مصر وتونس.. ومشهد ثوري لم يكتمل بعد

الخميس 28/يناير/2016 - 10:27 م
طباعة
 
لا تنطبق على الثورتين المصرية والتونسية النماذج الثورية التي عرفها العالم، وخاصة ما يتعلق بحزب يقود وأيدولوجية تغييرية وقيادات معروفة، بل مجرد تجمع شرائح اجتماعية وعمرية يغيب عنهم القادة، واقتصار الأمر على مجرد شعارات تتعلق بالحرية السياسية وسلمية تداول السلطة وإنهاء الفساد وتحسين المعيشة عبر شعارات كرامة حرية عدالة اجتماعية، لذا بعد مرور خمس سنوات لا يزال المرء يتساءل في تونس ومصر: ماذا أنجزته الثورة حتى الآن؟، وهل نجحت الثورة في تحقيق آمال وتطلعات شعب البلدين؟!
وبنظرة سريعة على منجزات أهم الثورات التي مر بها العالم، نجد أن الثورة الفرنسية 1789 م أنهت حكم الملك لويس السادس عشر وحولت الحكم إلى نظام جمهوري مع رفع شعارات "الحرية والإخاء والمساواة، وأعلنت قيام دولة المؤسسات والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وإنجاز دستور يؤكد على حقوق المواطنين وواجباتهم وحرية التنظيم والاتقاد وغيرها من الحقوق التي كانت فيما بعد زرع ثمرة نظام حقوق الإنسان العالمي، أما الثورة الروسية 1917م عملت على إحداث تغييرات اجتماعية مثل إلغاء نظام الملكية الفردية ولم تكتف بعزل القيصر فقط، بينما أنتجت الثورة الصينية 1949م انتزاع الأراضي من الاقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين.
هذا ما أنجزته بعض الثورات، أما عن المشهد المصري فنجد أن الثورة لم تفرز تغييرا حقيقيًا في بنية المجتمع المصري، فكل ما حدث هو تغيير الاستبداد السياسي وتسيد الاستبداد الديني للمشهد، وقيام جماعة الإخوان المسلمين بإقصاء كل رموز نظام مبارك وما ترتب عليه من زيادة الأعباء على المواطنين البسطاء، الذين اعتقدوا أن الثورة ستعمل على سقوط الأموال من السماء وتحسن الأوضاع المعيشية في ضوء تصريحات مشوهة من هنا وهناك وغير مؤكدة رفعت سقف طموحات المصريين، وهو ما برز فى تصريحات محمد حسنين هيكل الكاتب الكبير فى الأيام الأخيرة التى سبقت رحيل مبارك بتأكيده على أن ثروة مبارك فى الخارج تصل إلى 70 مليار دولار، وهى التصريحات التي ثبت عدم صحتها بعد ذلك، ولكن إطلاقها وقت فوران الشباب خلال الـ 18 يوما لثورة 25 يناير أدت إلى جنوح سفينة مبارك ورموزه وعجلت برحيله، وما ترتب على تسليم البلاد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى تسرع بدوره فى ترك الحكم وابرام صفقات وتفاهمات مع جماعة الاخوان باعتبارها القوى الأكثر تأثيرا على الشارع، لتظهر خلافات كثيرة بين الحركات والأحزاب التى شاركت بالثورة، ويخطف الاخوان ثمار الثورة وينفردون بالحكم ويقومون بإقصاء الجميع حتى من كان معهم إبان الحرب التى شنها نظام مبارك عليهم، لتدخل البلاد فى نفق الفوضى والتخوين وتستمر معاناة المواطنين البسطاء.
وهذا يذكرنا بالثورة الفرنسية، حينما انشغل الثوار بتصفية الحسابات مع بعضهم البعض،  ومحاولة البعض خطف الأضواء وجنى الثمار مما جعل  الثورة تأكل أبناءها، بعد أن قام الثوار  بإعدام بعضهم البعض، ولنتذكر على سبيل المثال أهم الشخصيات المؤثّرة فى مسار الثورة الفرنسية، "روبسبيير" الذي تم انتخابه نائبًا لرئيس مجلس الطبقات فى 1789، إلا أنه كان عنيفًا مع خصومه إلى حدّ قتل ستة آلاف شخص فى ستة أسابيع فقط كونهم معارضين للثورة، وهو ما دفع بعض المواطنين إلى التآمر عليه للخلاص منه، مثلما تم الخلاص من الآخرين.
ونتيجة لشعور المواطن بأنه لم يجن من ثورة يناير سوى حكم الإخوان، ثار من جديد ضد الاستبداد السياسي وسط نخبة سياسية غير ناضجة لم تلبِ مطالبه، وعدم نضوج كثير من الحركات الشبابية التي شاركت في 25 يناير، لتزيد الأوضاع سواء، حتى جاءت 30 يونيه للحفاظ على الدولة المصرية خشية تكرار الصراع السوري والليبي.
وبالرغم من محاولات تصحيح مسار الثورة، إلا أن هناك من انشغل بتصفية الخلافات مع ثوار يناير والابتعاد بيونيه بعيدًا عن مسارها المطلوب، وإهدار كل جهود التنمية وتلبية احتياجات المواطن الذى أصبح بين مطرقة الثوار وسندان الأوضاع المعيشية الصعبة، ليعود السؤال من جديد: هل أنجزت ثورة يناير أهدافها؟!
وفى الملف التونسي هناك مسارات مختلفة ولكن النتيجة واحدة، بالرغم من قيام حركة النهضة بتقديم خطاب يسع كل الأحزاب والحركات التونسية، إلا أن الممارسة العملية عملت على الاهتمام بالتجاذبات السياسية بين النهضة وخصومها على حساب احتياجات المواطن البسيط، وسط انتشار معدلات البطالة وتراجع الاستثمارات الجانبية نتيجة غياب الاستقرار، وبالرغم من إنجاز برلمان ودستور إلا أن التحديات الجسام فرضت على النهضة الخروج من السلطة بعد إقصاء الإخوان من مصر 2013، وهو ما عبر عنه الشيخ راشد الغنوشى بقوله" النهضة قدمت تنازلات موجعة لتفادي الزلزال المصري"، ووصل القائد باجي السبسي إلى سدة الحكم، ومع تراجع النهضة وإفساح المجال للآخرين، فشلت الحكومات المتعاقبة في تلبية مطالب التونسيين، وزاد من الأعباء تراجع السياحة بعد ضربات "باردو" و"سوسة"، إلى جانب التهديد المستمر من تنظيم داعش القابع على الحدود في ظل تغلغل التنظيم الإرهابي في ليبيا وتهديد الأراضي التونسية بشكل دائم، وسقوط عشرات الضحايا على يد التنظيم.

ويعود التونسيون للسؤال من جديد: ماذا جنوا من ثورتهم في ذكراها الخامسة، مع اندلاع احتجاجات في القصرين على خلفية اجتماعية وشعور عدد من الولايات الجنوبية بالتهميش، واستغلال لعدد من الخارجين عن القانون للمشهد ومحاولة تخريب الممتلكات والسطو على الممتلكات الخاصة والعامة، مع تربص أطراف سياسية بحكومة الحبيب الصيد واستغلال الأداء البطيء لحكومته، مع الوضع في الاعتبار أن ما تمر به تونس حاليا لا يعني أن النهضة اختفت تمامًا من المشهد السياسي، وإنما تظل فرصها باقيةً في العودة، خاصةً أن كتلتها البرلمانية تتصدر البرلمان التونسي بعد تراجع نداء تونس، نتيجة الانشقاقات الداخلية
أعتقد كما قلت في المقدمة ان ما شهدته مصر وتونس حتى الآن لا يعد ثورة بمفاهيمها الكلاسيكية، وربما قد نعتبر ما حدث مجرد الموجة الأولى من الثورة، وكما يقول عالم الاجتماع هربرت بلومر بأن "الثورة تبتغي إعادة بناء وتنظيم النظام الاجتماعي كله تنظيما وبناء جديدا"، فحتى الآن لم نصل إلى هذه المرحلة، ولم نشعر أننا في مرحلة عقد اجتماعي جديد، وربما قد ننتظر 5 – 10 سنوات آخري كى نشعر بقيمة ثورة يناير في مصر وثورة الياسمين في تونس، فكما يعتقد عدد من أبرز علماء الاجتماع داوسون وهيوز، بأن القائد في الثورة في مراحلها الأولى من النوع المحرض وفي المرحلة التي تكتسب فيها الثورة شرعيتها يكون القائد من نوع رجل دولة، وفي المرحلة اللاحقة التي تتبلور فيها الثورة يكون القائد من النوع الإداري، وهو ما يظهر في الحالتين المصرية والتونسية بوضوح، حيث اعتلت حركات احتجاجية وثورية الموجة الثورية الأولى في 2011، وفى 2014 ظهرت الموجة الثانية من خلال تولى السيسي في مصر والسبسي في تونس مقاليد الحكم، والاثنان يصنفان بأنهم رجال دولة، لذا إذا صحت هذه النظرية ، فنحن علينا انتظار الموجة الثالثة لتولى رجل إداري يعمل على تلبية مطالب المواطنين وترجمة ما حدث من احتجاجات فئوية واجتماعية إلى واقع أفضل، مع عقد اجتماعي جديد يشارك من خلاله كل المواطنين في بناء دولتهم الحديثة التي تقوم على أساس حكم القانون والمساواة وتكافؤ الفرص.

شارك