داعش وأزمة الهوية الجهادية: خطاب الحرب النفسية في مواجهة الفشل
الجمعة 02/مايو/2025 - 03:23 ص
طباعة

في افتتاحية العدد 493 من صحيفة النبأ، الصادرة مساء الخميس 1 مايو 2025، عن تنظيم "داعش"، يعيد التنظيم إنتاج خطابه الدعائي القديم، مستعينًا بمفردات الحرب النفسية لتأطير حالة التراجع التي يعاني منها. ينحو الخطاب نحو شيطنة مطلقة للعالم الخارجي، حيث يُصوَّر "العدو" على أنه كتلة متجانسة تشمل الجيوش، والحكومات، والعلماء، والعملاء، وحتى الأفراد المجهولين "الذين لا يعلمهم إلا الله"، كما يقول النص. هذا التوسيع المقصود لدائرة العدو لا يعكس فقط نزعة توطينية للبارانويا الجماعية داخل بنية التنظيم، بل يكشف عن محاولة مكرورة لصياغة العالم في ثنائية صارمة: "نحن" مقابل "الآخر الشرير"، بما يبرر الانغلاق ويُحصّن أفراده من أي مساءلة أو شك داخلي.
يُقدّم النص نفسه بوصفه دفاعًا عقديًا ونفسيًا في وجه ما يسميه "الحرب النفسية"، لكنه في جوهره يعبّر عن أزمة أعمق يعيشها التنظيم: أزمة اهتزاز الثقة في المشروع نفسه. يتحدث النص عن الثبات والصبر والعقيدة، لكنه يلمّح ضمنيًا إلى فقدانها أو ضعفها، فالمبالغة في الدعوة إلى "الثبات على الطريق" تكشف أن الطريق ذاته أصبح موضع تساؤل من قِبل بعض الأتباع. الإلحاح على التحذير من "الاختيارات البديلة"، كالنماذج الأخرى من الإسلاميين (طالبان، الجولاني)، يكشف أن هذه النماذج أصبحت أكثر جاذبية للأفراد الباحثين عن "شرعية جهادية" مقبولة سياسيًا، وهو ما يزعزع سردية داعش عن "المنهاج الصحيح".
أما من الناحية الإعلامية، فتشير هذه الافتتاحية إلى انحسار فعالية الدعاية الخارجية للتنظيم. فبدلًا من الخطاب الهجومي الذي كان يتفاخر بالإنجازات، يركّز النص على خطاب دفاعي يفتقر إلى الثقة، يدور حول "المؤامرة العالمية" و"الحرب النفسية"، وكأن التنظيم أصبح مطاردًا في الوعي أكثر مما هو موجود في الواقع. وهذا التحول من خطاب القوة إلى خطاب الضحية، ومن استعراض التمكين إلى التحصين ضد التفكك، يعكس إدراكًا داخليًا لدى صناع الدعاية أن مشروع "الخلافة" الذي كان ملهمًا في عيون مناصريه، لم يعد كذلك، بل أصبح عبئًا يتطلب خطابًا تعبويًا لمحاولة الحفاظ على ما تبقى من الولاء والتماسك.
خطاب مهووس بـ"المؤامرة الكونية"
يهيمن على افتتاحية العدد 493 من صحيفة النبأ خطاب تآمري مكثف، يعيد إنتاج سردية "المؤامرة الكونية" التي طالما استخدمها تنظيم "داعش" كركيزة تفسيرية لكل ما يواجهه من إخفاقات وتحديات. في هذا النص، تُصوَّر الحرب النفسية بوصفها جبهة شاملة تضم قائمة غير منتهية من الأعداء: من جيوش وحكومات إلى شيوخ ومراكز أبحاث ومخابرات، مرورًا بعلماء وعملاء، وحتى أطراف غامضة "لا يعلمهم إلا الله" على حد تعبيره. هذا التضخيم المقصود لحجم العدو لا يخدم التحليل الواقعي، بل يُستخدم لترسيخ الذهنية الحصارية التي يعيش فيها التنظيم، والتي تُغلق باب التفكير خارج ثنائية "نحن مقابل العالم"، وتحوّل أتباعه إلى كائنات مشحونة بالرعب والارتياب الدائم.
ما يكشفه هذا الخطاب، في جوهره، ليس قوة تنظيمية أو صلابة فكرية، بل هشاشة بنيوية يعاني منها التنظيم في بنيته الداخلية. فبدل الانخراط في مراجعة نقدية أو تفسير واقعي للتراجع الذي أصابه على مستوى الفكرة والممارسة، يواصل التنظيم الهروب إلى الأمام عبر تضخيم المؤامرة لتبرير فشله وشرعنة بقائه في موقع الضحية المحاصرة. هذا الهوس بالمؤامرة لا يهدف إلى تعبئة الأتباع فحسب، بل يمنعهم من التفكير الحر، ويعطل أي محاولة للفهم أو التقييم الموضوعي، خشية أن تؤدي إلى تفكيك السردية التي يقوم عليها المشروع الجهادي.
الخطير في هذا الخطاب التآمري أنه لا يكتفي بخلق أعداء خارجيين، بل يزرع الشك داخل صفوف التنظيم نفسه. فكل تساؤل أو تردد قد يُفسَّر باعتباره جزءًا من "الحرب النفسية"، وكل اختلاف يُصنّف تلقائيًا في خانة الخيانة أو العمالة. وبهذا، يصبح التنظيم كيانًا مغلقًا على ذاته، يرفض كل صوت داخلي لا يعزف على نغمة "الثبات والصبر"، ويقمع أية محاولة للمراجعة أو التغيير. هذا النوع من الانغلاق الأيديولوجي لا يحمي التنظيم، بل يُسرّع من تآكله الذاتي، لأنه يعجز عن التكيّف مع المتغيرات أو إصلاح أخطائه، في ظل سيطرة عقلية المؤامرة على مجمل تفكيره.
شيطنة العقل والشك، وتحريم النقد
تتبنّى افتتاحية النبأ في عددها 493 خطابًا صارمًا يحاصر ملكة التفكير النقدي ويجرّم السؤال والتأمل، من خلال تصنيف أي تساؤل أو محاولة للمراجعة باعتبارها "شبهة" خطيرة. وتُقدَّم هذه "الشبهات" بوصفها البوابة الكبرى للحرب النفسية التي يخوضها العدو، وبالتالي فإن مجرد طرح الأسئلة أو البحث في البدائل يُعد خيانة داخلية للصف، وانهزامًا نفسيًا أمام الخصم. هذا النوع من الخطاب لا يُعادي النقد الخارجي فحسب، بل يصادر الحق في التفكير الفردي، ويحاصر العقل داخل دائرة مغلقة من الولاء المطلق والانقياد الأعمى.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد إلى تحميل الانفتاح على الآخر – أيًّا كانت صورته – تهمة "الفتنة"، وهو مصطلح ديني تقليدي شديد الحساسية، يُستخدم هنا لترويع الأفراد من أي تفاعل معرفي أو وجداني مع غيرهم. فكل تعاطف، وكل محاولة لفهم وجهة نظر مختلفة، أو حتى الاستماع لها، يُصنَّف مباشرة ضمن أدوات العدو لاختراق الصف، وهو ما يكرّس عزلة شعورية وفكرية عميقة، ويحوّل العضو في التنظيم إلى كيان منغلق مشحون بالخوف من الآخر ومن ذاته.
النتيجة الحتمية لهذا البناء الخطابي هي خلق بيئة خانقة يُجرَّم فيها التفكير، ويُحوَّل فيها الدين إلى أداة للرقابة النفسية، يُستخدم فيها الإيمان كدرع لا للتثبيت على القيم، بل لمنع مراجعتها. ويُقدَّم الشك – بوصفه وظيفة معرفية صحية – كخطر وجودي يجب القضاء عليه، لا بوصفه مقدمة للفهم أو وسيلة للتعمق في الإيمان. وبهذا، يُحَصَّن التنظيم ضد أي نقاش داخلي محتمل لا بإقناع الأعضاء، بل بترهيبهم، مما يجعل أي بادرة تفكير مستقل عملاً مريبًا يستدعي التوبة أو العقوبة.
بناء معنويات زائفة على ركام الواقع
يُعيد تنظيم داعش في افتتاحيته الأخيرة إنتاج خطاب الهروب من الواقع، من خلال الترويج لفكرة أن "قوة الروح" وحدها كافية لمواجهة الهزائم العسكرية والانهيارات التنظيمية. ففي سياق يتطلب مراجعة استراتيجية أو حتى مجرد إقرار بالوقائع، يفضّل التنظيم أن ينسج بطولات معنوية مفترضة، مفاخِرًا بما يسميه "ثبات المجاهدين في الباغوز"، رغم أن ما جرى هناك كان نهاية دموية مأساوية لمشروعه في الشام، ونتيجة مباشرة لفشله السياسي والعسكري. بهذا الخطاب، يحوّل داعش الانكسار إلى سردية "صمود"، ويستبدل التقييم الواقعي بالتعالي الشعوري.
من خلال استدعاء معركة الباغوز، لا يسعى التنظيم فقط إلى بث الأمل الزائف في صفوفه المتبقية، بل يحاول إنتاج أسطورة معنوية تقفز فوق الوقائع، وتُقدِّم الهزيمة الكبرى على أنها اختبار إيماني أو "تمحيص" رباني للمخلصين من أتباعه. وهذا النمط من الخطاب ليس جديدًا؛ فقد استُخدم مرارًا في أدبيات الجماعات المغلقة التي تحتفل بخسائرها تحت عنوان "الثبات" و"الابتلاء"، ما يعكس محاولة للهروب من المراجعة النقدية أو المساءلة التنظيمية.
تكمن خطورة هذا النوع من التفسير في أنه يُنتج وعيًا زائفًا ومضادًا للتغيير، إذ لا يُسمح فيه بالاعتراف بالأخطاء أو الفشل، بل يُعاد تأطير كل هزيمة ضمن منظومة رمزية مغلقة، تكرّس العجز بدلًا من تجاوزه. إنه خطاب يعيد تزييف الواقع بطريقة تُبقي الجماعة داخل وهم الأحقية والتفوق المعنوي، رغم انهيارها على كل المستويات، ويغذّي في الوقت ذاته نزعة استشهادية لا تبحث عن نصر حقيقي، بل عن موت "ذو معنى" داخل سردية خلاصية لا علاقة لها بالواقع.
خطاب ازدواجي: محاربة الإسلاميين بالإسلاميين؟
في افتتاحية العدد 493 من صحيفة "النبأ"، يهاجم تنظيم داعش بشدة ما يسميه "البدائل الجهادية" التي يروّج لها الغرب، في إشارة مباشرة إلى حركات مثل "طالبان" و"هيئة تحرير الشام" بقيادة أبو محمد الجولاني. ويقدّم هذه الكيانات بوصفها مشاريع مشبوهة تسعى لاختراق صفوف "المجاهدين الحقيقيين"، واستقطاب أنصار التنظيم عبر تبني خطاب أكثر مرونة سياسيًا وأقل صدامية مع العالم. هذا الطرح يكشف عن قلق حقيقي داخل تنظيم داعش من تآكل تأثيره لصالح تنظيمات تطرح نفسها كبدائل أكثر قابلية للبقاء والتفاوض، حتى وإن ظلت ضمن الفلك الجهادي نفسه.
لكن اللافت في هذا الخطاب ليس مجرد رفض التنظيم لمنافسيه، بل الطريقة التي يستخدم فيها نفس أدوات الحرب النفسية التي يتّهم بها الآخرين. فبدلًا من تقديم نقد موضوعي لمآلات تجارب كـ"طالبان" أو "الجولاني"، يعمد داعش إلى تخوينهم ووصمهم بالعمالة، دون أن يسمح بأي مراجعة ذاتية لمشروعه هو، أو أي تساؤل حول الكلفة الهائلة لخياراته العنيفة. بهذا السلوك، لا يبدو أن التنظيم يختلف جوهريًا عن خصومه، بل يعيد إنتاج نفس منطق الإقصاء والاتهام بالردة، وهو ما يُظهر بوضوح محدودية أفقه وانغلاقه على ذاته.
الصراع بين تنظيم "داعش" وخصومه من الجماعات الجهادية الأخرى، كما تعكسه افتتاحية العدد 493 من صحيفة "النبأ"، لا ينبع من خلافات جذرية في الأيديولوجيا أو الرؤية الدينية، بل من تنافس على الزعامة والمشروعية داخل الفضاء الجهادي نفسه. فكل الأطراف التي يهاجمها التنظيم – من "طالبان" إلى "هيئة تحرير الشام" بقيادة الجولاني – تشترك معه في المنطلقات العقائدية الكبرى، كفكرة "الحاكمية لله"، ومفهوم "الولاء والبراء"، وتكفير الأنظمة القائمة، واعتماد العنف المسلح كأداة للتغيير. ما يفرّقهم ليس الفكرة بل طريقة تنفيذها، ومدى الاستعداد للمناورة السياسية أو تقديم تنازلات شكلية.
من هذا المنظور، فإن الحملة التي يشنها تنظيم داعش على تلك الجماعات "البديلة" لا تعبّر عن وعي نقدي حقيقي بمخاطر الانحراف أو التمييع، بل تكشف عن أزمة نفسية داخل التنظيم، تعكس مخاوفه من فقدان المكانة داخل المشهد الجهادي العالمي. فحين يتراجع نفوذ داعش ميدانيًا وتخبو قدرته على التجنيد، تصبح أي جماعة أخرى تقدم خطابًا "جهاديًا" أكثر براغماتية أو توظيفًا للواقع، تهديدًا رمزيًا وتنظيميًا له، حتى وإن كانت تشاركه نفس القناعات. لذلك يعمد داعش إلى تخوينهم وشيطنتهم، لا لأنه يختلف معهم في الجوهر، بل لأنه يخشى من قدرتهم على منافسته ضمن جمهور يؤمن بالمرجعيات نفسها.
المفارقة هنا أن التنظيم الذي يُتهم الآخرين بالعمالة للغرب أو بالتفريط، لا يملك تصورًا بديلًا واقعيًا أو مراجعة ذاتية لمشروعه الدموي الذي فشل في كل المستويات: من إقامة الدولة، إلى كسب الحاضنة، إلى الحفاظ على كوادره. بل يواصل اجترار نفس السردية التي فشلت، بينما يتهم الآخرين بالخيانة، فقط لأنهم يحاولون البقاء عبر مقاربات أقل صدامية. وهذا يعكس مأزقًا عميقًا لا يخص "داعش" وحده، بل يمتد إلى عموم الحركات الجهادية التي تتشابه في الجوهر، لكنها تتصارع على الشكل. لذا، فإن مجرد اختلاف الدرجة لا يعني تقليل الخطورة، بل ربما يزيدها، لأن "التطرف المرن" قد يكون أكثر قدرة على البقاء والانتشار.
العاطفة ضد العقل: تكتيك تقليدي متجدد
يلجأ تنظيم داعش في افتتاحيته، إلى واحدة من أقدم تقنيات الخطاب التعبوي: ترذيل العاطفة وتقديس "الصلابة الإيمانية" بوصفها الحصن الأخير أمام ما يسميه "الحرب النفسية". يهاجم النص من يسميهم "العاطفيين"، وهم أولئك الذين – بحسب وصفه – تأثروا بـ"الابتسامات والنسائم"، في إشارة ساخرة إلى من استجابت مشاعرهم للواقع الإنساني الطبيعي أو تفاعلوا مع مظاهر الجمال والسلام في الحياة. في المقابل، يُمجَّد "المجاهد الصلب" الذي لا تهزه العواطف ولا يُضعفه الحنين، بل يظل – وفقًا لهذا النموذج – متمترسًا خلف عقيدته كصخرة صمّاء.
هذا التوصيف لا يقدّم صورة متوازنة للإنسان، بل يسعى إلى إعادة تشكيل الفرد على نحو يتناقض مع فطرته البشرية. فباسم "الثبات العقائدي"، يتم الترويج لنموذج الإنسان الذي لا يضحك، لا يتألم، لا يتردد، ولا يحنّ. الإنسان الذي لا تهمه الحياة ولا الناس، بل فقط ما تمليه عليه الجماعة العقائدية. هذا المسعى لعزل الأعضاء عن عواطفهم هو إحدى أدوات التنظيم في إحكام السيطرة على أفراده، وتجريدهم من أي قدرة على التفاعل الطبيعي مع محيطهم، أو إعادة التفكير في ما يفعلونه.
يمثل هذا النهج في جوهره، انعكاسًا واضحًا للتربية "الداعشية" التي تنظر إلى العاطفة بوصفها خللًا في العقيدة، وإلى الشك الإنساني باعتباره مدخلًا لـ"الفتنة". وهو بذلك يفرغ الدين من محتواه الروحي والإنساني، ويحوله إلى مشروع صلد، جامد، لا يرى في الرحمة أو التردد أو الحزن إلا علامات ضعف يجب التخلص منها. وبهذا، يُقتل الحس الإنساني داخل الفرد لصالح آلة فكرية متطرفة لا تتعامل مع الحياة إلا بمنطق الموت والتجرد الكامل من المشاعر.
الإعلام كخط دفاع: الترويج للإنغلاق
تُختَتم افتتاحية العدد 493 من صحيفة "النبأ" بتكليف الجهاز الإعلامي داخل تنظيم داعش بمهمة "التحصين المعنوي" ضد ما يسمونه "الحرب النفسية". لكن هذه المهمة ليست دعوة إلى التنوير أو الحوار، بل إلى الانغلاق والرقابة. فالتنظيم لا يطلب من إعلامييه خوض النقاشات أو تفنيد الآراء المختلفة، بل يحذرهم من ذلك، مؤكدًا أن الرد على "كل شبهة" أو الدخول في "كل نقاش" قد يؤدي إلى تصدع داخلي ويزعزع الصف التنظيمي. وهذا الاعتراف الضمني بهشاشة البناء الفكري يفضح طبيعة المشروع: إنه كيان لا يحتمل الجدل، ولا يتحمل التساؤل.
هذا المنع الممنهج للنقاش يعكس فلسفة سلطوية ترى في الكلمة الحرة خطرًا يفوق الرصاص، وتؤمن بأن الوعي إذا تُرك دون رقابة قد يُفضي إلى الانشقاق أو حتى التمرد. ولذلك، يروج الخطاب لفكرة "إماتة بعض القضايا بالصمت"، وكأن الصمت أداة تطهير عقائدي. وبهذا، يتحول الإعلام – المفترض أن يكون أداة تواصل وفهم – إلى جدار عازل، يصد التساؤلات بدل أن يواجهها، ويخنق النقاش بدل أن يفتحه.
في نهاية المطاف، يكشف هذا التوجه الإعلامي عن خوف التنظيم العميق من فقدان السيطرة على عقول أفراده. فالمشكلة ليست في "الحرب النفسية" التي يدعيها، بل في واقع التنظيم ذاته: واقع يقوم على خطاب أحادي، مغلق، لا يسمح بالمراجعة أو التعددية، ويخشى أن تؤدي كلمة واحدة إلى انهيار الوهم الذي يقدمه لأتباعه بوصفه "مشروع الخلافة".
خاتمة: خطاب مأزوم يحاول إخفاء العجز
افتتاحية العدد 493 من صحيفة "النبأ" ليست تعبيرًا عن قوة متماسكة، بل مرآة تعكس أزمة وجودية يعاني منها تنظيم داعش. إنها محاولة لتضميد جراح مشروع يتداعى، بعد أن خسر الأرض التي كان يدّعي إقامة "الخلافة" عليها، وتراجعت قدرته على إبهار المتابعين أو استقطاب أنصار جدد. ما يقدمه النص ليس بيان انتصار، بل نشرة قلق، مشبعة بالاستنفار النفسي والدعوي، وكأن التنظيم يحاول عبثًا إنعاش جثة مشروع انتهى فعليًا، رغم أن خطابه ما زال يتنفس اصطناعيًا.
في مواجهة هذا الواقع، يلوذ التنظيم بخطاب انغلاقي، يحشد الأتباع داخل سردية مظلومية دائمة، ويطالبهم بالتحصن ضد "الشبهات" و"الفتن" عبر الصمت والعزلة الذهنية. لكنه بذلك لا يزرع الصلابة كما يزعم، بل يكرس الهشاشة. فالفرد الذي يُمنع من التفكير، ويُرهب من النقد، ويُغلق عليه باب السؤال، لا يتحول إلى مؤمن راسخ، بل إلى تابع مأزوم، يخشى العالم، ويرى في كل فكرة غريبة تهديدًا، وفي كل اختلاف خطرًا. هذا النمط من "التربية العقدية" لا يصنع الروح القتالية، بل يعمق الانهيار النفسي.
إن التحصين الحقيقي لا يكون بالخوف من الأفكار، بل بمواجهتها؛ لا بالهروب من التساؤل، بل بتشجيعه، ولا ببناء الجدران، بل بفتح النوافذ. المشروع الذي يقوم على القلق والعداء للمعرفة، وينظر إلى العقل بوصفه عدوًا، محكوم عليه بالعقم والتآكل الذاتي، مهما رفع من شعارات الجهاد أو الصمود. فالأفراد الذين يُربون على الشك في كل شيء إلا ما يُلقن لهم، يصبحون عبئًا على أنفسهم وعلى تنظيمهم، مهما حملوا من سلاح أو رددوا من شعارات.