القرآن والمتغيّرات الاجتماعيّة والتاريخيّة

الجمعة 22/مارس/2019 - 02:40 م
طباعة القرآن والمتغيّرات حسام الحداد
 
الكتاب: القرآن والمتغيّرات الاجتماعيّة والتاريخيّة
المؤلف: محمد أبو القاسم حاج حمد
الناشر: دار الساقي
كيف يمكن للنص القرآني الثابت بشكله ورسمه ومحدودية مفرداته أن يستجيب للواقع اللامتناهي بأحداثه ونوازله ووقائعه؟
هذا ما يحاول المؤلف أن يبينه في هذا الكتاب كترشيد للصحوة الإسلامية والحركات الإسلامية التي ما زالت تنظر في القرآن بمنهج فكري ماضوي، فالتغيير لا يمكن أن يكون بالعودة إلى الوراء وسحبه إلى الحاضر بمشاكله وأجوبته. يفترض المؤلف أن القرآن قادر أن يتفاعل مع كافة مناهج المعرفة والثقافات البشرية، وقابل للاستجابة للمتغيّرات الاجتماعية عندما يتمّ التعامل معه بشكل منهجي. 
محمد أبو القاسم حاج محمد كاتب ومفكّر سوداني. عمل مستشاراً علمياً لـ "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" في واشنطن. أسّس عام 1982 "مركز الإنماء الثقافي" في أبو ظبي وأقام أول معارض الكتاب العربي المعاصر بالتعاون مع العديد من دور النشر اللبنانية. أسّس في قبرص "دار الدينونة" لإعداد موسوعة القرآن المنهجية والمعرفية، ومجلة "الاتجاه" التي تعني بشئون الفكر والاستراتيجية في نطاق الوسط العربي والجوار الجغرافي. صدر له عن دار الساقي "الحاكمية" و"جذور المأزق الأصولي". 
إن الكتاب الذي نعرضه اليوم فيه دعوة وتحفيز للأجيال الشابّة، للعودة إلى هُويتها الأصيلة المتمثّلة بالتفاعل الحي والحيوي والحضاري مع النص القرآني، لتعزيز حاضرها ومستقبلها وتواصلها مع فكرها وقيمها.
وإذا ما تمّ اعتماد منهجية معرفية معاصرة، فإنَّ القرآن يقبل التفاعل مع كلّ الثقافات البشريّة، ويستجيب للمتغيرات الاجتماعية والتاريخية
وبداخل هذا الكتاب ينتقد الحاج حمد بعض الجهات التي تسترجع الماضي بتفكيرها وسلوكياتها، ليس هذا فقط بل تفرض هذا الماضي على الحياة المعيشة الآن، ما يعيق التقدم والنهضة بوجه عام؛ ولهذا يدعونا الباحث إلى العودة إلى الذات، حتى نستطيع أن نعبِّر عن "مشروعية" فكرية وتاريخية لتكوين الأمّة، وهذه العملية لا تتمّ إلا باستخدام مناهج معرفيّة معاصرة، لتأصيل عمليّة التحديث والنهضة في جسد الأمّة، والدفع المستقبلي المرتبط بالتحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة.
فرغم الحيّز الكبير الذي تحتلّه القراءات التأويليّة للنصوص التأسيسية للإسلام في الأدبيات التجديدية (محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد وآخرون...) إلا أنّ جدلية الوحي والتاريخ لا تزال فاعلةً حتى اللحظة، وذلك بفعل عامل جوهري، يتمثل في أزمة الصراع بين التأويليين، وقارئي النص المقدس من منظار حرفي.
والكتاب في اتجاهه العام؛ يطرح إشكالية مهمة تتصل بالعلاقة بين الوحي الإلهي والتاريخ، ومراحل الصلة بين الوحي في تجلياته المتنوعة، وكل المشكلات النفسية والاجتماعية والأنثربولوجية التي تمثل الإنسان في رحلته الوجودية، منذ آدم عليه السلام، وصولا إلى مرحلة الظهور الكلي.
فقد تعرض محمد أبو القاسم حاج حمد في هذا الكتاب ضمن مدخل وتقديم وفصول ثلاثة وخاتمة، إلى أهم الإجابات التي تتضمنها فلسفته، المتمحورة حول الجمع بين القراءتين، وجدل الغيب والإنسان والطبيعة، وإسلامية المعرفة، والظهور الكلي للمنهج السلمي ودين الهدى والكافة، وشِرعة التخفيف والرحمة وحاكمية الكتاب. تعرض للمدارس الوضعية والتاريخانية الشكلانية المادية التي تصر على عدم جدوى الروح والمتعاليات ابتداء. وأيضًا كون المنتوج الثقافي الإنساني محكوم بملابسات زمانية وبيئية واجتماعية ونفسية وأنثربولوجية، إذ لا يمكن أن تقارب المعطيات المعرفية وما يحفها، إلا ضمن إطار شرطية ومحكومية الارتهان لضغط التاريخ وعوامله المتنوعة التي تنعكس على الوعي بعد أن تنتجه ابتداء، فتوحي له بمضامينه وأحكامه، ويضعه ضمن أفقه الصلب الذي لا يمكن الإفلات منه.
القرآن والمتغيّرات
وفي مقدمة الكتاب، يشير مؤلفه إلى الهدف الأصلي الذي يربط كل أعماله السابقة والتالية، وهو ترشيد الصحوة الإسلامية، ووضعها على خط إكمال شرطها المعرفي الذي تفتقده، ولأنها لا تزال لم تنتبه إلى هذا الأساس، فإنها من الوجهة التاريخية تراوح مكانها، ولم تغادر عهود الصبيانية والمزاجية والعاطفية في التعاطي مع الآخر، وأيضًا في تناول مصادرها المعرفية، خاصة القرآن. ومن الأسباب التي جعلتها كذلك، انخراطها في العراك السياسي والتنظيمي والحركي، ظنا منها أنه شرط التحرك التاريخي والانطلاق الحضاري، في حين أن جذر الحلول يكمن في الجانب الفكري الذي ينبغي استكماله وفورا، حتى تبلغ مرحلة الظهور الكلي للدين الإسلامي، كحتمية تاريخية كونية، لا من جهة الاستلاب اللاهوتي للواقع ومصادرة له، بل لأن الله سبحانه قد وعد، لكن هل يجد الوعد حملة يؤدونه ويفون بنهايته؟ وهنا تكمن مشكلة الترشيد والتجديد معا.
مشكلة ناشئة عن ذهول الحركات الأصولية عن منطق التاريخ والواقع، وأيضًا كونها ساوت بين الصحوة وبين العودة الجزئية إلى الذات في الشكل الماضوي المتعجل، غير القادر على تحويل الاجتهاد من فورة فردية وشخصية، إلى عملية جامعية مؤسساتية، هدفها الفهم، لا تكرار ما قاله الماضون استجابة لمشكلات زمانهم، فنجدنا أمام فئة تكرر نفسها في غيرها، وغيرها في نفسها، عجزًا عن الدفع بملاك الاجتهاد عندها إلى نهايته، وهو الفهم وعدته، لكن المشكلة في "الكيفية الاسترجاعية التقليدية الماضوية لهذا الإسلام بأسلوب تتحكم فيه وبه مقومات العقلية الراهنة المتسمة بقصور الوعي بأكثر من عقلية الماضي التي كانت اجتهادية في حاضرها السالف بالنسبة لنا"، وبذلك نجدها تتراوح مكانها بين شكلين من الممارسة يعريانها في الأخير ويظهرانها أقل بكثير من الصبيانية التي أشرنا إليها آنفا، فلا استعادت الماضي بشروطه، حيث يستحيل، ولا تمثلت الحداثة ضمن شروطها التاريخية، لعدم انخراطها في الجدل التاريخي للوقائع والظروف، والتركيبات والبنيات التي أدت إليها كحالة مركبة غير مبتسرة.
لذا من اللازم سوق الصحوة إلى معنى، أنها البديل، لكل التيارات التي فشلت في تحقيق النقلة النوعية والتاريخية لكل العرب والمسلمين؛ فالليبرالي تعاطى بشكلانية مع مؤسسات الحداثة، ما قاده إلى فوضى عارمة في كل شيء، رغم نجاحاته النسبية، لصدود الجماعة التاريخية عن مطمحه، ووفائها المستميت لأطر الحياة القبلية والطائفية والمذهبية المنغلقة، ففوتت عليها وعليه، فرصة التفكيك القادر على تحقيق حالة مدنية، تسمح لها في النهاية من تأسيس تقاليد تتيح اللحاق بنمط الحداثة في غير مشكلاته، خاصة لتوفر الإطار القيمي الذي يحرزها عن الوقوف في مفارقاتها. ومن أهم الانتقادات التي يمكن توجيهها للمثقفين الثوري اليساري، والليبرالي، اعتمداها على تكرار مقولات خارجية لا تنم عن تحولات عميقة في صميم التجربة التاريخية العربية، وأيضًا لم يستكملا الشرط الفلسفي لعملية التحول، فيقدران على تكوين حداثة عربية ضمن شروطها وقوالبها، من غير انضغاط في اتجاه اختيار القوالب الغربية بحذافيرها.
فكما كانت المشكلة الأولى في الذهول هي الشروط، فإن الثانية تنكب عن المناهج الحديثة التي تمنح فرصة القطيعة المعرفية الجوهرية التي تحتاجها الصحوة لتكمل مسيرتها التاريخية، وتمثل العلة في أنها تتعاطى بمناهج تقليدية مكررة، مع حوادث ووقائع متجددة؛ أي لم يحدث التحول على مستوى المنهج، فالفهم، فالوعي.. ففرق بين أن ننظر جميعا إلى الشمس الواحدة، من حيث ما هي؟ وبين أنظارنا نحن بالعين المجردة، أو بالتلسكوب، أو الأقمار الصناعية.. كذا الوعي ومناهجه؛ فالمشكلة لا تتمثل في القضايا بمقدار ما تظهر في المناهج الدارسة؛ فهي أزمة مركبة أجهضت مشاريع الليبراليين والثوريين والإسلاميين على حد سواء؛ فالأوائل، لأنهم قاربوا مجتمعاتهم بأدوات لم تساير منظوماتهم المعنوية وعوائدهم؛ والآخرين؛ لأنهم وجدوا أنفسهم في مصادمة مع قيم الدين المعنوية والروحية، إذ لم يميزوا بين الدين كثرة للتسديد الإلهي وحاكمية الكتاب، وبين ركام البداوة وتأثيراتها على الفهم الأصولي واستنتاجاته. وعندما تبلغ الحاجة بالمجتمعات التقليدية مرحلة الرغبة الملحة في التحول، عند ذاك قد يتحول الفشل إلى نجاح. 
ثم يردف الكاتب بتساؤلات مهمة حول طبيعة الإسلام الذي ينبغي أن تعتمده الصحوة الرشيدة، أيقوم على المعنى الاستردادي المكرر أم على الدلالة الإبداعية المجددة فعلا؟ أيكون بمنهجية علمية موضوعية تدفع بمقدرات الإنسانية إلى الانبثاق، أم أنه يؤبد الحلول بتأبيد الإجابات الماضوية؟ أتستحضر تلك التجارب الواقع أم تلغيه؟ أين يظهر موقفها الفكري المكين من أزمات العصر ومشكلاته، هل تملك هذه الصحوات إجابات ناضجة بالرأي المتوازن والحكم السديد؟ هي كلها أسئلة اختبر بها فيلسوفنا مبلغ اطلاع وسعة النظر عند التجربة التاريخية المنعوتة بالصحة، وعمد إلى استفزازها لتكشف عن وجهها المعرفي لتستدرك فواتًا عميقًا أخذ يتكرس لتخلفها، وأخذ يضيق إذا انتهجت الإسلام برؤية المنهجية المعرفية القرآنية، الجامعة بين التعالي في لزومه، والتاريخ في مشروطيته.
أولا- المرجعية القرآنية وتقصيرات الصحوة، أو نحو استعادة راشدة للقرآن:
ما درجت الأدبيات المؤرخة للحراك الثقافي والسياسي أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، على تسميته بالصحوة أو الحركات الإسلامية، أو الأصولية الإسلامية، أو الإسلاموية، كله ينطبق على جماعة أو جماعات تاريخية، هدفها الأسمى تعويض غياب الخلافة الإسلامية عن وظيفتها التاريخية، وتعرضت لدراسات شتى تصنفها بناء على الولاءات الأيديولوجية أو السياسية أو الحزبية وما إلى ذلك، إضافة إلى أفراد بارزين نعتوا فيما بعد بالدعاة والدعاة الجدد، وتوزعوا جميعا بين الحزبيين، والحركيين، والجهاديين.. وأغلبهم شباب أو هكذا صورتهم الدراسات، وينتمون إلى الطبقات الدنيا، وعلى أقصى تقدير الوسطى، وباعثهم جميعا الاستعادة الاستردادية، اللهم من نشط من عقال الربقة التنظيمية، واقتفى المعنى العلمي المنهجي، فإنه خال للدين دورًا تاريخيًّا تقدميا، باستثناء من جعلها هي بدورها مظهرا لأزمة التحديث وفشله الذريع، كما يحب محمد أركون (2010م) غالبًا أن يقرر. لكن السؤال المركزي حسب الكتاب: إلى أين تتجه هذه الصحوة بتلويناتها المختلفة، هل إلى الماضي أم إلى المستقبل؟ هل تسترجع الماضي لتمضي قدما، أم تستعيده، لأنها تظن أنه النهاية التي كانت في البداية؟
يرى حاج حمد أن العودة إلى الماضي يجب أن تفيد بالضرورة الرجوع إلى القرآن، من حيث هو المرجعية الإلهية الكونية المعادلة في وعيها الموضوعي للوجود وحركته؛ فقد أقر الكتاب التماثل الأنطولوجي بين كل الكون، وكل القرآن، (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) سورة الحجر، آية 87. وبذا يكون للكتاب حضوره البناء في صناعة الوعي المتأهب ليستعيد الماضي الحي، ويتفادى تكرار التجارب الخاطئة التي أورثت الفوات التاريخي في العالم، أو على الأقل بين الغرب والعالم الإسلامي، وهنا تظهر إشكالية تأصيل الحداثة، وتحديث الأصالة، بين عملية اللحاق الحقيقي بقصد تطوير الثقافة، والطلاء البراني الخارجي الذي لا يحدث سوى فرقًا شكليًّا، وهنا يقر حاج حمد، كما أقر قبله المفكر الجزائري مالك بن نبي (1973م) فرق بين من ينتج الحضارة ويبنيها، ومن يستوردها شكليا ويعتقد أنه يملكها. "إن عملية صناعة الحضارة، وليس استيراد منجزاتها، هي التي تصنع التحول الفكري والاجتماعي؛ فنوعية أدوات الإنتاج والشغل والتشغيل والتحكم في الطبيعة، إنما تعكس حالات فكرية معينة، والفرق النوعي شاسع بين ثقافة تنتج المحراث اليدوي في مجتمع زراعي وثقافة تنتج المحراث في مجتمع صناعي ثم تطلق القمر الصناعي".
فالمسألة مركبة، لا تختص وحسب بعملية مباشرة نقل معطيات تكنولوجية من فضاء لآخر، بل هي حالة تاريخية مركبة ومعقدة تماما، تتسم بالاتصال بين النواحي الحياتية لجماعة تاريخية ما، خاصة في منوالها الفكري وطريقتها المنهجية في مقاربة العالم والنظر، والوعي الذي أنتج في فترة زمانية ومكانية ما، إنما يشير من كل النواحي إلى التجاوبات النفسية والمعرفية والثقافية لتلك الفترة مع مدوناتها وما تؤلفه وتقرأه؛ فمجتمع لا يزال نسيجه الاجتماعي خارج الأفق الزماني للعالم، يجد نفسه بعد حين في مضمار المعاداة لكل جديد ومستحدث، وهكذا كان بالنسبة للحركات التي تزعم الارتباط للإسلام بكثير منها، أو بعض منها، أو على أقل تقدير توجسها من كل ما يباين طريقتها في الحياة. إنها حركات ".. لا زالت.. بمعزل عن تبين الإشكالية في عمقها"، وإن برز من بعض ديباجاتها الدعوية استعمالها لخطاب يدمج بعض ما يفيد أنها انخرطت في إشكاليات جذرية تمس العالم، لكن أبسط إحالة إلى الواقع في تشابكاته تنغلق وتنتفض، وتكرر حلولا عرفها السابقون، لكن ليت شعري، إذا أدت عن السابقين، هل تؤدي عن اللاحقين وترفع عنهم غبنهم، في سكينة مريرة، وكأنها تملك الحلول جميعا، فتغفل عن التاريخ، فيغفلها التاريخ. ويعطي الكاتب نموذج سيد قطب (1965م) بخطابه التجهيلي والاستعدائي، بعناصره الأساسية، الحاكمية، الجاهلية، المفاصلة، الجهاد، الجماعة المؤمنة.....ويذكر بالعجز الدارج لهذا الخطاب وما انبثق عنه من حركات؛ كونها تجاهلت الاعتبار التاريخي الاجتماعي بالطريقة التحليلية النقدية، لذهولها عن الموازين المنهجية القرآنية، وأيضًا لأن الحداثة لم تحدث تغييرات بنيوية في أساليبها، لذا تحتاج إلى نخبة تقودها إلى الانتقال الواعي الممنهج نحو الحداثة المختارة، المبنية بكفاءة معرفية ومنهجية عالية، تولّف بمنطق التركيب والجمع، بين المنهجية المعرفية القرآنية، ومكتسبات المعرفة الحداثية ومناهجها، من غير ضرورة للاندفاع إلى نهاياتها الفلسفية.

شارك