قراءة أولية في الأزمة التركية

السبت 16/يوليو/2016 - 04:51 م
طباعة
 
ما حدث في تركيا مؤخرًا بداية لتغيرات كبيرة ليس في الدولة التركية فقط، وإنما تمتد آثاره إقليميًّا ودوليًّا، وانعكاس المشهد على حلف الناتو حاضر في الصورة، والجيش التركي العظيم لم يعد كذلك، والسلطان العثماني في حيرة من أمره بعد أن اكتشف اكتفاء أصدقائه بمشاهدة ما يحدث، وهو ما كان يتوقع منهم ذلك.
الساعات الأولى للانقلاب العسكري في تركيا أكدت أن المخابرات وجهاز الشرطة هما سلاحا أردوغان في الأزمة، ونظرًا لعدم وضوح أسباب الانقلاب ومن يقف وراءه، فكان التعامل الذكي من الاستخبارات التركية ببث بيانات من شأنها إرباك دعاة الانقلاب، ومع وجود الجيش بالشوارع دون خطة معروفة أو سيناريوهات بديلة، إلى جانب خطة الإنقاذ التي لجأ إليها أردوغان بدعوة مناصريه للاحتشاد بالشوارع، فما كان من الوحدات العسكرية إلا التراجع أو تسليم نفسها للشرطة، وهو ما التقطته الكاميرات التابعة للحزب الحاكم، ليبدأ تراجع الانقلاب وإعلان فشله.
  حتى الآن وحسب ما يتوفر من معلومات، الاستخبارات التركية تتهم كلًّا من قائدي القوات الجوية والبرية بالوقوف وراء عملية الانقلاب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومحاولة الاستيلاء على السلطة، وأن محرم كوسا المستشار القانوني لرئيس الأركان هو من خطط لذلك، وأسهم في إرسال بيانات ومعلومات من شأنها إرباك خطط الداعمين للانقلاب، لتبدأ الحكومة التركية في بسط نفوذها على الموقف خطوة خطوة، حتى نزول ملايين الأتراك للشوارع وأبرزهم أتباع حزب العدالة والتنمية الحاكم للدفاع عن الحكومة المنتخبة، ليصبح عناصر الجيش المنفذين لتعليمات الانقلاب في مأزق والمواجهة مع الشعب، فالأوامر انصبت على النزول للشارع وليس إطلاق النار على المواطنين.
ورغم تأجيل الحكومة التركية لاجتماعها الطارئ اليوم والسيطرة على الموقف والتواصل مع العالم الخارجي وطمأنة الغرب باستقرار الوضع، إلا أن أصابع الاتهام تم توجيهها للمدعي العسكري العام بدعم من 46 ضابطًا تركيًّا رفيعي المستوي وتم تحديد 104 مشاركين في العملية، وتم التوسع في عملية اعتقال الكثير من العسكريين ليصل العدد إلى أكثر من 2000 فرد، والساعات القادمة ستشهد اعتقال الكثير منهم، خاصة وأن هذه اللحظة من أهم اللحظات التي كان ينتظرها أردوغان للتخلص من خصومه.
الملاحظ في ما حدث مساء الـ15 من يوليو، أن تركيا لن تعود كما كانت قبل هذا التاريخ، وأن الشعب التركي أثبت نضجه في التعامل مع الموقف وانحاز للشرعية، خاصة وأن أي تحرك عسكري بدون دعم الشارع لن يحقق أهدافه، وهو ما كان محل ترقب الأوساط الغربية، حتى أقرب حلفاء أردوغان مثل واشنطن انتظرت عدة ساعات قبل أن تعلن انحيازها للشرعية والحكومة المنتخبة، فقبل الحشد الجماهيري اكتفت واشنطن وموسكو ولندن بدعوة كل أطراف الأزمة بتجنب العنف ومنع إراقة الدماء دون الانحياز لطرف دون آخر.
كما انحازت الأحزاب السياسية لمسار الشرعية حتى وإن اختلفت مع سياسات أردوغان الاستبداية، وهذا يرجع إلى عدم وضوح الرؤية في الانقلاب والداعمين له، وهو ما يثير علامات استفهام بشأن كيفية اقدام مجموعة من الجيش التركي بهذه الخطوة دون إعداد مسبق بالتداعيات أو عمل حساب ولاء الأجهزة الأخرى، وكان من ذكاء حزب الشعوب الديمقراطية المحسوب على الأكراد تأييده للحكومة المنتخبة وعدم دعمه للانقلاب في ظل ضبابية الموقف.
ولكن السؤال الآن.. ماذا بعد؟
أعتقد أن الأيام المقبلة ستشهد مزيدًا من التطورات، سواء على صعيد الشأن الداخلي التركي وتعامل أردوغان مع خصومه، والنزعة الانتقامية التي سيتعامل معها تحدد انتهاء الأزمة ومدتها، كذلك تداعيات الأزمة على حلف الناتو في ضوء الأزمة التي وقع فيها الجيش التركي نتيجة الانشقاق والانقسام في التعامل مع الموقف، إلى جانب الروح الانهزامية التي سادت في عناصر الجيش بعد الهجوم الوحشي من أنصار أردوغان في التعامل مع انقلاب الجيش وعدم التفرقة بين قيادات الانقلاب والجنود المنفذين للتعليمات، ليصبح الجيش التركي في موقف ضعيف ومهلل، بعد القبض على الكثير منهم واعتقالهم ومعاملتهم بشكل أسوا من أسرى الحرب، والاعتداء عليهم وإجبارهم على تسليم أسلحتهم وخلع ملابسهم وعرض صور لهم بشكل مهين لن تمحى من الذاكرة بسهولة.
الآن الفرصة سنحت لأردوغان لتشكيل الجيش من جديد ولكن على حساب السمعة والقوة التي كان يتمتع بها، وما سيترتب على ذلك من نفوذ قوة الجيش التركي في حلف الناتو، باعتباره القوة البشرية الأكبر للحلف، ووهو ما يساعد على إضعاف الحلف في الفترة القادمة على خلفية الانقلاب التركي وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
كل الشواهد تؤكد أن الانقلاب فشل، ولكن أردوغان لم يستعد نفوذه بعد، وهناك مخططات لم يتم إبطالها، وهو ما كشفتها دعوات أردوغان ورئيس الحكومة بن علي يلديريم بعدم ترك الشوارع والميادين لاحتمالية تجدد الخطوات الانقلابية، خاصة وأن هناك أسلحة لا تزال في يد عناصر تابعة للانقلابيين سواء طائرات حربية أو فرقاطة بحرية أو مدرعات برية، وهو ما قد يمهد لحرب أهلية وشلالات من الدماء وهو ما لا نتمناه.
  

شارك