مركز الإمارات للسياسات يرصد أطماع ومخاطر تمدد أردوغان

الأربعاء 18/نوفمبر/2020 - 06:30 م
طباعة مركز الإمارات للسياسات روبير الفارس
 
في ظل اعتزام  تركيا أردوغان مواصلة تمدُّدها في المنطقة، والذي بات جزءاً من عقيدتها السياسية والاستراتيجية لترسي هوس النفوذ الإقليمي، في ظل رئاسة  أردوغان. ويعد اعتماد تركيا على القوة العسكرية لتأمين مصالحها حجر الزاوية لعقيدة سياستها الخارجية الجديدة التي تُشكِّك في جدوى العمل المشترك مع القوى الإقليمية والدولية التقليدية، وتدفع تركيا نحو التحرك بشكل أُحادي حين يقتضي الأمر. أكد مركز الإمارات للسياسات في تقرير له أن  استراتيجية التمدد التركية لم تنجح بعد في نيل الكثير من المكاسب الجيوسياسية الجوهرية. وفشلت في تحقيق عوائد اقتصادية ملموسة، إذ لم تضمن بعد وضع يدها على موارد حيوية يمكن استثمارها سريعاً في مناطق التدخل. وفي حال استمر عَجْز أنقرة عن تحصيل مزايا راهنة لتدخلاتها، فإن ذلك سيجعلها عاجزة عن تمويل عشرات الآلاف من المرتزقة المارقين، ما قد يُهدد بخروج هؤلاء عن السيطرة وتحوُّلهم إلى مجموعات قتالية تحت الطلب.
لا تتوازى ركائز تحقيق مشروع التمدد التركي في المنطقة مع مساحة طموح القيادة التركية، وهو ما يعني أن تركيا قد تضطر لاحقاً لإعادة النظر في حدود طموحها الإقليمي باتجاه تقليصه لتتوازى المكاسب المحتملة مع المخاطر المؤكدة، ما يطرح احتمالاً بحصول تحولات تركية داخلية موازية، من قبيل: فضّ تحالف حزب "العدالة والتنمية" الحاكم ذي الخلفية الإسلامية، مع حزب "الحركة القومية" بقيادة دولت بهتشلي؛ وغياب أردوغان عن مسرح السياسة التركية؛ إما بخسارة حزب "العدالة والتنمية" في الانتخابات المقبلة؛ أو نتيجة حدوث متغيرات عرضية أو مرضية مُفاجِئة تحُول بين أردوغان وممارسة دوره القيادي في السياسة التركية، وتُعرِّض تركيا لأزمة قيادة عميقة تشغلها عن مواصلة تدخلاتها الإقليمية وفق الوتيرة الحالية
وقال التقرير أن استراتيجية التمدد التركي في المنطقة ما زالت تمثل إحدى ركائز سياسة حكومة أردوغان في تعاطيها مع الشأن الإقليمي ولا تظهر مؤشرات أن تركيا قد تتراجع عنها في المدى القريب، إلا أن هذه الاستراتيجية تواجه بشكل متزايد العديد من التحديات والقيود التي تؤثر في قدرتها على تحقيق المكاسب المرجوة خلال المدى المنظور، ومن أهمها:

1. أفول "النموذج التركي" بوصفه مصدر جَذْبٍ في المنطقة

في أعقاب ما يسمى ثورات الربيع العربي، بدا "النموذج التركي" في ذروة صعوده؛ فدولة تركية قوية وديمقراطية ومُزدهرة في الداخل كانت قادرة على كسب المزيد من النفوذ في الخارج، لكن الوضع في الشرق الأوسط بعد مرور عشر سنوات يبدو مختلفاً الآن، وأهلية تركيا الديمقراطية تبدو مختلفة أيضاً. فعقب فوز انتخابي كبير في العام 2018، سارعَ الرئيس أردوغان إلى تحويل نظام برلماني عمره يناهز القرن إلى نظام رئاسي مركزي للغاية. وأدّت الانتخابات البلدية التي جرت على صعيد البلاد بأسرها في ربيع 2019، والتي تحولت إلى استفتاء لحكم أردوغان، إلى تعرُّض حزب الرئيس لهزائم بارزة، من بينها الهزائم في أنقرة وإسطنبول.

واليوم تحتل تركيا في مؤشر الديمقراطية المرتبة 110 من بين 167 دولة، بينما تحتل في معدل الاستقرار السياسي طبقاً لمقياس كوفمان (الذي يعطي +2.5 للدول الأعلى استقراراً، و-2.5 للأدنى استقراراً) ما قيمته -1.34، وبهذا فهي تحتل المرتبة 175 من بين 195 دولة في هذا المؤشر، ما يعكس قوة انخراطها في الأزمات الحدودية مع سوريا ودموية صراعها مع الأكراد، لاسيما أكراد تركيا الذين يصل عددهم حوالي 15 مليون نسمة. أما في مؤشر عدالة توزيع الدخل فتحتل تركيا مكانة تقع بين المقبول والضعيف بمعدل 41.9، وكل ذلك يعني أن تمدُّدها الإقليمي الراهن لا يتكئ على بنية داخلية موازية لحجم هذا التمدد.

2. تردّي الأوضاع الاقتصادية

يتَّفق العديد من مُحللي الاقتصاد والخبراء العسكريين والأمنيين على أن ورقة الاقتصاد ستكون السبب الرئيس في تراجع حُلم/مشروع الرئيس التركي وانكماشه في غياب القدرة على تمويل هذا المشروع الطموح، والإنفاق على الحجم الكبير المطلوب من التسليح، وتقديم الرعاية لأتباع هذا المشروع ومناصريه، وذلك بالتوازي مع استمرار تدني الليرة التركية، والتي فقدت نحو ثلث قيمتها منذ العام 2018، فضلاً عن العجز المتنامي في الميزان التجاري، والذي وصل في أغسطس 2020 إلى 4.631 مليار دولار. وتركيا حالياً من الدول الـست الأكثر ديوناً في العالم، إذ وصل دينها الخارجي إلى نحو 431 مليار دولار في نهاية مارس 2020. والأهم أن حجم الدخل الوطني المقدر بنحو 800 مليار دولار أخذ يتَعرَّض للتراجع، بحيث أصبحت قيمته قرابة النصف حسب قيمة العملة التركية، وهو مسار خطر قد يُفضي إلى خروج تركيا من مجموعة الدول العشرين.  

3. بروز تحالفات إقليمية لـ"احتواء" التمدُّد التركي

أدى نهْج تركيا المتشدد وسياستها الخارجية المتقلبة إلى ظهور تعارضات وصدامات مع معظم اللاعبين الإقليميين الأساسيين، وخلق منافسة إقليمية جديدة في كلٍّ من شرق البحر المتوسط ​​ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأصبح هناك شبه اتفاق غير مكتوب بين دول الإقليم وبعض الدول الأوروبية الرئيسة على الوقوف صفاً واحداً ضد أطماع الرئيس أردوغان وسياساته الجامحة.

فقد كثَّفت مصر واليونان وقبرص وإسرائيل التعاون الاستراتيجي في العديد من المبادرات، لاسيما استخراج احتياطيات الغاز في شرق البحر المتوسط والإعلان عن منتدى غاز شرق المتوسط، وتم تهميش أنقرة وتجاهلها تماماً في هذه العملية. ومن جانبها، قدمت فرنسا الدعم لمبادرة شرق البحر المتوسط ​​للطاقة، كما أن دولة الإمارات قدمت دعماً ضمنيَّاً لهذا المسعى. ورأى رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي، يوسي كوهين، أثناء اجتماعه مع نظرائه في مصر والسعودية والإمارات، أن القوة الإيرانية تعد هشة، معتبراً أن التهديد الحقيقي يأتي من تركيا (صحيفة "التايمز" البريطانية، 18 أغسطس 2020).

واكد التقرير أن الولايات المتحدة عززت مؤخراً قواعدها العسكرية في اليونان، ودعت مراراً تركيا إلى ضبط النفس بشأن نزاعاتها البحرية مع اليونان، مُلوحةً بالتدخل في التوترات في شرق البحر المتوسط، على نحو لا يُرضي السياسة التركية هناك. وبعد اندلاع الصراع في إقليم ناغورني قره باغ بين أذربيجان (المدعومة تركياً) وأرمينيا، شهدت تركيا تقارباً سريعاً بين الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا هدفه كبح الدعم التركي القوي لأذربيجان، بما في ذلك تعهُّدات المساعدة العسكرية.
ورصد التقرير 
النتائج والآفاق المحتملة كما يلي 

بتحليل الوضع الظاهر الراهن للتمدُّد التركي في المنطقة، يمكن ملاحظة الآتي:

أن تركيا، ومنذ بداية تدخلها واحتلالها العسكري المباشر للأراضي السورية في إطار عملية "درع الفرات" 2016 وحتى العام الحالي، أي بعد 4 سنوات تقريباً، لم تُحقّق الكثير في هذا المجال، فضلاً عن اضطرار تركيا إلى الإنفاق على "المناطق الآمنة" التي فرضتها بقوة السلاح، وتوفير تمويلات ضخمة لإدارة أزمة اللاجئين، وهي الورقة التي تريد الإمساك بها لتوظيفها في التفاوض والحصول على وضع مريح في سوريا. وفي ليبيا، تجري المتغيرات في اتجاه آخر بعيدٍ عن قبضة تركيا، رغم الاتفاقيات مع حكومة فايز السراج، وخاصة فيما تعلق بالقواعد العسكرية واستفادة أنقرة من اتفاقيات تدريب القوات الأمنية التابعة لحكومة الوفاق، واتفاقيات أخرى في مجالات الكهرباء والبنية التحتية ومع البنك المركزي (تقدر قيمتها بنحو 18 مليار دولار). ويُمثِّل وقف التقدم التركي على خط سرت-الجفرة والمفاوضات الليبية المستجدة تراجعاً للدور التركي الهجومي في هذا الجزء المهم من المنطقة. وفي شرق المتوسط، قبالة اليونان وقبرص، أخذت أنقرة تناور وتتراجع تحت ضغوط التغيُّر في الموقف الأمريكي والتلويح الأوروبي الصريح بفرض عقوبات على تركيا.
أن التركيز التدريجي للسلطة في يد الرئيس أردوغان لم يُقلِّل من أولوية الدبلوماسية فحسب، وإنما قاد البلاد إلى خوض صراعات واشتباكات عديدة، وبمستويات مُتباينة الشدة، مع جيرانها وشركائها الدوليين الرئيسيين، ويبقى تمدُّدها الزائد في المنطقة مصدر قلق وتحدٍّ لِصُنَّاع القرار الإقليميين الحريصين على ترسيخ الاستقرار فيها، باعتبار أن الاستراتيجية التركية الهجومية ترتب عليها مخاطر وتداعيات سلبية عدة، وفي أكثر من ساحة إقليمية.
أن التمدُّد التركي الزائد في المنطقة، وبفعل ما خلقه من عداوات وصدامات مع معظم دول الجوار، وإفراطه في الاعتماد على القوة العسكرية لإدارة النفوذ الإقليمي، سيكون له على المدى المنظور تداعيات سلبية وربما كبيرة على الأمن القومي التركي، في حال لم تحصل مراجعة سريعة لتلك السياسات، إذ لم تنجح استراتيجية التمدد التركية حتى الآن في نيل الكثير من المكاسب الجيوسياسية الجوهرية. كما فشلت في تحقيق عوائد اقتصادية ملموسة، إذ لم تضمن بعد وضع يدها على موارد حيوية يمكن استثمارها سريعاً في مناطق التدخل. وفي حال استمر عَجْز أنقرة عن تحصيل مزايا راهنة لتدخلاتها، فإن ذلك سيجعلها عاجزة عن تمويل عشرات الآلاف من المرتزقة السائبين، ما قد يُهدد بخروج هؤلاء عن السيطرة وتحوُّلهم إلى مجموعات قتالية تحت الطلب، وربما تكون تركيا في زمنٍ لاحقٍ أحد أهدافهم الانتقامية.
مع أن بعض المحللين يُجادلون بأن التمدد التركي الزائد في المنطقة يعكس طموحاً استراتيجياً مشروعاً (من ناحية المنظور البراغماتي)، إلا أن ركائز تحقيق هذا المشروع لا تتوازى مع مساحة الطموح التركي، وهو ما يعني أن تركيا ستضطر لاحقاً لإعادة النظر في حدود طموحها الإقليمي باتجاه تقليصه لتتوازى المكاسب المحتملة مع المخاطر المؤكدة، الأمر الذي ينطوي على احتمال حصول تحولات تركية داخلية تُرافِق ذلك خلال المدين القصير والمتوسط، من قبيل:
فضّ تحالف حزب "العدالة والتنمية" الحاكم ذي الخلفية الإسلامية، مع حزب "الحركة القومية" بقيادة دولت بهتشلي.
غياب أردوغان عن مسرح السياسة التركية؛ إما بخسارة حزب "العدالة والتنمية" في الانتخابات المقررة عام 2023، أو في الانتخابات المبكرة كما تدعو حالياً المعارضة التركية.
إمكانية حدوث تطورات أو متغيرات عرضية أو مرضية مُفاجِئة تحُول بين أردوغان وممارسة دوره القيادي في السياسة التركية، وتُعرِّض تركيا لأزمة قيادة عميقة تشغلها عن مواصلة تدخلاتها الإقليمية وفق الوتيرة الحالية.
نظراً لكون الاستراتيجية الإقليمية التركية الحالية تندرج في إطار الاستراتيجية الهجومية، وتعتمد فيها بشكل مفرط على القوة العسكرية للدفاع عن مصالحها وتدخلاتها في دول المنطقة، فإن الخبراء يرجحون إمكانية تعرُّضها لخطر "الاستنزاف" طبقاً لنظرية المؤرخ البريطاني بول كينيدي حول "التمدُّد الزائد"، والتي عرضها في كتابه الشهير "نشوء وسقوط القوى العظمى" (الصادر في عام 1987)، على النحو الذي حصل سابقاً مع العديد من القوى الكبرى، ومن بينها الدولة العثمانية ذاتها، والتي يحاول أردوغان إعادة إحيائها مرة أخرى، إذ تحوَّلت في آخر أطوارها إلى "رجل أوروبا المريض" قبل سقوطها النهائي عام 1922

شارك