مهمة تدور حول الفكر الجهادي والذهنية التكفيرية التي تم بنايتها في بداية الالفية الجديدة، فقد عرفنا الرجل فقيها ومنظرا لحرب العصابات في صفوف الجهاديين في كل من اوروبا واسيا، ورمز مهم من رموز قاعدة اسامة بن لادن. وهذا ما يضفي اهمية خاصة لهذه الوثيقة التي يقدم فيها نقدا لاذعا للتيار الجهادي بشكل عام ويقوم بتعريته امام الباحثين في حركات الاسلام السياسي ليس فقط بل تعرية تلك الحركات التي تدعي انها جهادية وانها تجاهد باسم الله وتدافع عن الله عز وكان الله ينتظر منهم الدفاع عنه!
وقد قسم أبو مصعب السوري هذا البحث المعنون بـ "الأخطاء والثغرات والحصاد السلبي للتيار الجهادي" إلى ثلاثة انواع من الاخطاء:
1-أخطاء في المنهج والتفكير.
2-أخطاء في البنية والهياكل.
3-أخطاء في اسلوب المسير وطريقة العمل.
ويقوم أبو مصعب السوري بشرح وتحليل كل نوع من هذه الأخطاء تحليلا يبين فيه حجم الخطأ والآثار التي تترتب عليه حيث يقول "ونحن نذكر هذه الأخطاء لتفاديها وإصلاحها.. ونذكر الأساليب البالية المستهلكة من أجل تبديلها، كما نذكر تلك المفاهيم الخاطئة ومعظمها طارئ على التيار الجهادي كي يتم تصحيحها، وهي معرفة واجبة حتى على قواعد التيار الجهادي فضلا عن كوادرهم والكبار منهم.. وهذا لا يكون همسًا ولا سرًا.
إن عملية النقد الهادف يجب أن تمارس في جو من الحرية والصدق والمصداقية والمصارحة، بين قيادات واعية وقواعد تستأهل المشاركة في المعرفة".
وجدير بالذكر هنا أن معظم الفصائل والحركات السلفية التي تتبنى الفكر الجهادي أو غيره لا تؤمن بما ينادي به ابو مصعب السوري بهذا الخصوص.

نقد الوثيقة:

نقد الوثيقة:
كما قلنا.. فإن أبو مصعب السوري هذا الفقيه والمُنظر والقيادي العسكري في تنظيم القاعدة يقدم لنا في هذا البحث نقدًا نظريا للتيار الجهادي بشكل عام من خلال ممارسته للعمل الجهادي من ناحية ومن ناحية أخرى اطلاعه على العديد من الحركات العاملة في الحقل الجهادي سواء أكان في آسيا أو في أوروبا، وكذلك اطلاعه على التجارب في مصر وأفكار سيد قطب وغيره.
وكما ذكرنا فقد قسم هذا البحث إلى ثلاثة محاور رئيسية "أخطاء في المنهج والتفكير، وإن جاز لنا تسميتها أخطاء نظرية، أخطاء في البنية والهياكل وان جاز لنا تسميتها اخطاء تنظيمية حسب مصطلحات السياسة، والثالثة والاخيرة اخطاء في اسلوب المسير وطريقة العمل وهي الاخطاء التكتيكية".
 أولا: الأخطاء النظرية لدى الجماعات الجهادية:
وقد ذكرها أبو مصعب السوري في 7 نقاط مهمة وتناولها بالتفصيل كما يلي:
1- تسرب أفكار التشدد إلى مناهج بعض الجهاديين
ويرد أبو مصعب السوري هذا الخطأ "إلى جنوح بعض الأفراد والجماعات إلى مستويات من التشدد والتطرف في الطرح العقدي والفقهي السياسي الشرعي، وجعل بعض ادبيات مناهج الجهاديين تحتوي على تعميمات وقواعد عقدية، صارت مع توافر عوامل الجهل والحماس والضغوط النفسية لدى بعض الجهاديين متكأ لأفكار "تكفيرية" تجاوزت الضوابط التي قام عليها الفكر الجهادي".
ومما لا شك فيه ان ما قاله ابو مصعب السوري هنا رأي جدير بالاحترام لكنه يتغاضى عن شيء مهم الا وهو ان مرجعية الجماعات الجهادية من ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وسيد قطب والمودودي وغيره انما هي مرجعية تكفيرية في المقام الاول دون محاولة ابو مصعب السوري التبرير والقاء اللوم على المجاهدين انفسهم على حد تعبيره.
2- غلو بعض الجهاديين المتأخرين في التعصب المذهبي لمفهومهم عن "السلفية".
وعلى حد قوله "قد اتسمت بعض الاوساط والأفراد من الجهاديين أو من لحق بساحاتهم من المنتمين آنفا للتيار السلفي بهذه المشكلة"، ورغم أن كل من ينتمون للعمل الجهادي يتبنون المنهج السلفي، إلا أنهم حسب أبو مصعب السوري لا يرون "ان واقع الامة بمئات ملايينها هو ليس كواقع الصحابة وما تلا ذلك من خير القرون، بل ولا يشبه واقع معظم التاريخ الاسلامي، فضلا عن بعده عن مقاييسنا معشر الجهاديين والسلفيين" ومعظم فقهاء الامة من اتباع الفقه المذهب وليسوا من اتباع الفقه السلفي، ليس هذا فقط بل ايضا ان كثيرا منهم على غير المنهج السلفي في الاعتقاد وغالبهم من الاشاعرة هذا حال اهل العلم وطلابه، ومن المعلوم ان التيار السلفي المعاصر غير الجهادي، قد دخل في مساجلات واشكالات عقدية وفقهية كثيرة مع هذه الاوساط.
3-احادية الطرح في المنهج الجهادي وعدم شموليته واقتصاره على مسائل الولاء والبراء والحاكمية وضيق افق المكتبة والانتاج الادبي في التيار الجهادي:
"فبالقياس للمدارس الاسلامية الاخرى نجد ان مكتبة التيار الجهادي، وهي مجموع ما كتب فيه من المناهج والكتب والادبيات.. نجد ان المكتبة الجهادية صغيرة الحجم كما، واحادية الطرح نوعا." وحسب ابو مصعب السوري هنا ما يدلل على ان هؤلاء الذين يحسبون انهم يدافعون عن الحق لا يملكون منه شيئا سوى القتل والحرق والتخريب، حيث لا يستند هؤلاء لمعرفة صادقة وحقيقية وبها من التنوع ما يؤهلهم لقياس الامور والحكم عليها.
4-ضعف المادة التربوية في مناهج التيار الجهادي:
يقول ابو مصعب السوري في هذه النقطة "يعتبر مجال التربية لقواعد التيار الجهادي من اكبر المجالات التي اعتراها النقص وانخفاض المستوى، خصوصا بعد التسعينات.. وادى تدفق الكثير من الشباب من قطاع عوام المسلمين العاديين، المعبئين بالعواطف والحماس والاخلاص مع انخفاض مستويات العلم الشرعي، والالتزام الديني، واصول الاخلاق والمعاملات الاسلامية وحتى مستوى العبادات، وتميزت اوساط جهادية كثيرة بمستوى ضحل جدا من المواصفات في هذه المجالات.. ادى هذا إلى تميز الاوساط الجهادية بالقسوة والجفوة وقلة الرحمة.. وتميز العديد من الجهاديين بسلوك اقرب إلى الحالة العصابية منه إلى السلوك المفترض بالمجاهد المؤهل والمتربي علميا وخلقيا.
5-غياب اثر فقه الواقع في المنهج السياسي الشرعي لدى الكثير من الجهاديين :
وعلى حد قول ابو مصعب السوري "قد سبب هذا في نظري ضعف المواد التربوية والدراسات التي تعين على ذلك او انعدامها، وبالتالي اختلال الموازين في تحديد من معنا ومن علينا. والخلط بين دوائر الاعداء والمحايدين والمناصرين. وحقوقهم وطرق التعامل معهم" وهنا تناسى ابو مصعب السوري انه لو تم الاهتمام بفقه الواقع من خلال هذا التيار الذي يسمى نفسه سلفيا سوف ينسف معظم كتب مرجعياته الجهادية بداية من ابن تيمية وصولا لسيد قطب والمودودي، وقد يتخلى تماما عن الفكر الجهادي والتكفيري الذي يتبعه.
6-عدم تبني مفهوم جهاد الصائل الخارجي والدخول في دوامة مواجهة الانظمة:
حيث انطلاق التيار الجهادي بسبب ازمة المواجهة مع ما يسميه ابو مصعب السوري بالجاهلية الجاثمة على صدور المسلمين والمتمثلة بأنظمة الحكم المرتدة، وتطور الامر من الفكر الجهادي المجرد إلى التطبيق العملي. 
7-عدم القدرة على تحديد المضمون الشرعي والحركي لعدد من المفاهيم الاساسية:
على سبيل المثال لا الحصر فلم يستطع هذا التيار تحديد المضمون لمفاهيم مثل "الجماعة المجاهدة، و الامارة والشورى والقرارات وكذلك البيعة والسمع والطاعة" مما ادى في النهاية إلى ان اعتبر الكثير من الجهاديين في مناهجهم ان جماعتهم هي الجماعة الشرعية الوحيدة.
ثانيا: أخطاء وخلل في البنية والهياكل التنظيمية في التيار الجهادي:
وتتركز هذه الاخطاء فيما يلي:
1- المشاكل المنتجة عن السرية
حيث كان العمل السري الزامي في فترة من الفترات وكانت نتيجته مشكلات في التربية والاعداد واتساع الجمهور وغيرها من المشكلات.
2-المشكلات التي تسببت فيها البنية الهرمية والاشكاليات الامنية 
حيث يسهل الاختراق الامني لهذه التنظيمات التي تبنى بالشكل الهرمي 
3- مشكلة القطرية
4- مشكلة القيادة غير الميدانية
5- مشكلة التمويل
وهنا يوضح ابو مصعب السوري ان هذه الجماعات كانت مضطرة في كثير من الاحيان لتقبل مساعدات من بعض الحكومات والانظمة ذات اغراض خاصة من ذلك الدعم وهو ما يحدث حتى الان.
6- مشكلة الشورى وغياب المؤسساتية وتعذر قيامها مع المشكل الامني: 
حيث تعتمد معظم الكيانات الجهادية مبدأ الشورى غير الملزمة، فالامير مفوض في اختيار ما يرى من قرارات بعد الاطلاع على آراء قياداته ومعاونيه.
7- مشكلة ضعف الأمن الداخلي في التيار الجهادي
 ثالثا: أخطاء في أسلوب العمل وإدارة المواجهة:
وتتمثل هذه الأخطاء في: 
1- العجز عن إمكانية وضع استراتيجيات عمل نتيجة عدم توفر معطيات ذلك. 
2- فتح معارك جانبية مع شرائح من مدارس ما يسميه ابو مصعب السوري بالصحوة الإسلامية.
3- التورط في أسلوب مواجهات طويلة المدى مع اجهزة حكومية .
4- الفشل في كثير من الأحيان في تحديد مفاتيح للصراع وشعارات للمواجهة .
5- أسلوب خطاب أكثر الجهاديين لم يكن شعبيًا.
مما تقدم ومن خلال القراءة المتأنية للوثيقة التي بين أيدينا يتضح أن هذه الجماعات الجهادية ما هي إلا مجموعات لا تشكل خطورة حقيقية إلا من خلال الدعم الإعلامي واللوجيستي المقدم لها من بعض الدول صاحبة المصلحة في تواجدها، وأن هؤلاء الجهاديين لا يملكون فكرا ولا فقها كما يدعون، بينما يرددون بعض الفتاوى دون وعي منهم بحقيقة تلك الفتاوى ومدى صحتها.

نص الوثيقة:

الأخطاء والثغرات والحصاد السلبي للتيار الجهادي عبر أربعين عاماً
قد يسأل سائل؛ إذا كنتم تعتقدون بأن التيار الجهادي قد تمكن من كل تلك الإنجازات التي وردت في الفقرة السالفة؟ فلم ذكر الأخطاء إذن. وأقول: أن ذلك بقصد العافية. وكما قال المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيباً   ****   كنقص القادرين على التمام
ولكي نقترب أكثر من تحقيق الهدف المنشود الذي انطلق الجهاديون من أجله. وهذا لا يكون إلا بالتصحيح والتطوير وتحسين المسار بعد توفيق الله.
وقد يعترض معترض بأن في سرد العيوب والنقائص كشف للأسرار والعورات مما قد يفيد العدو. وأقول بأن هذه الثغرات معروفة للعدو وللأسف أكثر مما هي معروفه لأبناء الصف ذاته، وهم المعنيين بالإصلاح فيه. فليس فيها كشف سر. لاسيما وأن أكثرها دروس قد مضت ومضى أصحابها. والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ولم يترك علماء السلاطين وأجهزة إعلام الطواغيت والأجهزة العالمية نقيصة حقيقية أو مختلقة، إلا ونسبتها إلينا لتشويه سمعتنا.
ونحن نذكر هذه الأخطاء لتفاديها وإصلاحها.. ونذكر الأساليب البالية المستهلكة من أجل تبديلها. كما نذكر تلك المفاهيم الخاطئة ومعظمها طارئ على التيار الجهادي كي يتم تصحيحها. وهي معرفةً واجبة حتى على قواعد التيار الجهادي فضلاً عن كوادرهم والكبار منهم.. وهذا لا يكون همساً ولا سراً.
إن عمليه النقد الهادف يجب أن تمارس في جو من الحرية والصدق والمصداقية والمصارحة. بين قيادات واعية وقواعد تستأهل المشاركة في المعرفة. لأنهم رجال.. رجال في قمة الرجولة، امتلكوا القرار بالمواجهة في زمن نكصت فيه الهمم. فلا يجوز أن يزج بهم ويضحى بهم، وفق أساليب بالية جربت وثبت فشلها، أو مفاهيم خاطئة أدت إلى الفشل بل إلى الكوارث أحياناً..
إن العلاج من الأمراض يمر بثلاث مراحل أساسية، بعد التوكل على الله وطلب العافية والشفاء منه.
أولها: الاعتراف بحالة المرض ونية العلاج.
وثانيها: مراجعة الطبيب الثقة الأمين المؤمن. وكشف العيوب والعلل والنقائص عليه، بلا وجل ولا استحياء منها. حتى ولو كانت فيما يستحيا منه من العورات.
وثالثها: تناول الدواء ولو كان مرا، بهمة وصدق وعزيمة على بلوغ العافية.
إن هذه المراحل يجب أن يقوم المعنيون بأمر شفاء العمل الجهادي من علله بها. وكذلك على مستوى الصحوة كلها، مدرسة مدرسة، وجماعة جماعة، وعلى مستوى المسؤولية الكلية عن الصحوة. وبدون هذه الموضوعية لا يتم - والله أعلم - شفاء،لأنها السنن التي لا تحابي أحداً.
فما الفائدة في أن يأخذ الأبوان ولدهما المريض للاستشفاء من مرض عضال يكاد يأتي على بدنه. ثم لما يسأل الطبيب عن بأسه، يبدؤون بتعداد خصاله الحميدة! ولما يسألهم عن علته، لا يذكرونها أو يذكرون بعضها ويخفون بعضها، حباً وحناناً ولدوافع كلها طيبة!
إن مثل هذا الولد مرشح للفناء إن لم تتداركه رحمة الله. لأن الحنان والحب الذي مورس عليه هو من النوع القاتل. حنان جاهل ومتخلف..
وقد يكون لفت النظر إلى العيوب والنقائص من خارج الصف مزعجاً، بل قد يكون مرفوضاً إذا ولد شعوراً بنية غير صالحة. فلو قال لك الطبيب أن ولدك قد ألم به (الجرب).. ستتألم وتتقبلها بصدر رحب وتسأله عن العلاج وتنفذه. ولو كان الطبيب صديق من الأسرة لكان أهون لأنك متأكد من العطف وحسن القصد.. وهذا غير أن يقول لك جارك البعيد أن (ابنك جربان)! ستجد نفسك متحفزا لرفض الملاحظة.. وربما أعدت إليه صفة الجرب، وإلى نصيحته ولم تتقبلها منه..
إن عمليه عرض النقائص والثغرات يجب أن تتم داخلياً وعلى مستوى كل تجمع ومدرسة.
والفقير إليه تعإلى ولله الحمد. واحد من أبناء هذا التيار الجهادي.. وهو من بقية من تبقى من جيل قد تحطم وقضى أكثره.. وأسأل الله أن يكون ذلك لخير أراده الله لمزيد من العطاء ولأداء الأمانة وليس لأنا سقطنا من عينه تبارك وتعإلى فلم يختارنا فيمن اختار..
ولطالما كنت وما زلت محامياً ومدافعاً وبكل حماس بل وشراسة أحياناً عن هذا التيار ورجاله وأعماله. وذلك في مواجهات غارات الخصوم من أعداء هذه المدرسة المباركة (التيار الجهادي). وفيما كتبت وحاضرت أكبر برهان على ذلك ولله الحمد. ولكني هنا لست في ذاك المقام، إني هنا في مقام النصيحة الداخلية، والنقد البناء لمدرستنا وعملنا وطريقتنا، بنية استنباط طرق أقرب للصحة والصواب بحسب ما أعتقد. والله الموفق وهو يهدى السبيل.
وهو ما سأحاول استخراجه بحسب ما يوفق الله تعإلى في الجزء الثاني من هذا الكتاب. إن شاء الله تعإلى.
لقد انتقدنا نحن - معشر الجهاديين - مدارس العمل غير الإسلامي الأخرى، ورفضنا ها، ووقفنا منها موقف الرفض والعداء. ثم انتقدنا كافةً مدارس الصحوة الإسلامية غير الجهادية، من دعوية وإصلاحية، وإخوانية، وسلفية.. وغيرها. بدافع التناصح ومن خلال حقنا كأعضاء في عموم الصحوة. لنثبت أن الجهاد هو الحل. أو من باب دفع الغارة المغرضة.
الآن جاء دورنا لنضع أنفسنا أمام المرآة، ونراجع أعمالنا ونتائجها، ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنزن أعمالنا قبل أن توزن علينا. قبل أن يحاسبنا الله تعإلى على التقصير في المراجعة والعبرة من أنفسنا وغيرنا. وقبل أن تحاسبنا الأجيال والأمة. ولاسيما من يأتي بعدنا لأننا لم نبصرهم بأخطاء مرحلة مرت. ولم نعطهم دروس تجارب دفعنا زكي الدماء ثمناً لها..
ويجب أن نزن أعمالنا بميزان الإخلاص والصواب.. فأما الإخلاص - اللهم عونك - فكل بحسب ضميره ] بَلِ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [ (القيامة: 14 - 15).
• وأما الصواب فهو ميزان كتاب وسنة. ثم منطق عقل ودروس تجارب.. لعل الله وعسى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويتقبل منا. ثم يقربنا من النصر على أعدائه.
•أنواع الأخطاء والثغرات التي طرأت خلال مسار وتجارب التيار الجهادي بحسب تصوري والله تعإلى أعلم:
لو تخيلنا رجلاً يسير في درب نحو هدف معين ووجدناه يسير ويترنح. ويسقط تارة ويقوم أخرى.. ويحيد عن هدفه حيناً ويسير في دربه الصحيح أحياناً. ويضعف تارة ويشتد أخرى. ثم نجده لا يصل إلى هدفه في النهاية. ستقودنا ملاحظته لمعرفة أسباب عجزه وسوء أدائه إلى أحد ثلاث أسباب عامة.
1 - خطأ في طريقة التفكير وتصوره للمسار (خلل التفكير).
2 - خطاء وخلل في بنية جسمه وقصوره عن الأداء الصحيح (خلل البنية).
3 - خطاء في أسلوب السير ورسم الخطوات غير المتناسب مع الطريق (خلل الأسلوب).
وهذا ما حصل غالباً لمعظم تجارب العمل الجهادي وتياره عبر نصف القرن المنصرم تقريباً.. وأشير هنا إلى أني بصدد التقييم العام. وليس التعرض لتجربة جماعة معينة أو تنظيم معين أو أشخاص معينين أو تجارب بلد معين.. ولكني أحاول التقييم، معتبراً التيار الجهادي، وحدة اعتبارية بصفته مدرسة وتجارب. وسأذكر أنواع الخلل والأخطاء التي حصلت في مسار التيار ككل وغني عن الحاجة للشرح أن هذا لا يعني أن تنظيماً معيناً أو تجربة معينة قد تلبست بكل تلك النقائص أو بعضها.. ولكن قد تكون بعض التجارب قد حازت نقيصة أو ثلاث أو أكثر أو أقل مما سأذكر.
وقد يتصور البعض من (الجهاديين) أنه كان على عافية تامة. ولم يتلبس بأي من تلك العلل ولكنه الحظ العاثر. أو كما يرددون كثيراً (قدر الله وما شاء فعل). فليحمدوا الله إذن على العافية التامة التي كانوا عليها ولينعموا بحسن الظن بأنفسهم ويستريحوا.
فأنا هنا بصدد عرض أخطاء وإشكالات تلبس بها معظم مدارس التيار الجهادي. ولو كنت بصدد ضرب الأمثلة لبدأت بنفسي والتجارب التي خضتها حتى لا يحزن أحد. ولكني بصدد التعميم للفائدة.
فإذا ما عدنا إلى حيث كنا أكرر أن الأخطاء والخلل في مسار التيار الجهادي كانت على ثلاثة أنواع:
(1) - أخطاء في المنهج والتفكير.
(2) - أخطاء في البنية والهياكل.
(3) - أخطاء في أسلوب المسير وطريقة العمل.
ولنتناول بالتعداد والتفصيل وشيء من الشرح ما يتيسر من البيان لتلك الأخطاء التي تلبسنا بها معشر العاملين في التيار الجهادي عبر مسير مبارك استمر زهاء أربعة عقود وأسأل الله أن يتقبل من كل منا ما أحسن ويتجاوز له عما أساء إن أهل التقوى وأهل المغفرة.
أولا - أخطاء المنهج والتفكير:
ولعل هذا أحد أهم المجالات التي قل فيها مجال الخلل بشكل عام، وذلك بفضل الله تعإلى على المجاهدين وبركة قوله تعإلى: ] وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [ (العنكبوت: 69).
وقد سبق أن عرضت لأهم الأساسيات الفكرية المنهجية لدى التيار الجهادي وجماعاته المختلفة.
ولكن بعض الجماعات والتنظيمات والتجارب الجهادية قد عرض لها شيء من الخطأ والخلل في الجانب الفكري المنهجي، بحسب ما أعتقد والله أعلم. ومن أهم تلك الأخطاء وجوانب الخلل المنهجية التي كانت من المعوقات الداخلية للعمل ما يلي:
1 - تسرب أفكار التشدد إلى مناهج بعض الجهاديين:
فكما سبق وعرضت فإن التيار الجهادي مر فكرياً بمرحلتين بشكل عام.
أ - المرحلة الفكرية الحركية.
ب - مرحلة الفكر الجهادي السلفي.
وقد ذكرت كيف أن المرحلة الثانية قد أكملت الثغرات العقدية والفقهية التي كانت قائمة في الفكر الجهادي. وذكرت إيجابيات ذلك التكامل. ولكني هنا أشير إلى أن تلك الإيجابيات قد صاحبها في بعض الأحيان سلبية كبيرة من خلال سوء التطبيق لدى بعض الجماعات أو الأفراد في بعض التجارب. مما أدى إلى جنوح بعض شرائح الجهاديين إلى مستويات من التشدد والتطرف في الطرح العقدي والفقهي السياسي الشرعي. وجعل بعض أدبيات مناهج الجهاديين تحتوي على تعميمات وقواعد عقدية، صارت مع توافرعوامل الجهل والحماس والضغوط النفسية لدى بعض الجهاديين متكأً لأفكار "تكفيرية" تجاوزت الضوابط التي قام عليها الفكر الجهادي. ولا أقول هنا أن الفكر الجهادي قد مزج بالفكر التكفيري، لا.. وإنما أقول أن تلك الطروحات من مثل بعض رجالات التيار الجهادي السلفي، أو الذين لحقوا به من بعض العلماء أو طلاب العلم المرموقين كانت إما شديدة ومتطرفة، وإما صيغت بشكل عموميات جعلت بعض المتأخرين من الجهاديين يجنحون إلى التجاوز والتوسع في التكفير.
كما جعلت بعض المنتمين إلى (التيار التكفيري)، يعتمدون تلك النصوص متكأً لهم، ويستشهدون بأقوال أصحابها في كتاباتهم. مما جعل الهامش في تلك المواضيع بين (الفكر الجهادي) و(الفكر التكفيري) رقيقاً. ومكن الخصوم من أجهزة الاستخبارات أو علماء السلطان أو أجهزة إعلام الأنظمة من جعلها شواهد لوصم الجهاديين بالتكفير. وهو كما بينت من أنجح الوسائل التي استخدمت لضرب الجهاديين. فكيف ثم ذلك؟!
لقد تم ذلك عندما جرى الخلط (بين العقيدة السلفية) والمنهج لسلفي المعاصر وأساليبه، هذا المنهج الذي اختاره غالبية التيار الجهادي منذ أواخر الثمانينات كما أسلفت في مرحلة الشوط الأول للأفغان العرب. وبين (منهج التيار السلفي المعاصر) وفقهه وأسلوب علمائه ورواده المعاصرين). ولاسيما من علماء السعودية ومن تربي على مدرستهم. ثم ما تفرع عن هذه المدرسة التي تعود بأصولها في أغلب الأحيان إلى تراث الجيل الثاني والثالث من علماء الدعوة الوهابية.
والحقيقة أن دراسة (المدرسة السلفية التقليدية) وعقائدها وفقهها. ثم مقارنتها مع (السلفية المعاصرة) وأصولها ومدارسها الفكرية والعقدية. يجد فوارق هامة.
فقد تتابع تأثير السلفية المعاصرة وفروعها في العالم العربي والإسلامي. ثم تشعبت في العقدين الأخيرين إلى مدارس وطرق ومذاهب، تصل في تنوعها وتراثها الفقهي وآراء أصحابها إلى حد التضارب والتضاد في كثير من الأحيان. ضمن ما عرف (بالتيار السلفي).
وهذه مسألة شائكة معقدة وهامة. ويجب دراستها وتمحيصها وهذا يحتاج كتاباً وبحثاً مستقلاً ليس هنا مكانه. وإنما أشير إلى مؤثرات ذلك التيار السلفي المعاصر على الفكر الجهادي ومسار التيار الجهادي سلباً وإيجاباً.
فأما إيجاباً فقد مر في الفصول السابقة. وذلك أن التيار الجهادي الحركي مطلع الثمانينات قد وجد ضالته في حل إشكالاته الفقهية الحركية كما قلت في الفقه السلفي والعقيدة السلفية.
وأما سلباً وهو موضع الفقرة الحالية. فقد أدى إلى لحاق كوادر علمية من التيار السلفي من غير الجهاديين الحركيين بالتيار الجهادي الحركي الذي نشا على الفكر الإخواني والقطبي. كما أدى إلى نشوء طبقة من طلاب العلم في الجهاديين تتلمذوا عليهم في مرحلة الجهاد الأفغاني في شوطها الأول، وما تبع ذلك من مرحلة الملاذات. وأخذوا بمنهجهم من دون أهلية في البحث والفتوى والتصدي لعظائم المسائل.
ولأن أحد أكبر بلاء آت الأمة في هذا العصر هي إعراض العلماء الراسخين عن الجهاد وعن مواقف الحق. وعن التصدي لنوازل الأمة السياسية الشرعية الكبرى من مسائل الحاكمية والولاء والبراء وتطبيقها على واقع هذه الحكومات والمجتمعات وظروف الغزو والاحتلال. مما انعكس على التيار والظاهرة الجهادية بأنه كان تيارا يخلو من علماء كبار راسخين في العلم أو حتى متوسطين إلا في النادر.
وهكذا تسرب إلى التيار الجهادي ظاهرة قاتلة، ولدت أصلاً في التيار السلفي المعاصر الذي قام على عقيدة صحيحة وفقه أصيل. بالإضافة لممارسات تطبيقية أدت إلى كوارث
انتقلت إلى التيار الجهادي. وزاد الطينة بلة أن الجهاديين أصلاً هم في الغالب من الثوار والمتحمسين للدفاع عن دين الله. فأضيف إلى حماسهم وحماس بعض طلاب العلم فيهم، إلى تلك الأسس غير المنضبطة للطريقة السلفية المعاصرة. ففتحت الباب لأعاصير عاتية من الفوضى الفقهية في بعض الأحيان. أدت إلى بروز ذلك على شكل فتاوى وآراء بالغة الشدة والتطرف سواء كانت خاطئة أو كانت صحيحة صيغت بشكل معمم، فأمكن أن يستخدمها جهال التيار الجهادي أو التكفيريين ويجعلوها متكأً للتطرف والتشدد والتكفير بلا ضوابط. وساعد هذا على هدم حاجز يعتبر وجوده مهم جداً بين الفكر الجهادي والفكر التكفيري.
وإن إعادة إبراز هذا الحاجز من أهم أولويات عمليات الترميم في التيار الجهادي في المرحلة المقبلة إن شاء الله.
2 - غلو بعض الجهاديين المتأخرين في التعصب المذهبي لمفهومهم عن (السلفية):
هذه المشكلة فرع من سابقتها. وقد اتسمت بعض الأوساط والأفراد من الجهاديين أو من لحق بساحاتهم من المنتمين آنفاً للتيار السلفي بهذه المشكلة..
فالأصل الذي قام عليه التيار الجهادي هو حشد الأمة للجهاد في سبيل الله. ودفع مختلف أنواع الصائلين عنها، ومع أن الواجب على المجاهدين وقيادتهم وهم يسعون إلى أن يكونوا على منهج الطائفة المنصورة علماً وعملاً. وبالتالي أن تكون عقائدهم على ما كان عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، وصحابته ومن تبعهم بإحسان. وهم سلفنا الصالح الذين يجب أن نقتدي بعقيدتهم ومنهجهم. وأن تكون أصولنا ونهجنا مستندة إلى أصولهم وأصول منهجهم.
إلا أن هناك لفتة في غاية الأهمية، وقد أسقطها غالب الذين يزعمون انتماءهم للسلفية في هذا الزمان من سلفيين جهاديين وغير جهاديين من الذين يحتكرون هذه الراية وهذا المسمى الشريف. هذه اللفتة هي أن واقع الأمة بمئات ملايينها هو ليس كواقع الصحابة وما تلا ذلك من خير القرون، بل ولا يشبه واقع معظم التاريخ الإسلامي.فضلا عن بعده عن مقاييسنا معشر الجهاديين والسلفيين.
لقد ألم بنا واقع في غاية التعقيد بعد سقوط الخلافة وما شهده الواقع العربي والإسلامي من التغريب والأزمات الداخلية والخارجية.
والأصل أننا معنيون كجهاديين باستيعاب الأمة، وجمهور سواد الأمة، وتوجههم لأداء فريضة الجهاد ضد مختلف أنواع الصائلين من الأعداء الخارجين وأذنابهم من الحكومات الطاغوتية.. ومعلوم أن الملتزمين بدينهم من هذه الأمة وغالبية علماءها وأوساط الصحوة والمتدينين فيها على مستوى الأمة ليسوا بأغلبيتهم على المنهج السلفي. رغم أنه منهجي ورغم اعتقادي أنه الأصح عقديا.
فمعظم الملتزمين وعلماء الأمة (بسعتها كأمة إسلامية)، وغالبيتهم الساحقة هم من أتباع الفقه المذهبي وليسوا من أتباع الفقه السلفي، كما أن كثيراً منهم هم على غير المنهج السلفي في الاعتقاد وغالبهم من الأشاعرة هذا في أوساط العلماء وطلبة العلم. وأما في أوساط العوام المتدينين فهم مقلدون لتلك للأوساط. وهذا حال أهل السنة منذ أكثر من ألف سنة. ومن المعلوم أن التيار السلفي المعاصر غير الجهادي، قد دخل في مساجلات وإشكالات عقدية وفقهية كثيرة مع هذه الأوساط. وصلت إلى حد الجدليات البيزنطية عبر العقود بل والقرون..
ولا شك أن مشكلة نزول الصائلين بنا وفرضية دفعهم تقتضي منا السير مع عقيدة أهل السنة والجماعة في الجهاد مع أمراء المسلمين وعامتهم برهم وفاجرهم، عالمهم وجاهلهم. وأن مصلحة تأليف القلوب وجميع الصفوف على الجهاد مقدمة بلا شك ولا جدال على المصلحة من إثارة أكثر تلك الجدليات الفقهية والعقدية، خاصة الآن ونحن في هد الحال. وهذا من صميم منهج السلف الذي يدعيه هؤلاء. وشواهد ذلك كثيرة جدا.
إلا أن بعض الجهاديين ورؤوس طلاب العلم منهم أو من اللاحقين بهم، جروا الوسط الجهادي للدخول في حالة من الشجار مع تلك لأوساط الإسلامية والمتدينة، واشترطوا شروطا تعتبر قياسا لأحوالهم؛ تعجيزية. وغدت عائقا حقيقيا في التعامل معهم ودعوتهم للجهاد. وقد لعب هذا دوراً كبيراً في إفقاد التيار الجهادي شعبيته. وجعله نخبوياً. وأدخلت كثيراً من شرائحه وشخصياته في معارك جانبية طبقوا فيها قواعد الولاء والبراء على كثير من المسلمين، متبرئين منهم بدل أن يستوعبهم التيار الجهادي في صف واحد، أو على الأقل في حلف واحد ضد أنواع الصائلين لدفعهم. أو على الأقل جعلهم في دائرة الحياد.
ولكن كثيراً من الجهاديين بسبب هذا المنحى المنهجي ضاقت صدورهم بذلك. وأفسد الكثير منهم علاقات ومصالح كان يمكن أن تدفع بالأمة قدماً بشكل أفضل نحو أداء فريضة الجهاد. وذلك بسبب عدم استصحاب الواقع وفقه الأولويات والمصالح والمفاسد في فقه حركتهم الذي اتسم بكثير من الجمود مع النصوص وتطبيقها في غير واقعها.
وأذكر أني دخلت في كثير من المساجلات والمحاورات مع بعض الجهاديين من بعض القيادات والقواعد مؤكداً لهم ضرورة الجمع بين كوننا من السلفية الجهادية، وعلى منهج السلف الصالح، وبين كوننا محتاجين أن نترفق بالمسلمين ونجاهد معهم. وندعوهم للجهاد معنا على ما هم عليه من المذاهب الفقهية والعقدية التي هي فيها النهاية ضمن دائرة أهل السنة والجماعة. ولكن وللأسف، فإني كثيراً ما كنت اكتشف أننا في واد وإخوتنا هؤلاء في واد آخر. بل سمعت في هذه المجالات تهما وتجريحاً وأفكار عجباً..ولاقيت عنتا.
ومن يقرأ كتابات الشيخ عبد الله عزام يقرأ الكثير عن معاناته من هذه المشكلة وأصحابها وهو يخلقون الأزمات مع الأفغان بسبب مشكلة المذهبية والعقائد حتى مع عوام الناس.
ومن عجائب ما أذكره في هذا السياق، أن أحد هؤلاء الجهاديين السلفيين جدا! قال لي يوما في سياق الحوار: (إن الجهاد يجب أن يكون سلفي الراية، وأن تكون قيادته سلفية التركيب، وأحكامه سلفية المنهج، وأن يكون كل شيء بالدليل.. ولو قبلنا أن يجاهد معنا من ليس سلفيا فمن باب الحاجة، ولكن ليس لهم أن يكون لهم من القيادة شيء وإنما نقودهم مثل البقر لأداء فريضة الجهاد!!)
ولم أستطع أن أفهم حقيقة كيف سنجاهد مع إخوة الدين والعقيدة إذا كانت علاقتنا بهم علاقةً بقرية تقوم على الجذب من هؤلاء والركل والنطح من الآخرين!!
ولكن هذه الظاهرة لم تكن ضمن دوائر ضيقة وللأسف. حتى أن بعض الجهاديين رفض العمل معنا ذات يوم في مشروع جهادي لأنني كنت مسؤولا عنه قائلاً..كيف نجاهد مع رجل لا يرفع يديه في الركوع.. ويصلى على البدعة! ولا أدري من قال لهم أن من لا يرفع لدليل عنده هو مبتدع! ناهيك عن أن كل ما في الأمر أني كنت آخذ بفتوى من قال من العلماء بمجاملة أهل المحلة في مذهبهم تأليفاً للقلوب كما قال الإمام ابن عبد البر وغيره.. وكنت لا أرفع في الركوع والرفع منه يدي عند ما نصلي مع الأفغان، ومعلوم أنهم من الأحناف وأكثرهم متعصب وجاهل. ونحن وإياهم في وئام كبير وجهاد دفع متعين. وكان كبار قادة المجاهدين العرب من أمثال الشهيد عبد الله عزام رحمه الله، والشيخ أسامة حفظه الله يطلبون ذلك ويحثون المجاهدين عليه وقد لاقوا في هذا المجال الكثير من العنت.. وهذه أمثلة لإيضاح الفقرة وإلا فالأمثلة كثيرة..
فكم كان يتعرض من الأئمة الإعلام، من تلبس بشيء من التأويل أو سوى ذلك من أئمة أهل السنة الكبار كابن حجر والنووي وسواه في تلك الأوساط. وكم انتهكت حرمة المذاهب الأربعة وبعض أئمتها ولاسيما الإمام الجليل أبو حنيفة رحمه الله وغيره بدعوى الانتصار للمنهج السلفي والعقيدة السلفية.. ورغم أني في ذات اعتقادي على منهج السلف من دون تعصب وتضييق وكنت معروفا بهذا. إلا أن كثيراً من إخواننا هؤلاء كانوا يضيقون ذرعاً حتى بذلك..
ومعلوم أن هذه المشاكل من مشاكل التيار السلفي وليست من مشاكل التيار الجهادي ولكنها تعدت إليه. حتى أن أحد كبار المجاهدين من الأفغان العرب وكان سلفيا جدا، وهو سروري سابق. نهرني لأني قلت بعد ذكر الإمام النووي رحمه الله.. وقال لا تقل رحمه الله. فقلت وماذا أقول؟ فقال: قل غفر الله له، فإنه لم يكن على السنة!
وذات مرة، عاتبني إثر بعض محاضراتي بعض هؤلاء المجاهدين وبعضهم قادة في جماعاتهم، لأني ذكرت في السياق الإمام حسن البنا، وكذلك الشيخ سعيد حوى، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة بقولي رحمه الله.. وهم يعرفون انتقاداتي لمنهج الإخوان. وقالوا لماذا تترحم على أهل البدع؟! فقلت إن مذهب أهل السنة الترحم على من مات وظاهرة من المسلمين. فرد على أحد الإخوة الكبار حفظه الله قائلا: كان الإمام سفيان لا يرى الترحم على من مات على البدعة!! فقلت له رحمه الله وكان غيره من أئمة السلف يرى ذلك. ويجب أن ينظر للبدعة ونوعها ومستواها وقرائن إحسان المخطئ ومقام ذكر الرحمة.. ولكن لم يكن هناك أي فائدة من الحوار الذي لو طال فستسجل عندهم مع المبتدعة، بل مع المحامين عن البدع! ولله الأمر.
لقد كان من أبسط الأمور على أحدهم أن ينهي الحوار بقوله: لقد أبلغتك مقتضى دعوة التوحيد! وأنا أدين الله بكذا وكذا وأنكر كذا وكذا..وكم انقطعت من علاقات، وقامت من خصومات بين هؤلاء وبين كثير من المجاهدين فضلا عن المسلمين بسبب هذا النهج. وكان هذا من أكبر العلل التي طرأت على المنهج الجهادي بسبب التأثر بسلبيات التيار السلفي..
وأكرر قولي الآنف الذكر، بأن الفوائد العظيمة التي جناها التيار الجهادي فكريا من المنهج السلفي أكثر من أن تحصى. ولكن لم يخل ذلك من آثار جانبية سلبية كان هذا بعضها.. ولم أتخيل حقيقة كيف يمكن لهؤلاء الذين لم يستطيعوا التفاهم حتى مع الجهاديين، والإسلاميين. كيف يمكن أن يقودوا مقاومة يجب أن تكون شعبية، بكل ما ستحتويه كلمة شعبية من التعدد واختلاف والمشارب.
3 - أحادية الطرح في المنهج الجهادي وعدم شموليته واقتصاره على مسائل الولاء والبراء والحاكمية وضيق أفق المكتبة والإنتاج الأدبي في التيار الجهادي:
بالقياس إلى عموم مدارس الصحوة الإسلامية المعاصرة وبالنظر إلى مكتباتها الشاملة. نجد أن مكتبة التيار الجهادي،وهي مجموع ما كتب فيه من المناهج والكتب والأدبيات. وحتى ولو أدخلنا فيها النشرات الخاصة بالجماعات والتنظيمات المختلفة والبيانات الدورية أو سواها.. نجد أن المكتبة الجهادية صغيرة الحجم كماً، وأحادية الطرح نوعاً.. فالكتب معدودة. والنشرات محدودة. ولا يتناسب حجم هذا الإنتاج مع عظم العطاء والأداء، وضخامة التضحيات وكثرة التجارب. وما كان يمكن أن يكتب فيها، تاريخاً ودروساً وتحليلاً وعبراً، وقصص مشاهد، وسير رجال وشهداء... ولكن وللأسف فالإنتاج ضئيل جداً وشبه معدوم لدى كثير من الحركات. وإذا نظرنا إلى نوع ما طرح فيه نوعاً سنجده مقتصرا على مسائل الحاكمية وأصول قواعد الولاء والبراء والعقائد. فالإبداع فيه قليل، وأكثره إعادة وتكرار، وأكثره يعتمد على النقول والإعادة لفقه الإمام ابن تيميه وبعض أئمة المدرسة السلفية وتراث المدرسة علماء الدعوة الوهابية رحمهم الله تعإلى..
ومع أن النوازل كثيرة. والمجالات السياسية الشرعية والسياسية الواقعية واسعة، والحاجة إلى الكتابة فيها كبيرة. وكذلك في مجالات الفقه وأحكام الجهاد المعاصر، وكذلك في علوم تابعه كعلوم السياسة والإدارة والتربية..والثقافة العامة التي تلزم المجاهد، ومناقشة مسائل الأمة الحاضرة والمستقبلة، وحوار المستجدات والمواضيع الحوارية المطروحة في ساحة الواقع العربي والإسلامي.. ولكن التيار الجهادي عموماً تميز بقلة كتابه. وانشغال المؤهلين من قياداته ورموزه والقادرين على الكتابة بالعمل الميداني. وقد حالت المطاردات الأمنية، وظروف عدم الاستقرار، بينهم وبين العطاء في هذا المجال. ولذلك اقتصرت مكتبة الجهاديين إما على الكتب العسكرية ومناهج التدريب والعمل وإما على ما أشرت إليه من مسائل الحاكمية وقضايا الولاء والبراء.
 4 - ضعف المادة التربوية في مناهج التيار الجهادي:
يعتبر مجال التربية لقواعد التيار الجهادي من أكبر المجالات التي اعتراها النقص وانخفاض المستوى. خصوصاً بعد التسعينات. ومنذ ابتدأت المطاردات الأمنية شغل القوم بهجوم لباس الخوف والجوع، ومستهم البأساء والضراء والنقص في الأموال والأنفس، وتقاذفتهم المهاجر والملاذات في أقطار الأرض الأربعة..
وعلى عكس الجيل الأول والثاني من الجهاديين الذين تمكنوا قبل تلك المواجهات من تحقيق مستوى لا باس به من التربية لكوادرهم الأولى ما بين الأعوام 1965 - 1985 تقريباً. لم يسعف الظروف الجهاديين بعد ذلك من تطبيق برامج تربوية شاملة إلا في نطاق محدود. والملاحظ أيضاً أن اعتماد التيار الجهاد في التربية لم يكن على مكتبة ومناهج معاصرة وضعوها وفق احتياجاتهم الحالية. وإنما على كتب التراث، أو على بعض كتب مدارس الصحوة الأخرى، والتي لا تخلوا في كثير من الأحوال مما يتناقض مع المنظور الجهادي لكثير من المسائل.
وبعد 1985 غلب على الأوساط الجهادية من المعسكرات والتجمعات وأماكن النشاط مناهج تربوية ذات بعدين كما أسلفت. إما عسكري في حدود المواد العسكرية والدورات التدريبية القتالية. وإما بعض المواد في مسائل الحاكمية والولاء والبراء والعقيدة والمنهج السلفي.
وقد لاحظت خلال الشوط الثاني للأفغان العرب في ظل طالبان، أن الجيل الثالث من الجهاديين بدأ يميزه الجهل والفاقة التربوية في أكثر شرائحه. وقد زهد بها كثير من الجهاديين في هذه المرحلة 1996 - 2001 رغم توفر الإمكانية والمعسكرات والملاذ الآمن، بل والمرفه جداً في كنف طالبان قياسا بملاذات الشتات ومرحلة المطاردة. إلا أن معظم القوم نشطوا في المواد العسكرية واقبلوا عليها، ولم يعطوا الجوانب التربوية الأخرى الأهمية التي تستأهلها. ولذلك انعكس هذا على تلك المرحلة بكثير من المشاكل والأزمات الداخلية التي أعتقد أن مردها لانخفاض مستويات السلوك والأخلاق العامة.
وأدى تدفقه الكثير من الشباب من قطاع عوام المسلمين العاديين، المعبئين بالعواطف والحماس والإخلاص مع انخفاض مستويات العلم الشرعي، والالتزام الديني، وأصول الأخلاق والمعاملات الإسلامية وحتى مستوى العبادات. وتميزت كثير من الأوساط الجهادية بمستوى ضحل جداً من المواصفات في هذه المجالات. وانعكست الضغوط النفسية، وآثار المطاردات الأمنية، ومشاكل الواقع العام للعرب والمسلمين عموماً، والمشاكل الداخلية في أوساط الصحوة الإسلامية، ومنابذة قياداتها للجهاديين، وانغماس أ كثرهم في ركاب علماء السلاطين وأجهزة الطواغيت..
أدى كل ذلك إلى أن تكون كثير من أوساط الجهاديين مع غياب منهج التربية متميزة بالقسوة والجفوة وقلة الرحمة، وغياب النماذج التي طالما تحدثت عنها كتب الرقائق وقصص السلف والخلف من الصالحين في مجالات العبادة والنسك وحسن الخلق، ولين الجانب مع المسلمين وعذرهم ورحمتهم والأخذ بيدهم.
فقد كانت كثير من الأجواء مشحونة. وتميز العديد من الجهاديين بسلوك أقرب إلى الحالة العصابية منه إلى السلوك المفترض بالمجاهد المؤهل التربي علماً وخلقاً وعبادةً وسلوكاً..
وكان هذا انعكاسا لضعف منهج التربية مادةً وتطبيقاً. وحسبنا الله ونعم الوكيل..
وهكذا كنت ألاحظ أن كثيراً من الجهاديين قد اختصر الإسلام وعقائده وشعائره في فريضة الجهاد، وظنها كل الدين. واختصر الجهاد بأحكامه وآدابه وسلوكياته ومواصفاته التي تقتضيها منزلة ذروة سنام الإسلام، اختصره بالقتال. واختصر القتال بما يقضيه من صبر ومصابرة وإعداد وأخلاقيات. بشهود المعارك ذاتها. وحتى أثناء شهود المعارك كنت تلاحظ قلة الصبر والمصابرة، وتحمل الرباط الطويل. فقد اختصروا مفهوم القتال على إطلاق النار..
وكنت وكثير من قدماء الأخوة.. نلاحظ الأجواء في الأوساط الجهادية قد بدأت في أواخر القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين تشير إلى قرب امتحان وبلاء سينزل ليعيد تلك النفوس الطيبة المخلصة إلى صفائها وحاجتها إلى ربها وإلى أخلاقيات دينها ومكوناته التربوية. وهذا ما جاء مع أحداث سبتمبر وتداعياتها من بعد.
]وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[، (البقرة: 216).
5 - غياب أثر فقه الواقع في المنهج السياسي الشرعي لدى كثير من الجهاديين:
وقد سبب هذا في نظري ضعف المواد التربوية والدراسات التي تعين على ذلك أو انعدامها. وبالتالي اختلال الموازين في تحديد من معنا ومن علينا. والخلط بين دوائر الأعداء والمحايدين والمناصرين.. وحقوقهم وطرق التعامل معهم.
ففي خلال العقد الأخير من القرن العشرين تعقدت معطيات الواقع بكل إبعاده السياسية والإقتصادية والاجتماعية والثقافية في العالم العربي والإسلامي، بل وفي العالم أجمع. وشهدت عموم مجالات النشاط البشري في كل تلك العوالم تعقيداً وتطويراً وتشعباً هائلاً..
وتعتبر المجتمعات في العالم العربي والإسلامي وللأسف مجتمعات متخلفة عموماً عن مواكبة مستويات المعرفة الحضارية، إلى حدود مؤسفة.
وقد تميزت الصحوة الإسلامية عموماً، وهي ظاهرة منبثقة عن ذلك الواقع بالكثير من مؤثرات ذلك التخلف العام،وعدم إدراك العصر التي هي فيه. وفي الوقت الذي تقدمت فيه الأحزاب والجماعات الإسلامية من مدرسة الصحوة السياسية وكثير من قياداتها وكوادرها بحكم الوعي والممارسة السياسية. تقدمت في مجالات المعرفة وإدراك الواقع. فإن باقي مدارس الصحوة الأخرى الدعوية والإصلاحية وما اصطلح عليها بالسلفية، وكذلك المدرسة الجهادية، تميزت بانخفاض مستوى المعرفة والوعي الحضاري وإدراك الواقع. فأما المدارس اللاسياسية فلانعزالها عن عيش الواقع، وأما التيار الجهادي، فلأن غالبيته من قطاع الشباب الذين لم يأخذوا بحكم صغر السن في الغالب ويحكم الظروف الأمنية الصعبة، لم يأخذوا حظهم من المعرفة الحضارية وإدراك الواقع إلا في حالات نادرة في بعض الجماعات والكوادر والشخصيات..
وعلى اعتبار أن المعركة اليوم أصبحت تدار ليس فقط في المجال العسكري والأمني حيث يمكن للجهاديين والإسلاميين عموماً أن يبلوا بلاءً حسناً. وإنما في مجالات السياسة والإعلام والاقتصاد. وحتى في عالم المواجهة العسكرية والأمنية أصح للمستوى المعرفي والعلمي في المواجهة دور كبير. ولذلك فإن انخفاض المستوى العام عند غالبية الجهاديين في فقه الواقع بكل معطياته وأبعاده انعكس على مناهجهم وأدبياتهم وإعلامهم وفحوى خطابهم وأسلوبه وطريقة إيصاله. ونتج عن هذا اختلال في موازين الأولويات وفهم معطيات الواقع، وخلط بين دوائر المهم والأهم وما تقتضيه النصوص العامة. وما يضطر إليه الواقع. وكذلك حصل خلط في تصنيف شرائح الناس، من معنا ومن علينا. واضطراب في تحديد أولويات المعركة.
ونظراً لهزال البنية المؤسساتية في التيار الجهادي عموماً، وضيق مجالات الشورى والإستفاده من الكوادر..وتفضيل كثير الأمراء للإمعات، انضم هذا الجهل لذلك الخلل ليخلف نتيجة مأسوية تجلت في ضعف مستوى إدارة المعركة، وفشل في تحديد سبل المواجهة، والمواءمة بين مجالات المنهج الفكري والعمل العسكري والسياسي والإعلامي. وغاب أثر الواقع في إصدار الأحكام واتخاذ القرارات السياسية والعسكرية والمصيرية. ومعلوم أن صحة الفتوى يعتمد على مرتكزين لازمين معا وهما: معرفة الشرع وفهم الواقع. وعلى افتراض وجود الفهم الشرعي الصحيح في كثير من الحالات. فقد أدى غياب فهم الواقع إلى قرارات أقرب للعرج من وصفها باستقامة المسار.
6 - عدم تبني مفهوم جهاد الصائل الخارجي والدخول في دوامة مواجهة الأنظمة:
وقد جر لهذا ابتداء استفزازات الأنظمة. ثم حمل على تبنيه أصل منهجي نتيجة الفهم الحرفي لقوله تعإلى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [ (التوبة: 123). وحمله على الأنظمة المرتدية الحاكمة. مما أدى للدخول في صراعات حدد العدو طبيعتها ومسارها وصارت الخسائر فيها تنفق من مخزون الأمة دون طائل ولا نتيجة مرجوة.
فقد انطلق التيار الجهادي أصلاً بسبب أزمة المواجهة مع الجاهلية الجاثمة على صدور المسلمين والمتمثلة بأنظمة الحكم المرتدة. وتطور الأمر كما بنيا من الفكر الجهادي المجرد إلى التطبيق العملي.
وقامت التنظيمات الجهادية واشتبكت في ساحات كثيرة مع أنظمة الحكم تلك. وقد أيد هذا الإتجاه حكم شرعي وواقع قائم. فأما الواقع القائم فهو أن البأس والنكال الواقع على المسلمين عامة والإسلاميين خاصة والجهاديين على وجه الخصوص، هو من الأنظمة الحاكمة وأجهزتها الأمنية. وهو يقتضي ويوجب المواجهة عقلاً ومنطقاً. وكذلك فإن الحكم الشرعي والأمر بالجهاد هو من مقتضى نصوص كثيرة، منها قوله تعإلى:
] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ[. ومن خلال هذا الفقه وهذا الواقع عملت منظمات الجهاد. قرابة ثلاثين سنة 1960 - 1990.
ولكن ومع قيام العولمة في كل شيء مع انطلاق النظام العالمي الجديد.. وتطور مستوى الغزو الخارجي والترابط والحلف المتين بين قوى الكفر العالمية والمحلية المرتدة الحاكمة والدولية، وقوى النفاق المرتبطة بها، ومع تطور ميادين المواجهة، وتطور أساليب مطاردة الجهاديين من المحلية إلى الإقليمية إلى العالمية. كان على الجهاديين أن يدركوا ذلك ويطوروا مناهجهم، وأسلوب عملهم ولا يبقوا يدورون في حلقات مفرغة، رسمتها القوى الدولية اليهودية الصليبية العالمية وحلفاؤها. بحيث صارت حرب استنزاف لا طائل من ورائها. ولكن جمود المناهج والفهم،في معظم التيار الجهادي، لم يسمح بتلك النقلة التي توجب إعطاء فقه مواجهة الصائل حقه المتوجب. وبقي المستند أن الأمر هو بقتال الذين يلونكم من الكفار. وكأن هذا يعني أقرب رجل أمن، وأقرب حكومة مرتدة جاثمة في منطقة عمل الجهاديين. وكان في هذا من ضيق الأفق ما فيه، سواءً في فهم تفسير النص، أو في فهم السنة الحركية التي تبينه، من مقتضى حروب الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتوجهه لحرب الروم وحوله من الكفار من هو أقرب منهم. وكذلك الجهل بأقوال صريحة للعلماء في عدم إلزامية هذا الأمر بفهمه الحرفي. وانعكس هذا الجمود المنهجي على ممانعة أكثر الجهاديين في الاتجاه نحو الجهاد الأممي وعولمة المواجهة عند ما طرحت من قطاع محدود من الجهاديين أواخر القرن العشرين.
7 - عدم القدرة على تحديد المضمون الشرعي والحركي لعدد من المفاهيم الأساسية:
طرح المشروع الجهادي المعاصر عددا من المصطلحات والمسميات الأساسية التي أعتمد عليها في البناء التنظيمي والسلوك الحركي للجماعات الجهادية. ولكن هذه أوجد إشكاليات لم يستطع الجهاديون حلها وتبيينها، ومن ذلك:
** الجماعة المجاهدة: ما هي؟ وما هو تعريفها؟ ما طبيعة علاقتها مع ما حولها من الجماعات؟ وما مشروعية تعدد تلك الجماعات المجاهدة وغير المجاهدة؟ وما نسبة صلاحياتها وفحواها إلى جماعة المسلمين العامة؟ وما مسوغات وشرعية وجودها؟
** الإمارة والشورى والقرارات: ما حدود صلاحيات الأمير في علاقاته مع من حوله من القواعد والقيادات ومؤسسات الجماعة؟ وبالتالي طريقة اتخاذ القرار في الجماعة؟ والشورى وطبيعتها وإلزاميتها؟ وهل هي إمارة خاصة أم عامة؟.
** البيعة والسمع والطاعة: ما هي طبيعة هذه البيعة؟ وما فحوى عقدها؟ وبالتالي الحقوق والواجبات المتبادلة بين الأمير والفرد أو بين الفرد والجماعة؟ وكيف تنحل؟ وبناءً على ماذا؟
وما ذا يترتب على نقضها؟ ومتى يكون مشروعاً ومتى يحرم؟ إلى آخر تلك المسائل.. التي لم يتم تحديدها في التيار الجهادي بدقة واختلفت من تنظيم لآخر. وفي حين اعتبر أكثير الجهاديين في مناهجهم أن جماعتهم هي جماعة من جماعات المسلمين، وأنها إمارة جهاد. وأن البيعة محدودة بتلك الواجبات. إلا أن واقع الحال جعل بعض تلك الجماعات يتصرف عملياً كأنها جماعة المسلمين في قطرها. وصرح بعض أكابر التيار الجهادي بأن جماعتهم هي الجماعة الشرعية الوحيدة في البلد الفلاني، وبالتالي قاوموا بشتى السبل ميلاد جماعات أخرى، أو استمرار وجود سابقات عليها. بل ذهب البعض إلى السعي باستخلاص فتاوى تبيح للجماعة المجاهدة توحيد صف الجهاد بالقوة والعنف لتصفية وجود جماعات أخرى! ووجد بعض الشواذ الذين يفتون بذلك ضمن ما لحق بالتيار الجهادي من بعض طلاب العلم ممن تصدروا للفتوى في التيار الجهادي نتيجة غيبة العلماء عنه. كما اتخذت بعض الجماعات سجوناً وعقوبات ومحاكم تنظيمية دونما تحديد لتلك الحدود والصلاحيات. فقد ولدت إشكالات واقعية في التنظيمات. وقد أضافت السرية والأوضاع الأمنية وضعاً شاذاً عقد من تلك المسائل.
فقد سألت البعض من طلاب العلم من أصلا التيار الجهادي حفظه الله، عن مشروعية ترك الفرد لجماعة ما إذا لم يناسبه المسار أو رأى عقمه بعد أن دخل فيها. فقال لي لا يجوز إلا أن يرى كفراً بواحاً عنده فيه من الله برهان!! وبالتالي سحب على أمير الجماعة حقوق الإمام الأعظم! فلما سألته ماذا لو رأى عقماً بواحاً. أو فوضى بواحة. أو إفلاساً بواحاً. وتيقن أن ما توخاه من الالتحاق بالجماعة الفلانية لن يحقق أهدافه؟ هل يستمر طول عمره هكذا! ولا يحل له أن يتحول الجماعة أخرى أو يسعى في جماعة جديدة!؟ فحار الرجل في الجواب لما تفكر بأبعاد المشكلة.
فإذا كانت الجماعة تستطيع فصل عنصر فيها، وإخراجه من الجماعة. فلم لا يحق له فصل نفسه والانسحاب؟ وكيف نحل في هذه الحالة مشكلة الأسرار التي عنده؟. إلى آخر ذلك من المسائل..
لقد كان هناك إشكاليات حقيقية في تقنين ذلك والإفتاء فيه؟ وفي العمل على أسس لم تتحدد..
وهي مشاكل ليست موجودة في جماعة المسلمين العامة بشكلها الطبيعي. فأمير المؤمنين لا يستطيع فصل مسلم ما من جماعة المسلمين حتى ولو لم يبايعه ما لم يخرج عليه. ولا يستطيع العنصر في الأمة أن ينسحب منها. ولا يترتب عليه بحكم بيعته وطاعته العامة لأمير المؤمنين من الحقوق والواجبات ما يترتب على العنصر في جماعة ما جهادية أو سواها.
لقد فتحت إشكالية غياب الإمامة العظمى وزوال الهيكل السياسي للأمة إشكاليات كثيرة. ولما قامت جماعات لحل تلك الإشكالية واضطرت للسرية بفعل بطش الأنظمة، انفتحت إشكالات أخرى لا حل لها. وكان هذا بعض مظاهر ما فيه الأمة بسب غياب دار الإسلام والإمامة والشريعة وتوابع ذلك. وكانت هذه الإشكاليات بعض مظاهر خلل المناهج التي طرحت وعجزها، ليس في التيار الجهادي وحسب. وإنما على مستوى تنظيمات الصحوة كلها.
(ثانيا) - أخطاء وخلل في البنية والهياكل التنظيمية في التيار الجهادي:
النوع الثاني من الأخطاء والعلل التي ظهرت في أساليب عمل التيار الجهادي هي الخلل والقصور في البني التنظيمية وطبيعة الهياكل. وما أفرز من إشكاليات وعلى رأس ذلك.. الإشكالية الكبرى التي بدت أبعادها في العقد الأخير من القرن العشري بعد انطلاق الحملة العالمية على مكافحة الإرهاب. وأثبت الواقع استحالة استمرار العمل الجهادي مع وجود تلك المشكلة البنيوية وهي مشكلة أن كل التنظيمات والجماعات الجهادية بنت بناءها على أساس أنها تنظيمات (سرية – هرمية – قطرية).
1: المشاكل التي تأتت عن السرية:
كان اختيار طريقة العمل السري أمراً إلزامياً ومنطقياً لمواجهة قوى طاغية باغية ظالمة لم يرقب فراعنتها وأعوانهم في مؤمن إلا ولا ذمة. ولست هنا في معرض انتقاد مبدأ السرية في العمل الإسلامي. فهو مبدأ شرعي له أدلته وسابقاته التاريخية بدءاً من السيرة النبوية ومروراً بتجارب كثيرة عبر التاريخ الإسلامي. كما في لست معترضا عليه حركياً، لأنه كان أسلوباً إجبارياً مارسناه خلال حقبة اضطرارية كما لا يخفى. ولكني هنا بصدد ذكر الإشكاليات الكبرى التي تأتت عنه بحكم طبائع الأشياء وبحكم انتقال مستويات المواجهة الأمنية إلى مستوى توحشت فيه الأنظمة المرتدة ومن ورائها من قوى الكفر العالمية، بطريقة جعلت تلك الإشكاليات تجعل الاستمرار في ذلك الأسلوب ضرباً من الإصرار على الفشل العبثي في نهاية المطاف. فقد أدت تلك الأساليب الوحشية إلى إغراق الجماعات المجاهدة في السرية. فقد ولد هذا لها إشكاليات في التربية والإعداد، وفي التجنيد التمدد، وفي ضعف الدعاية العامة واتساع الجمهور، وفي محدودية مجالات الحركة بالإنتاج والعطاء.
فمعلوم من تاريخ دعوة الإسلام منذ ظهورها وعبر تاريخ المسلمين، أن منهج التربية قام أساساً على علاقة المربي بالأتباع. والتي تقوم على التماس المباشر. وهو الوسيلة الأساسية لنقل العلوم والمعارف. وشرح المنهج وتقديم القدوة والسمت والسلوك. ونقل مختلف مجالات التأثير. وهكذا كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، للصحابة. والصحابة للتابعين. وهؤلاء لتابعيهم من العلماء وورثة الأنبياء. ثم لهؤلاء بتلاميذهم وجمهورهم وصولاً للعامة.
ولكن أسلوب العمل السري لا يسمح بهذا. فكيف تتم التربية؟! وإذا استحالت التربية فكيف يستمر العمل بقواعد لم تتربي على المنهج ولا على برامج الإعداد؟! فالخلايا السرية تعتمد في التربية على لقاء المسؤول عن خلية ما بأتباعه وإعدادهم في مختلف مجالات ما يلزمهم من المعارف الشرعية والفكرية والمنهجية والسياسية والإعداد العسكري والأمني..الخ. وهذا اللقاء يكون دورياً وغالباً ما يكون أسبوعياً، ويقل مع توتر الأوضاع الأمنية إلى أن ينقطع أحياناً. وهكذا توفرت الطلائع الأولى للجهاد على مستوى راق لأنها أعدت قبل مرحلة السرية. فقد أعدت في المساجد أو في الجماعات الإسلامية العلنية أو شبه العلنية. فكان أداءها الجهادي عالياً يتناسب مع مستويات التربية التي تلقاها أولئك الكوادر. ولكن مع انقراض الطبقة الأولى والتالية تم التالية من الكوادر نتيجة أن مسار الجهاد يستهلك كوادره بالاستشهاد والاعتقال والهجرة من الساحة، تلتحق بالصف كوادر وخلايا غير مؤهلة. وغالباً ما كانت من عوام الناس ومن جيل الشباب الذي غالباً لم يسبق له أن تربي في حركة إسلامية. خاصة وأن الحركات الإسلامية من المدارس الأخرى غالباً ما تحصن أعضائها ضد اللحاق بالعمل الجهاد! لأن قياداتها لم تدخله!!
وقد تكررت هذه المأساة في كل التجارب الجهادية. إذ سرعان ما استهلكت الكوادر واضطرت التنظيمات إلى الاعتماد على الكوادر الجديدة غير المؤهلة تربوياً. وخاصة من بعض من يثبتون الشجاعة والكفاءة القتالية ميدانياً. وهكذا تفقد الجماعة مستواها ثم هويتها، لعدم استمرار مشروع التربية. ويكفي في هذه الإشكالية ونتائجها الكارثية بلاءً لإثبات عقم الطريقة بكاملها. ولكن للأسف لم تكن هذه هي المشكلة الوحيدة!
كما تفرض الأجواء الأمنية والسرية الإجبارية أجواءً لا تسمح باتساع التجنيد.. فمعظم الجماعات الجهادية بنت نفسها وكياناتها قبل الصدام واشتعال المعركة. فكونت هياكلها وجندت معظم أفرادها. ثم ابتدأ الصدام غالباً قبل اكتمال الإعداد له، نتيجة اكتشاف أجهزة الاستخبارات لمراحل الإعداد لأولى، أو نتيجة تفجير الأوضاع نتيجة تفاقم الأزمات. حيث يجد التنظيم الجهادي نفسه مجبراً إما على دخول المعركة والاستمرار في الإعداد والبناء من خلالها. وإما على أن تصفيه الحملات الأمنية دون مقابل. فيدخلون المعركة. ومع دخولها يبدأ استهلاك الكوادر والأعضاء. ويحتاج التنظيم للتجنيد. ويحتاج التجنيد للدعاية والحشد والجمهور، كما يحتاج حتى يكون محكما لرصد العناصر المرشحة للتجنيد ودراسة أهليتها وظروفها. ولكن السرية والمشاكل الأمنية لا تسمح بهذا فيضعف التجنيد وتقل الأعداد. ويتحول التنظيم بعد تقطيع أوصاله إلى خلايا عصابات متفككة تستهلكها المعركة شيئاً فشيئاً، إذا لم ينجح التنظيم في تطور حرب عصابات ينقلها من مرحلة إلى أخرى حتى يتسع التجنيد. ولكن الذي حصل في كل التجارب السابقة بلا استثناء، أن إعداد الكوادر الجهادية والأعضاء كان قليلاً. ولم يتمدد نتيجة أسباب كثيرة، أهمها الإشكال الأمني وأسلوب السرية. وعلى سبيل المثال لم يتجاوز عدد المجاهدين في سوريا وهي أطول المحاولات (نحو عشر سنين) لم يزد في أحسن الأحوال عن 1500 مجاهد عامل، هذا غير الأنصار. في بلد يبلغ تعداد سكانه في ذلك الوقت زهاء 12 مليون نسوة. وفي مصر لم يزد تنظيم الجهاد عن 2000 عنصر. والجماعة الإسلامية ربما عن ضعف ذلك من الأعضاء العاملين غير جماهير المساجد. هذا من أمة كانت تعد أكثر من 60 مليون نسمة. وفي ليبيا، لم يزد عدد المجاهدين عن رقم متواضع من تعداد سكاني هو في حد ذاته محدود لم يبلغ الـ 4 مليون نسمة. وفي بعض البلدان كتونس. لم يجاوز العدد خانة العشرات وهكذا..
وإما عن ضعف الدعاية وانكماش الجمهور. وانعكاس ذلك على ضعف الحشد نتيجة السرية أيضاً فهذا لا يحتاج لكثير شرح إذا لم توفر الأساليب السرية ما يلزم للحشد الذي يقوم أساسا على الإتصال بالجماهير بالوسائل العلنية.
2: المشاكل التي تأتت عن البنية الهرمية والإشكالية الأمنية:
بنيت جميع التنظيمات الإسلامية السياسية والجهادية وما شابها بأسلوب هرمي. فغالباً ما تبدأ الدعوة بأفراد قلائل. يحددون أسس منهجهم وأهدافهم، وبرنامج عملهم. ويبايعون واحداً منهم أميراً عليهم. فتكون الكوكبة الأولى قيادته ومجلس شوراه. وهكذا يبدأ رأس الهرم. تستمر عمليات التجنيد والحشد. ويكون كل واحد من هؤلاء مسؤولا عن جهاز أو خلية أو مجموعة.. ويتتابع النظام. وهكذا يتشكل من المجموع ما يعرف بالهرم التنظيمي.
إن هذا الأسلوب في البناء الحركي يتمتع بصفة القوة من حيث الإحكام والسيطرة. لأن الأوامر تصدر والبرامج تقرر. وتنزل من الأعلى للأسفل. ثم تتابع بعض الطريقة. وترجع التقارير أو النصائح والمقترحات وغير ذلك بالعكس بمرونة وسرعة.
ولكن مثل هذا البناء يتميز بالضعف الأمني، وبعدم صموده للمواجهات الأمنية الاستخباراتية خصوصاً بعد ما أثبتت أجهزة الأمن والحكومات الطاغوتية، ثم قوى الكفر المحاربة للظاهرة الجهادية استعدادها لكل أشكال البطش والتعذيب الجسدي والنفسي. وحتى لاستخدام المخدرات والعقاقير لاستخراج المعلومات.! وهكذا لم يصمد معظم المعتقلون عن الاعتراف بأكثر ما لديهم من معلومات أو بكلها، أو بالإضافة عليها لإرضاء الذئاب الضارية من الجلاديين المتحفزين لانتزاع ذرات المعلومات من قعر ذاكرة المعتقل، بل من تحت أظافره لو احتاج الأمر وبسلخ جلده إن لم يكف ذلك.
وهكذا كانت في كل التجارب، عدة ساعات فقط كافية لانتزاع كمية من المعلومات سرعان ما تعمم على أجهزة الأمن لتتسع دائرة الاعتقال. وتعاد الكرة ثم تعاد. لتشتمل الحملة الأمنية الجسد الأعظم من التنظيم السري خلال مدد قصيرة.
وهكذا صار الهرم التنظيمي أشبه بكيس من البلاستيك المنفوخ، الذي يحتوي سائلاً سيؤدي ثقبه من أي جهة لا فراغ محتواه طال الوقت أم قصر. ولقد حاولت التنظيمات الجهادية التي خاضت مواجهات أن تطور من أساليب عملها بشيء مما يسمى بالبنية الخيطية أو العنقودية، حيث يستقل العناصر العاملون بعناقيد منفصلة من الخلايا ولكنها في مجموعها تضطر للتحول إلى مجموعة أهرامات تنظيمية تشكل عبر وسائل الاتصالات معالم الهرم الرئيس مرة ثانية.
ولم تنحل المشكلة داخل القطر الواحد. وأدى هذا لاسيما حيث لم توفر معظم البلدان طبيعة جغرافية وعرة تمكن من تحصن القيادات التنظيمية فيها لإدارة أعمالهم. وحتى مع توفرها اضطروا للاتصال بالخلايا العاملة التي عملت أيضاً بنفس الأسلوب.. ثم اضطرت التنظيمات الجهادية مثلها مثل كل العصابات والجماعات السرية إلى أن يهاجر قياداتها إلى مناطق أمان في دول مجاورة. حيث وفرت لها بحكم الهامش القديم للنزاعات الإقليمية بين الدول ملاذاً آمناً أدارت منه أعمالها. ولكن التعاون الأمني كما سبق وبينا، وانتقاله من المجال الإقليمي إلى الدولي، ضيق ثم الغى تلك الملاذات. ولم تحل المشكلة الهرمية مع عمليات البطش والتعذيب والخطف والتسليم. وأدت إلى تآكل التنظيمات للأسباب المجتمعة مما وفر في النهاية كل عوامل الاضمحلال والتفكك..
3: مشكلة القطرية:
معظم إن لم يكن كل التنظيمات الجهادية والجماعات المكونة للتيار الجهادي التي عملت خلال الصنف الثاني من القرن الماضي قطرية في ميدان عملها وأهداف حركتها. وذلك نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية والواقعية التي كانت سائدة قبل تفشي العولمة في كل مناحي النشاط البشري ومنها الجماعات الجهادية ذاتها.
وقد كانت قليلة تلك البلدان التي تتوفر على مساحة واسعة تساعدها وعورة جغرافية وتنوع بالإضافة لكبر عدد السكان واتساع الحدود والمنافذ بحيث تتوفر لها العوامل المختلفة لإيجاد معطيات حرب عصابات جهادية يمكن أن تنتقل مراحلها وصولا إلى النجاح. فقد فتت مخططات التجزئة التي قام بها الإستعمار الغربي خلال الحملات الصليبية الثانية العالم الإسلامي والعربي إلى كيانات معظمها صغير عاجز يفتقر إلى معطيات جغرافية أو بشرية أو اقتصادية.
ولكن التنظيمات الجهادية رسمت عملها في حدود مواجهة الطاغوت الخاص بها ضمن السياح الذي نصبه سيكس وبيكو مطلع القرن العشرين. وهكذا وجدت معظم التنظيمات الجهادية نفسها أمام معطيات لا تمكن في الحقيقة من نجاح ثورة ولا انطلاق حرب عصابات متكاملة في غالب البلدان. فماذا يعمل تنظيم جهادي على مستوى البحرين أو قطر أو تونس أو الأردن أو سوريا أو ليبيا، ضمن المعطيات القطرية؟! وحتى تلك الدول الكبيرة كمصر والسعودية، لم توفر لها المعطيات القطرية العوامل الكافية لنجاح مواجهات سرية منظمات هرمية في حدود القطر. وكانت النتيجة النهائية نتيجة تضافر الأسباب متناسبة مع هذه المعطيات. وصفيت كل تلك المحاولات بلا استثناء عبر 40 سنه ومن خلال عشرات التجارب.
وبعد هذه الثلاثية الأساسية من مشاكل البنية والهياكل. كان هناك إشكالات بنيوية أخرى من أهمها.
4 - مشكلة القيادات غير الميدانية:
كما ذكرنا، اضطرت القيادات الرئيسية للتنظيمات، الأمير وكبار أعوانه لمغادرة البلاد والهجرة قسراً تحت ضغط الحملات الأمنية. واستقروا في الملاذات القريبة أو البعيدة عن مواقع قضيتهم، وتعاملوا معها عبر المراسلين أو الاتصالات الخارجية، المراسلين..الهاتف.. الفاكس! وأوجدت هذه الطريقة مقاتل للتنظيمات. ونقاط اختراق من قبل الإستخبارات لها.
كما أوجد هذا تلقائياً قيادات ميدانية عاملة عسكرية. وتحولت القيادات الخارجية إلى قيادات سياسية وإعلامية وسرعان ما خلق هذا الواقع مشاكل لا تعد ولا تحصى.. ولقد شهدت بنفسي عدداً من التجارب كانت هذه الإشكالية في طليعة ما ساهم في دمار القضايا الجهادية وكانت (الثورة الجهادية في سوريا) التي عايشتها من الداخل نموذجاً على هذه المشكلة. فقد استقرت القيادة السياسية للإخوان المسلمين في بغداد وعمان وفي جوار سوريا. وراحت تضع الخطط والبرامج لواقع سياسي وعسكري وأمني داخل سوريا، وهي لا تعرف عن واقعه إلا النزر اليسير. وسرعان ما تبدلت الأوضاع وقلت معرفتهم بالمستجدات وصاروا يرسمون الخطط في الفراغ. ووجدت القيادات الميدانية نفسها مضطرة للحركة والتصرف.ولكنها كانت مقيدة برباطين غليظين؛ البيعة والسمع والطاعة لقيادة الخارج. والحاجة الماسة لما ترسله من أموال مع الأوامر.
كما شهدت عدداً من القضايا الجهادية من خلال احتكاكي بأصحابها وقياداتها في عدد من الدول العربية. وقد وجدت لديهم نفس المشكلة. لقد كان على تلك القيادات أن تتحول إلى رموز شعبية تحرك الجماهير وقيادات سياسية إعلامية، تاركة المجال للعمل العسكري والقرارات الميدانية للقيادات الميدانية. ولكنها تشبثت بتفاصيل القرارات. ولم تثق بقيادات ميدانية شابة. وكان لديها الحق في بعض الحالات. ولكن هذا لم يلغ مشاكل لم تجد حلاً. وكانت بسبب طبائع الأشياء لتنظيمات تعمل بتلك الأساليب في تلك الظروف
5 - مشكلة التمويل:
كانت التنظيمات الجهادية محدودة العدد نخبوية غير جماهيرية في معظم أوكل الحالات.. وبالتالي لا توفر لها قواعدها أو جماهيرها ما يكفي من الموارد المالية. فاضطرت إلى اللجوء لمصادر خارجية. وولد هذا إشكاليات كبيرة. ولم تستطيع تلك الموارد في النهاية من جهات ليست أصيلة في تلك القضايا أن تسد الاحتياجات التي تضخمت مع انطلاق العمل وتضخم فواتير المصاريف العسكرية والأمنية، واحتياجات أسر الشهداء والمطاردين والأسرى...إلخ.
فقد اعتمدت التنظيمات الجهادية إما على دعم جماعات وتنظيمات سياسية دخلت المواجهة مضطرة نتيجة توسيع الأنظمة لدائرة الحرب نتيجة غبائها وطغيانها (كما حصل في سوريا)، وإما لاستغلال ثورة سيموت فيها الشباب ويستشهد المجاهدون. وستحتاج لقيادات جاهزة لاستلام الحكم بحسب الأحلام في انهيار تلك الأنظمة التي لم تنهار في نهاية المطاف!
وإما اعتمدت التنظيمات الجهادية على دعم بعض الجماعات الإسلامية من أقطار أخرى أو بعض شخصيات المحسنين المؤيدين للجهاد في غير بلادهم غالباً كما كان حال معظم المحسنين للجماعات الجهادية من المصدر الأساسي لمعظم تلك الحركات وهي دول مجلس التعاون الخليجي ولاسيما السعودية والكويت!
فإما وجدت نفسها مضطرة لتقبل المساعدات من بعض الحكومات والأنظمة ذات الأغراض الخاصة في ذلك الدعم.
ولا أريد التفصيل في إشكاليات كثيرة سببها هذا الحال ودخول الجماعات الجهادية للعمل تحت شعار لله يا محسنين. ولكن المحصلة أن برامج تجفيف المنابع. وعدم انتظام تلك المنابع حتى قبل قيام هذه البرامج. سار بالتنظيمات التي اتسعت مصاريفها إلى الإفلاس عمليا. وكان هذا أحد الأسباب الرئيسية للفشل.
6 - مشكلة الشورى وغياب المؤسساتية وتعذر قيامها مع المشكل الأمني:
كانت إشكالية الشورى وطريقة اتخاذ القرار من أكبر الإشكاليات التي رافقت العمل في معظم التنظيمات الجهادية. وأدت في كثير من الأحيان إلى الانشقاقات والانقسامات في التنظيمات وتفشي الظاهرة التي أسميتها (التنظيمات الأميبية) التي تنقسم وتنقسم وما تلبث أن تنقسم..
فقد اعتمدت أكثر التنظيمات الجهادية مبدأ الشورى غير الملزمة. حيث تعني أن الأمير مفوض في اختيار ما يرى من قرارات بعد الإطلاع على آراء قياداته ومعاونيه. واتخذ القليل منها مبدأ الشورى الملزمة حيث يلزم الأمير بالأخذ برأي أغلبية مجلس القيادة أو الشورى في مسألة ما.. وهذه مسألة يطول شرحها وتبيان سلبيات وإيجابيات كل طريقة وليس هذا مكان التوسع والبسط. وقد تلاقت بعض التنظيمات الجهادية هذه الإشكاليات بجعل الشورى على نوعين؛ ملزمة في القرارات الاستراتيجية العامة والهامة. وغير ملزمة في تكتيكات تنفيذ تلك الاستراتيجيات. ولكن كل هذه التقسيمات والجهد الإداري مع العواصف الأمنية وتشرد قيادات التنظيمات الجهادية إما في مخابئ داخل بلادها، وإما في مختلف الملاذات في دول مجاورة علناً أو سراً. حيث آل الجميع للاختفاء وكثرة التنقل ولم يعد بالإمكان ممارسة أي نوع من أنواع الشورى. وصار الأمير العام والأمراء الفرعيون يصدرون ما تيسر من الأوامر اللازمة، متوكلين على الله في ظروف بالغة المأسوية. وتحطمت المؤسسات والإدارات وتحولت إلى بعض المسؤولين عن أمور فرعية يتصرفون بحسب مقتضيات الضرورات الأمر الواقع. وتحول العمل لمجموعة من اليوميات بشكل إجباري على كافة الأصعدة.
7 - مشكلة ضعف لأمن الداخلي في التيار الجهادي:
إن مبدأ العمل في تنظيمات سرية تأخذ شكل عصابات تعمل بأسلوب أمني. هو مبدأ ونموذج عمل وافد على المجتمعات العربية والإسلامية التي عملت بسبب مكوناتها التاريخية والاجتماعية بطرق تقوم كلها على أسس معاكسة لمبدأ هذا الأسلوب الذي اضطررنا إليه اضطراراً نتيجة القمع. فالمجمعات العربية والإسلامية مجمعات مفتوحة. تعتمد التربية فيها على التماس مع الجمهور، ويعتمد الحشد فيها على الخطابة والجهر بالدعوة والتأثير في الناس. وتتناقل الأخبار في مجتمعاتنا بنظام الإشاعة. وجب إشاعة الأخبار موروث اجتماعي قديم، والمواجهات العلنية والمبارزات والمقابلات وعرض البطولات كذلك موروث تاريخي وحضاري. وهدر الوقت، وحرية الحركة، وحضارة البداوة والعفوية، ما تزال تطبع مجمعاتنا رغم التحولات الصناعية والمدنية.
فأسلوب التخفي والعصابات والسرية، وطريقة عمل المافيات، والمواعيد الدقيقة والمقابلات القصيرة والأوامر الصارمة الموجزة، والتنفيذ الحرفي دون التوسع في الإجتهادات. وعقوبة المخطئ، بل وتصفية المفسد في نظام عمل العصابات... كلها أساليب لم تلق استجابة من قبل مجمعاتنا. ولم تستطع التنظيمات أن تعد لأداء هذه الأساليب إلا كوادر محدودة جداً ضمن تنظيمها. وطبعت الصفات الاجتماعية العامة والعلل الموروثة عمل تلك التنظيمات وأدت إلى كوارث نتيجة عدم الانسجام مع هذا الأسلوب.
وكان على رأس تلك الإشكالات انعدام الحسن الأمني. وعدم إمكانية ترقية العناصر والقواعد العاملة في معظمها إلى ضرورات هذا الأسلوب. وقد لاحظت أن معظم المجاهدين الأبطال الذين عرفت الكثيرين منهم، ورأيت أداءهم الرائع في المواجهات الميدانية المفتوحة والجبهات في أفغانستان. كانوا من أفشل العناصر أداءً عندما أوكل إليهم مهام سرية أو اضطروا للحركة الأمنية بعد خروجهم لعالم المطاردات.
فالإشاعة ورواية الأسرار، وكثرة الثرثرة، وعدم دقة الحركة، وعدم احترام أمن الاتصالات المختلفة، من الحركة والهواتف والفاكسات، والإنترنيت من بعد، وسوى ذلك كانت أمراضاً عضالاً لم يمكن حلها ودمرت كثير من الخلايا على مر مختلف التجارب. حتى كدت أجزم بأن هذا الأسلوب لا يناسب قومنا، وأن علينا أن نجد لهم أسلوباً يفجر طاقاتهم بحسب إمكاناتهم وطباعهم ولا يحتاج أساليب لم أر كثيرين استطاعوا أن يعملوا بها ويأخذوا بأسبابها.
(ثالثا) - أخطاء في أسلوب العمل وإدارة المواجهة:
وسأعتمد في ذكر هذه الأخطاء على التعداد للاختصار ولوضوحها وعدم حاجتها للشرح والتفصيل والله تعإلى أعلم فمن ذلك:
1 - العجز عن إمكانية وضع استراتيجيات عمل نتيجة عدم توفر معطيات ذلك لأسباب إما خارجية وإما داخلية وتحول العمل لمجموعة من اليوميات والقرارات العشوائية أحياناً.
2 - فتح معارك جانبية مع شرائح من مدارس الصحوة الإسلامية أوقع قطاعات مختلفة من الشعب ومكوناتها السياسية أو الاجتماعية دون ضرورة لذلك، معارك جانبية من قبيل الإشكالات المذهبية والعقدية والسياسية وعدم التحكم في وحدة اتجاه المعركة تجاه العدو الأساسي المتمثل في الحكومات الطاغوتية والصائل الخارجي المتحالف معها.
3 - التورط في أسلوب مواجهات طويلة المدى مع أجهزة الحكومات الأمنية تحول إلى حرب استنزاف القاتل والمقتول فيه، والمحق والمبطل، والعدل والظالم، هو من مخزون الأمة. ولم تعجز الحكومات عن الزج بأبناء الشعب من قوات الأمن والجيش ومعظمهم إما من الجهلة أو المكرهين، في هذه المعركة اللامتناهية. فيما بقيت قوى ومصالح الصائل الخارجي سليمة لا يهم فيها أن تستهلك تلك المعارك أبنائنا السنين الطوال. فضار اللعب في ملاعب حددها العدو الأكبر وبطرق رسمها هو وحقق فيها أهدافه. واستنزف الجهاديون قواهم فيها دون جدوى.
4 - الفشل في أكثر الأحيان في تحديد مفاتيح للصراع وشعارات للمواجهة، يمكن حشد الناس عليها ضد الحكومات التي يواجهها الجهاديون. واقتصر الموضوع على تفاصيل الحاكمية وشعاراتها. وكانت معركة خسارة نتيجة صعوبة محتوى الطرح، وتصدي علماء السلطان له، ونجاحهم في إسقاط أساسه الأساسي وهو إثبات كفر الحاكم ووجوب الخروج عليهم. حيث اثبتوا للشعوب إسلامهم ووجوب طاعتهم. وأننا مجموعة خوارج، كلاب أهل النار، ومفسدون في الأرض، بغاة مجرمون. ولم يتمكن الجهاديون في الغالب من رفع ستارات تبرز مفاتيح صراع شعبية سهلة الفهم تثير تأييد العامة. فقد كان هناك مواضيع هامة جداً من الممكن تعبئة الشعوب بها حول الجهاديين، من قبيل مشاكل الجوع والظلم، وهدر الكرامات واحتلال المقدسات، والنهب الاستعماري، والاحتلال السياسي والاقتصادي. إلى آخر ذلك من الشعارات التي أحسن الوطنيون والقوميون واليساريون وحتى بعض مدارس الصحوة السياسية استغلالها وتحولوا لتيارات شعبية. وكلها مسائل شرعية في أساسها ويمكن طرحها بأسلوب إسلامي وجهادي. ولكن الجهاديين وخاصة بعد تداخل المعطيات الفكرية للتيار المسمى (سلفي!) في منهجهم اختاروا الطرح الأحادي لمشاكل الحاكمية والولاء والبراء. وهي مواضيع كما أسلفت تحتاج لفهم النخبة ويصعب على العوام هضمها.
5 - أسلوب خطاب أكثر الجهاديين لم يكن شعبياً. فقد كانت وسائل الاتصال محدودة ومتخلفة في الغالب نوعاً وكماً، فقد اعتمد الجهاديون على المنشورات والبيانات وبعض الكاسيتات في حالات محدودة جداً. ولم يكن لكثير من الجماعات الجهادية رسالة إعلامية أصلاً. بل إن كثيراً من شعوب بعض الدول لم تكن تعرف عن الجهاديين فيها شيئاً ولا لما ذا يقاتلون ويستشهدون وما هي أهدافهم.
كما تميز خطاب أكثرهم وخاصة بعد التمازج مع الفكر السلفي غير الجهادي، بالاستعلاء والقسوة وافتقاره للرقائق والمؤثرات العاطفية، وما يثير الرحمة والشفقة والتعاطف. واعتمدوا نبذ الناس م ومفارقتهم في كل شيء مما عزل الجهاديين وساعد الحملات الإعلامية على رسم صورة كاريكاتورية منفرة للشخصية الجهادية أكدتها ممارسات الكثيرين منهم عملياً..

(رابعا) - أخطاء وإشكالات ومعوقات وأنواع خلل أخرى في أسلوب عمل التيار الجهادي:
وهذه أيضاً سأذكرها كرؤوس أقلام بإيجاز أيضاً وبسبب تنوعها سأذكرها متفرقة على غير ترتيب مقصود فمن ذلك:
1 - افتقار التيار الجهادي لعلماء يقودون مسيرته فسيدون ثغرة التربية والفتوى والكتابة والتوجيه. ويكونون رموزاً شعبية تحشد العامة. مما ساعد على ظهور ظاهرة المفتي الشاب مما اصطلحوا عليه بالإسم الفضفاض: (أخ عنده علم)! وهو مصطلح يصدق حتى على أي جاها أو علم.. فما من مسلم إلا وعنده علم.
2 - انخفاض مستوى العلم الشرعي عموماً في التيار الجهادي وعلى كافة المستويات. حتى ولدت تجمعات جهادية لتعمل في بعض البلدان في المراحل المتأخرة على أيدي كوادر شبابية تتصف بمستويات بالغة التواضع في هذا المجال الأساسي بالنسبة لتيار جهادي أصولي إسلامي.
3 - انخفاض مستويات التربية العبا دية والسلوكية والأخلاقية في كثير من المتأخرين ممن لحقوا بالجهاد من الشباب. وبسبب انعدام وجود برامج للتربية ظهرت ظواهر مؤسفة في بعض التجمعات الجهادية. وكان يمكن أن يلاحظ الفارق الهائل من عاش جيل الجهاد الأول وكتب الله أن يرى تلك النوعيات من متأخري الجهاديين.
4 - تفشى الجهل عامة في مختلف مستويات المعرفة فضلاً عن الجهل البشري وانخفاض مستويات التربية السلوكية. فقد طبع كثير من اللاحقين بالتجمعات الجهادية، حالة من السطحية والجهل بالواقع السياسي والأمني والعلمي... ومعظم مناحي مستجدات الواقع، بل إن المستويات المتواضعة أو حتى السيئة التي ميزت العديد من عوام من لحق بالجهاد من الشباب.. تجاوزت لتكون حالة بعض من تصدى للقيادة والإدارة في بعض التجمعات الجهادية الناشئة أواخر القرن العشرين.!
5 - اقتصار مناهج التربية والإعداد في الجبهات والميادين المفتوحة مثل أفغانستان في المرحلتين على برامج التدريب العسكري شبه المحض. حيث غابت برامج الإعداد العلمي الشرعي والتوجيه السياسي والتأهيل الفكري والتربية السلوكية عن تلك المناهج. رغم توفر الظروف من الملاذ والأمان والإمكانيات المادية. فقد اعتمد الغالبية (التربية الإنكشارية) وثقافة المدافع على الطريقة العثمانية. وساهمت تلك الطريقة ومن أشرف عليها بزراعة الجهل وتخريج عينات لا تنتمي إلى التيار الجهادي الذي عرفناه قبل عقدين من الزمن، إلا بالعاطفة والحماس والإخلاص الذي تذهب تلك العلل بمعظم نتائج فضائله هذه.
6 - بروز ظاهرة التنطع والتشدد في المراحل الأخيرة من التيار الجهادي، بعد منتصف التسعينات، فقد أدت الظروف العامة، من المطاردات والقهر والكبت والظلم.. وعلل الصحوة الإسلامية وبلاء علماء السلطان، وطغيان الحكومات، وغزوات الأعداء الخارجين، وما يجري في الأمة من نكبات. مع إعراض أكثرها عن دينهم. أدى إلى ردود أفعال طبعت الكثيرين من قواعد الجهاديين بالعصابية، وحب التشدد والتنطع، والتعبير عن التدين بالتشدد، وعن الالتزام بالعنف والتطرف في أبسط الأحكام والمسائل. وكنت أرى مع بعض قدماء الجهاديين بعد أن كتب الله لنا أن نرى بعض هذه النماذج المتأخرة، أن الفجوة بين هذه النماذج ومجمعاتها التي انسلخت عنها أصبحت من الهوة بحيث لا يصلحون إلا لمحاربتها. ولا يمكن لهم أن يلتقوا مع مكونات السواد الأعظم من شعوب بلادنا على شيء من القواسم المشتركة.
7 - تفشى روح الإمعة وانخفاض مستويات الإبداع. وظهور ظاهرة الإدارة النخبوية النشطة في كل تجمع وتحول الباقين لأتباع تفصلهم فجوة كبيرة من حيث الإمكانيات والتأهيل عن النخبة المحدودة بالدائرة الأولى في بعض التجمعات الجهادية.
8 - تدني روح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلة ظاهرة النقد الذاتي الهادف، وتدني القدرة على إصلاح الخلل داخل التجمعات الجهادية إلا في دائرة محدودة جداً. وانعدام تحقق الشورى في الأوساط العامة، وانحصارها بالنخبة في معظم التجمعات، على عكس ما كانت عليه في السنة النبوية ومنهج السلف الصالح.
9 - تفشي ظاهرة (المجاهد على كيفه) في المتأخرين من الجهاديين. وهذا من آثار منهج (هم رجال ونحن رجال). خاصة في أفغانستان في شوطيها.. لا مذهب.. لا جماعة.. لا أمير، لا منهج،لا ضوابط، حر مطلقاً،لا منتمي، متمرد لا يمكن ضبطه، ولا مرجع لديه.
10 - تفشى ظاهرة جهاديين لم يجاهدوا!! ومع ذلك تصدروا كرموز وموجهين ومفتين للجهاديين..! وظهور ذلك في أوساط اتباع وأنصار للتيار الجهادي متعصبين جداً لمنهجه ورموزه بالكلام، ولكن لا يجاهدون بالفعل، وخاصة في أوساط الصحوة في بلاد الغرب، وأوساط أخرى.
11 - تفشي ظاهرة من أرادوا الإعداد ولم يريدوا الخروج! على عكس من لو أرادوا الخروج لأعدوا له.. ولكن هؤلاء أعدوا ولم يخرجوا.! آلاف المتدربين بلا فائدة،لا يمكن معرفة مصيرهم بعد أن تلقوا ارفع التدريب. وسبب ذلك أنهم تدربوا ولم يربيهم من دربهم ولم يزرع فيهم أي عقيدة قتالية.
12 - العمل لحساب الآخرين في قضايا تقاطع المصالح الدولية والإقليمية وعدم قدرة القيادات المرحلية على صناعة مشروع ذاتي. كما حصل في تجربة أفغانستان الأولى. وتجربة البوسنة.
13 - نسيان الأسرى: وهذه من كوارث التيار الجهادي. فقد تراكم الأسرى بالآلاف في سجون الطواغيت. وفيهم العلماء والدعاة وكبار الإسلاميين وقادة المجاهدين وخيرة كوادرهم. ثم تراكم مئات الأسرى في سجون أمريكا والدول الغربية كذلك..ولم يبد التيار الجهادي أي حراك في اتجاه القيام بعمليات تهدف إلى سراحهم!! وكأنهم نسيا منسيا.
14 - فقدان القدرة على (الردع).ردع مختلف صنوف الأعداء حتى آل أمرنا لأن نكون مرهوبين رغم أنهم يسموننا إرهابيين!
وهكذا..
طويت مرحلة تاريخية هامة من مراحل أهم مدارس الصحوة الإسلامية وأكثرها أثرا في واقع المسلمين. وهي مدرسة التيار الجهادي، التي استغرقت تجاربها وعطاءاتها زهاء أربعة عقود من الزمن. وقد حاولت في هذين الفصلين السادس والسابع. أن أسجل خلاصة مسارها وخصائصها، ودروس تجاربها. وعرضت لخلاصة حصادها الإيجابي وإنجازاتها العظيمة. وكذلك عرضت للأسباب الداخلية والخارجية التي أدت لفشل تلك المحاولات في الوصول لأهدافها في النهاية بقدر الله.
 وباختتام هذا الفصل ينتهي الجزء الأول من هذا الكتاب الذي تعرض لجذور ما نعيشه من أحاث، وخلاصة تاريخ ما مر بهذه الأمة من تجارب الصراع مع الروم، بلاء هذه الأمة ومحنتها الأزلية.
وخلاصة مسار صحوتها الإسلامية والجهادية وما حفلت به من تجارب وعبر. تجب معرفتها واستلهام دروسها ونحن نستفتح القرن الحادي والعشرين، ونلج عالم ما بعد سبتمبر.. عالم الحملات الصليبية الصهيونية الكبرى على عالمنا الإسلامي الكبير..
 هذا القرن الذي يريدونه أمريكيا صهيونيا..حيث تداعت علينا الأمم تداعي الأكلة إلى قصعتها، تماما كما أخبرنا الصادق المصدوق..
 هذا القرن الذي علينا أن نفتتحه بإطلاق المقاومة الإسلامية العالمية لهذا الصائل على الدين والمقدسات والأنفس والأعراض والأموال..وكل مقومات وجودنا كأمة مسلمة.
 هذه المقاومة التي لا تنطلق على هدى وبصيرة، بغير معرفة جذور هذا الصراع وتاريخه وتجاربه وهي ما كتبت الفصول الماضية لسد بعض ثغرته..
 هذه المقاومة التي يجب أن تنطلق على أسس من الهدى والبصيرة والأسس المتكاملة، التي تبني على ما مضى من عبر ودروس. وتنطلق وفق ما يناسب المرحلة من منهج وأساليب. في ضوء ثوابت هذا الدين والعقيدة الجهادية القتالية لهذه الأمة. وأسس منهج حركي منضبط يناسب ما استجد بنا من نوازل وظروف. وهو ما سأحاول أن أضع على طريقه بعض المعالم في الجزء الثاني من هذا الكتاب والله الموفق وهو الهدي إلى سواء السبيل.

شارك