دويتشه فيله: الغنوشي- "ذئب في ثوب حَمل"؟

الإثنين 27/أكتوبر/2014 - 04:19 م
طباعة دويتشه فيله: الغنوشي-
 
تصريحات راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة الإسلامي بأن "النموذج التونسي بديل عن داعش" أثارت تساؤلات المحللين حول اعتماد الغنوشي نهج لعبة مسك العصا من الوسط، لكن هل يجعله ذلك زعيما إسلاميا براجماتيا أم هو" ذئب في جلباب حَمل"؟
قبل يومين فقط من موعد انتخابي حاسم يختار فيه التونسيون أعضاء أول برلمان في ظل الدستور الجديد، قال راشد الغنوشي رئيس حزب حركة النهضة الإسلامي التونسي: إن "نجاح" تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس هي البديل لصعود الجماعات الإسلامية المتطرفة وإن "النموذج التونسي هو البديل عن نموذج داعش" (الدولة الإسلامية في العراق والشام).
وأوضح الغنوشي بأنه يقصد بتصريحاته التأكيد على أهمية دعم المجتمع الدولي لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، كبديل عن السيناريو الخطير الذي تؤول إليه عدة دول في المنطقة من العراق إلى سوريا واليمن وصولا إلى ليبيا، رسالة يعي فيها الغنوشي أن المجتمع الدولي وخصوصا الغرب يريد سماعها، وهو مؤشر على مدى قدرة زعيم الحزب الإسلامي الذي يوصف بالمعتدل، على التقاط الإشارات في السياقين الإقليمي والدولي، وخصوصا الغرب الذي عاش فيه العقدين الماضيين كلاجئ.
بيد أن رسالة الغنوشي تنطوي على وجه آخر للداخل الذي يعيش أجواء انتخابية محمومة، وفيها يضع قسم كبير من المرشحين والساسة التونسيين ناخبيهم أمام خيارين "أنا أو الطوفان"، فالغنوشي يقدم حزبه كحزب إسلامي معتدل وواقعي، ويريد إقناع التونسيين بأن البديل عنه هو التيارات السلفية المتشددة التي تقاتل في الجبال قوى الجيش والأمن التونسيين وتستهدف أحيانا مراكز المدن السياحية أو الإدارية.
يعتمد الغنوشي خطابا ونهجا سياسيا يجعل خصومه في حيرة من أمرهم، بين من يعتبره زعيما إسلاميا براجماتيا وبين من يرى فيه "ذئبا في ثوب حَمل"، وهو وصف يميل إليه، الكاتب المصري الألماني المتخصص في نقد الحركات الإسلامية، حامد عبد الصمد في حوار مع دويتشه فيله.

المهدي المنتظر لإنقاذ المنطقة من التطرف؟

في شهر أبريل 2012، عندما كان حزب النهضة في نشوة توليه السلطة وفوزه فوزا بيِنا بأول انتخابات بعد الثورة، خاطب الغنوشي مجموعة من قادة الجماعات السلفية التونسية بقوله: "إن مؤسستي الجيش والأمن غير مضمونتين" ومضى يقول لهم إنكم "تذكرونني بأيام الشباب". هذه التصريحات التي بثت مقتطفات منها في فيديو على يوتيوب، أشعلت غضب النخب السياسية التونسية المتشبعة بالعلمانية ورأت فيها اعترافا من الغنوشي بسعيه للسيطرة على مؤسسات الدولة و"أسلمتها"، وبكونها تكشف وجها "خفيا" للغنوشي مخالفا للوجه المعتدل الذي يسعى دائما للظهور به.
وقد سعى الغنوشي إلى استبعاد تهمة تحالفه مع السلفيين، ولكن حزب النهضة الذي استفاد من أصوات السلفيين في انتخابات 23 أكتوبر 2011، منَح من خلال دوره القيادي لحكومة الترويكا التي تضم أيضا حزبين علمانيين، هما حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" الذي أسسه الرئيس الحالي منصف المرزوقي، وحزب "التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" الذي يتزعمه رئيس المجلس التأسيسي المنتهية ولايته، دعما لأدوار السلفيين في المساجد والحياة العامة، حتى أصبحوا يقومون بدور رأس الحربة في مواجهة نزعات الحرية والليبرالية الفكرية والفنية التي انفجرت بعد الثورة.
ويستدل منتقدو الغنوشي على لعبة الازدواجية في مسك العصا من الوسط بين التيارات المتشددة والمعتدلة بين الإسلاميين- بالدور الذي يلعبه داخل حزب النهضة نفسه، فخلال مؤتمراته ومحطاته الحاسمة وعندما يواجه الحزب صراعا حادا بين أجنحته ويكون أحيانا فيه على حافة التصدع، يظهر الغنوشي كموحد ومنقذ.
وعندما يتعلق الأمر بمرجعية حزب النهضة وعلاقته بجماعة الإخوان المسلمين، يسعى الغنوشي باستمرار للتأكيد على خصوصية "النهضة كحركة تونسية" وبأنها أقرب إلى حزب العدالة والتنمية التركي، لكن تحالفات الحزب على المستوى الإقليمي، وخصوصا في علاقته بقطر، لا تخرج عن خطوط استراتيجية جماعة الإخوان المسلمين العامة.
ويعتقد حامد عبد الصمد بأن الغنوشي "لا يختلف في توجهاته الأصولية عن جماعة الإخوان المسلمين"، لكن الخبير الألماني في الحركات الإسلامية روتز روغلر يميز بين مستويين؛ أولهما "أن معظم الأحزاب الإسلامية في المنطقة (السنية) تنهل من مرجعية جماعة الإخوان المسلمين"، وثانيهما أن "حزب النهضة يختلف بشكل واضح مع حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسية لجماعة الإخوان) في مصر، من خلال قدرة النهضة على بناء توافق وطني وعلى استقطاب الفئات المهمشة، وهو ما لم ينجح فيه إخوان مصر" بحسب تعبير الخبير الألماني الذي أمضى سنوات طويلة من عمره في رصد تطور الحركات الإسلامية في شمال إفريقيا.
وفي حوار أجرته معه دويتشه فيله في ديسمبر 2012، تفادى الغنوشي توجيه نقد مباشر لتجربة حكم الرئيس الإسلامي محمد مرسي، واكتفى في رده على سؤال حول رأيه في الأزمة التي تواجه حكم الإخوان، بأن "المخرج هو البحث عن توافق وطني مع القوى الأخرى"، مشيرا بذلك إلى تجربة حزب النهضة الائتلافية مع حزبين علمانيين. لكن الغنوشي كان في مقدمة منتقدي إزاحة قائد الجيش المصري اللواء عبد الفتاح السيسي، للرئيس السابق المعزول مرسي.

براجماتي أم يمارس لعبة الازدواجية؟

يعتقد محللون أن الغنوشي هو أقرب إلى دور لاعب سياسي مزدوج النهج منه إلى زعيم براجماتي؛ لأن جُلَ التنازلات التي قدمها خلال فترة حكم حزبه كانت نتيجة ضغط محلي أو خارجي. فقد اصطدم حزب النهضة بامتحان كبير بعد أقل من عام من حكمه، عندما شهدت تونس أحداثا أمنية خطيرة، بدأت باعتداء على السفارة الأمريكية وأخفقت قوات الأمن في صد عمليات حرق واعتداءات على السفارة قامت بها جماعات سلفية متشددة احتجاجا منها على فيلم أمريكي مسيء للإسلام.
ووجهت الاتهامات بالمسئولية عن التقصير إلى وزارة الداخلية التي كان يتولاها آنذاك علي العريض القيادي في النهضة، أما الحادث الثاني والذي كان في السياق المحلي التونسي أكثر خطورة فهو اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد المعروف بمواقفه المناوئة للإسلاميين، وفي أقل من ثلاثة أشهر اغتيل زعيم عروبي يساري آخر هو محمد البراهمي.
وبدهاء شديد قاد الغنوشي حزبه في مرحلة صعبة للغاية متجاوزا العاصفة، عبر استقالة أمين العام الحزب حمادي الجبالي من رئاسة الحكومة والدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية، لكن الدعوة رفضت من قبل أحزاب المعارضة، ثم تولى علي العريض رئاسة الحكومة التي ستتبنى نهجا صارما في مواجهة السلفيين الجهاديين، ودشنت حملة أمنية ضدهم واتهم القضاء جماعة "أنصار الشريعة" بالوقوف وراء اعتداءات إرهابية واغتيال بلعيد والبراهمي. لكن ذلك لم يكن كافيا بالنسبة للمعارضة اليسارية ممثلة في "الجبهة الشعبية"، والليبرالية ممثلة في حزب نداء تونس.

دهاء سياسي يمكنه من قراءة التجاذبات السياسية

وتحت وطأة ضغوط الشارع وهيئات المجتمع المدني ومركزية الاتحاد العام التونسي للشغل، ذات النفوذ الواسع، اضطر حزب النهضة إلى مسلسل تنازلات، عندما قبِل بالجلوس على طاولة "الحوار الوطني" بعد أن كان يرفضه بدعوى أنه يضعف "المؤسسات الشرعية المنتخبة".
كما تنازل في مسائل العلاقة بين الدين والدولة في نص الدستور الجديد، مثل التراجع عن الإسلام كمصدر للتشريع وإقرار المساواة الصريحة بين المرأة والرجل، وقبول قاعدة "حرية الضمير والمعتقد" وهو بند غير مسبوق في دستور بلد عربي. ثم تراجع الحزب عن مشروع قانون تحصين الثورة ( قانون العزل السياسي) المثير للجدل، وصولا إلى تخلي الحزب عن الحكم وإفساح المجال لحكومة كفاءات مستقلين، في خطوة ندر أن يقدم عليها حزب أغلبية في السلطة.
واستطاع الغنوشي إقناع أجنحة حزبه الرافضة لتلك التنازلات، بحجة "تجنيب تونس مخاطر السيناريو المصري" وتشتيت صفوف خصومه الليبراليين واليساريين، بالإضافة إلى قوى أخرى على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل وجماعات ضغط وما يوصف بـ"الدولة العميقة".

وفي آخر مبادرة له طرح الغنوشي فكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات، معترفا بأن حزبا بمفرده مهما كان مركزه في الانتخابات لن يستطيع تسيير شئون البلاد؛ بسبب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المعقدة التي تعيشها نتيجة تصاعد المطالب الاجتماعية بعد الثورة والتركة الثقيلة التي تركها نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
ويجد الغنوشي صعوبة كبيرة في إقناع بعض حلفائه إبان الثورة منهم حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحركة وفاء وجماعات أخرى، الذين يخشون من سعي الغنوشي إلى إبرام صفقة مع منافسه الرئيسي في الانتخابات وخصمه الليبرالي "نداء تونس" الذي يتزعمه السياسي المخضرم باجي قايد السبسي. ويرون بأن صفقة بين "النهضة" وحزب "نداء تونس" الذي يشكل مزيجا من شخصيات من النظام السابق وأخرى يسارية وليبرالية ونقابية، ستكون على حساب أهداف أساسية للثورة، منها ملف العدالة الانتقالية ومحاسبة المسئولين عن الفساد في عهد النظام السابق.
ورغم أن الغنوشي لا يذكر بأنه لا يرغب في السلطة ولم يترشح لأي منصب رسمي وحتى بالنسبة لدوره في حركته فهو يحبذ التفرغ لدور فكري وتأليف الكتب. يتوقع محللون بأن يستمر الغنوشي، بعد الانتخابات كواحد من أهم صانعي السياسة في تونس، اعتمادا على قدرته في قراءة التجاذبات السياسية والتعامل بدهاء مع المراحل الصعبة.

شارك