صيحات التجديد الدينى ( 29 )

السبت 26/سبتمبر/2015 - 10:28 م
طباعة
 
ونمضى فى مسيرة محاولة التعرف على طه حسين الحقيقى.. فمعركته ضد الأزهر وأسلوب التعليم فيه ومعركته ضد السائد والمألوف والمعروف كان مفتاح التجديد فى فكره، وفى عام 1912 وقبل سفره للبعثة كتب مقالاً بعنوان "الأزهر وتعليم الدين" قال فيه "للأزهر الشريف خصلتان فى تعليم الدين هو فيها متفرد وبهما يستأثر مستبد، وهو لهما محب وعليهما مشفق حريص ، الأولى هى مزج الصحيح بالمحال والملاءمة بين حقائق الخاصة وأوهام العامة ، وبين فلسفة العقل وخطرفة الخيال بما يجعلها تعبث بعواطف القلب وتمسخ حقيقة الدين وتفسد أعمال الناس . والثانية هى فساد اللغة العلمية وإغراقها فى التعقيد والغموض حتى تخرج من كونها لغة خطاب ومحاوره فضلاً عن أن تكون لسان تعلم أو تعليم والنتيجة هى أن الأزهر لا يحسن تعليم الدين ولا يستطيع أن يسد خلته ، بل هو يحدث فى العقل آثاراً سيئة وفى الدين هنات مذمومة . 
وهو يؤدى إلى فساد الحياة العقلية وقصور العقل عن فهم الأشياء ووضعها فى منازلها ومصدر ذلك الأوهام والأباطيل التى تتخذ سبيلها إلى الدين" [الجريدة – 23/1/1912] وحتى التعليم فى الجامعة لم يحز رضاء طه حسين فهو يكتب تحت عنوان "الجامعة والنهضة": "كانت الأيام التى قضيناها دارسين للعلم فى هذا العصر الحديث عقيمة قليلة الإنتاج، فليس من سبيل إلى شفاء العقول من هذا المرض إلا إصلاح طريقة الدرس وتعويد العقول أن تبحث حرة غير مقيدة بشهادة المدرسة ولا منصب حكومة ولا إرضاء العامة. والجامعة وحدها هى المؤهلة لذلك" [المحمودى – المرجع السابق – صـ68] . ولعله من المفيد أن نتوقف لنقارن بين منهجين أو معركتين خاضهما طه حسين، والشيخ على عبد الرازق وكانا صديقين حميمين لكن طه محاذر ماكر يقول كل شيء فى كلمات مبهمة تقول بدورها كل شيء دون أن يمسك أحد بتلابيبه وحتى بعد أن أمسكوا بتلابيبه عقب كتاب "فى الشعر الجاهلى" وكانت المحنة الأشد قسوة فى حياته نراه يكتب إلى على عبد الرازق من باريس فى 9أغسطس 1926 وبرغم أن الرسالة خاصة فإنه يكتب محاذراً ، ويرد عليه على عبد الرازق بذات العقلية التى كتب بها "الإسلام وأصول الحكم" قائلاً: "حرام عليك أن تذكر وأنت فى باريس مشايخ الأزهر وهناتهم فتشوه بهم ما يعمر الذهن من صور الجمال وتكدر بذكرهم لعنة الله عليهم كأساً هنية صافية ، وأقسم لك أنك لو أخذت من زريبة الأزهريين الشيخ بخيت والشيخ شاكر فقط وربطهما فى حبل واحد ودليتهما من فوق برج إيفل لأظلمت باريس" [طه حسين الوثائق السرية – تحقيق وتقديم د. عبد الحميد إبراهيم – صـ233] والفارق واضح ، لكن محقق الكتاب يقول أن وسوسات طه حسين لعلى عبد الرازق كانت وراء كتاب "الإسلام وأصول الحكم" سواء فى الأسلوب أو المنحى ، وقبل كل شئ فى الوسوسة والإغراء [المرجع السابق] . وكان طه رغم أنه ضرير ذا حس مرهف يلقنه كل شيء حتى إن أصدقاءه ومحبيه قالوا إنه ليس أعمى، ويقول صديقه زكى مبارك "يشهد الدكتور طه على نفسه بأنه ضرير وذلك فن من فنون المراوغة، فقد صحبته نحو عشر سنين ولم أنتبه إلى أنه ضرير، وكيف أصدق دعواه وما رأيت رجلاً أرشق منه فى تناول الشئون التى يتناولها المبصرون، كنا نخرج من الجامعة المصرية عندما كانت فى قصر الزعفران وكانت الجامعة لا تزال أهلية وكنا نقفز إلى المترو وهو يتحرك، ولا يشعر أحد بأننى أصاحب رجلاً من المكفوفين، ومن يصدق أننى لم أحلق ذقنى بيدى، إلا بعد أن رأيت طه حسين يحلق ذقنه بيده، وهو يمشى بقامة منصوبة توشى برشاقة الرمح المسنون، وطه لتوهمه أنه ضرير يحاول التأثير باللسان حين فاته التأثير بعينيه.. خلاصة الأمر أن طه حسين استطاع أن يقيم البراهين على أنه من أقطاب الأدب فى هذا الزمان، ولو كنت أصدق أنه أعمى لكففت عنه قلمى، ولكننى واثق أنه مبصر وبأنه الأستاذ القدير" [نقلاً عن الأهرام – 9/11/2013- مقال لسناء البيسى].. ولم يكن زكى مبارك وحده فى الحديث عن هذا المبصر رغم أنه ضرير، فهناك الشاعر العظيم نزار قبانى الذى قال فيه: 
ضوء عينيك أم هما نجمتان؟ 
كلهم لا يرى .. وأنت ترانى 
إرم نظارتيك ما أنت أعمى 
إنما نحن جوقة العميان 
عد إلينا فإن ما يكتب اليوم 
صغير الرؤى صغير المعانى
آه يا مصر كم تعانين منهم 
والكبير كبير دوماً يعانى 
لكننا لا نستطيع أن ننهى هذه الكتابة دون مجرد إشارة لمسألتين مهمتين، الأولى معركة طه حسين حول كتاب مستقبل الثقافة فى مصر مع الثنائى الشيوعى محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس والذى اختتمها معلقاً على ردهما عليه متهكماً على أسلوب الكتابة اليسارية قائلاً "يونانى لا يفهم" ، والثانية هى دعوته لكتابة جديدة للغة العربية على أساس النطق كسبيل لإنهاء مشكلات التنوين والنحو وكتب مقالاً فى الجمهورية كنموذج لهذه الكتابة وقعه بأسمه مكتوباً كما يلى :طاها حوسين . ولم يهتم أحد بل وتهكموا عليه فصمت وتناسى الأمر . 
.. وتجرى الأيام أربعون عاماً على رحيله ويكاد البعض أن ينساه لولا أننا وفجأة نكتشف أننا فى أشد الحاجه إليه.


شارك