البروباجندا المسلحة: قراءة في أدوات داعش الرمزية في غرب إفريقيا

الجمعة 30/مايو/2025 - 05:13 ص
طباعة البروباجندا المسلحة: حسام الحداد
 
في العدد 496 من صحيفة النبأ، الذراع الإعلامية لتنظيم "داعش" والصادر مساء الخميس 22 مايو 2025، نُشرت افتتاحية تعبّر عن ذروة من ذُرى الخطاب الجهادي التعبوي، تتمحور حول ما يُسمى بـ"محرقة المعسكرات"—وهي سلسلة من الهجمات الدموية التي نفذها فرع التنظيم في غرب إفريقيا ضد مواقع للجيش النيجيري وقوات من الكاميرون والنيجر. ورغم غياب عنوان مباشر، فإن مضمون النص لا يخفى هدفه المركزي: تسويق هذه العمليات بوصفها إنجازًا نوعيًا يُكرّس "الفتح"، ويُعيد صياغة ميزان القوى الرمزي بين "المجاهدين" و"الطواغيت".
النص يفيض بلغة رمزية مكثفة تنزع نحو الأسطرة، حيث تُستبدل الحقائق الميدانية بنظام دلالي متعالٍ يُجرد الواقع من تعقيداته، ليُعاد إنتاجه ضمن ثنائية مطلقة: النصر الإلهي مقابل الهزيمة البشرية. وبهذه البنية، يسعى الخطاب إلى قلب المعادلات العسكرية والسياسية، محولًا الفقر اللوجستي إلى بطولة روحية، ومحولًا القتل الجماعي إلى مشهد من مشاهد "التمكين". هذه اللغة لا تُستخدم فقط كوسيلة للتعبئة، بل أيضًا كأداة للهيمنة الرمزية على جمهور يُطلب منه الإيمان المطلق بالمعركة.
يعتمد هذا التحليل على أدوات "تحليل الخطاب" بوصفها مدخلًا لفهم كيف تُبنى السلطة الرمزية عبر اللغة، وكيف يُعاد إنتاج الواقع عبر السرد، والاستعارة، والأفعال الكلامية، والإشارات المرجعية. لا يُقارب النص هنا بوصفه بيانًا سياسيًا فقط، بل كمنتَج أيديولوجي يُشكّل وعياً بديلاً لدى جمهوره، ويتعامل مع الوقائع من منطق تعبوي يستهدف السيطرة على التخيّل الجمعي، وليس فقط تبرير العنف.
ولأن الخطاب لا يُنتج في فراغ، فإن فهمه يتطلب ربطه بالسياق الأوسع لمنطقة الساحل وغرب إفريقيا، حيث تعيش المجتمعات في حالة مستمرة من الفراغ الأمني، والهشاشة السياسية، وغياب التنمية. في هذا السياق، يتغذى خطاب داعش على الفشل المزمن للدولة، ويقدّم نفسه كبديل حاسم، عادل، وشرعي. من هنا، يصبح تحليل هذا النص ليس فقط تمرينًا لغويًا، بل مدخلًا لفهم كيف تنتج الجماعات المتطرفة سرديتها، وتستثمر الأزمات لتوسيع رقعة تجنيدها ونفوذها.

الانقلاب على الواقع عبر لغة "الفتح"
تبدأ افتتاحية "النبأ" بتعليق ساخر على قرار "حاكم برنو" في نيجيريا بمنع بيع الوقود في مناطق محددة، بحجة تقويض تحركات الجماعات المسلحة. لكن ما يبدو من النص ليس فقط نقدًا للإجراء، بل محاولة واعية لإعادة ترسيم الجغرافيا السياسية في وعي المتلقي الجهادي، عبر مقارنته مباشرةً بإجراءات مماثلة في سوريا والعراق. هذه المقارنة ليست عفوية، بل تهدف إلى تثبيت ما يمكن تسميته بـ"الجغرافيا المتخيلة للخلافة"، حيث تتحول مناطق بعيدة ومتباعدة إلى ساحات موحّدة في "معركة كبرى" ضد عدو مشترك، هو الدولة الوطنية التي توصف بـ"المرتدة"، ومن خلفها "الصليبيون".
الخطاب هنا ينقلب على منطق الدولة الحديث الذي يرى في الإجراءات الأمنية وسيلة لحماية المواطنين واستعادة السيطرة، فيصوّر هذا النوع من القرارات كعلامة ذعر وعجز لا كخطوة تكتيكية. لا يتوقف النص عند تسفيه القرار، بل يقدّمه كاعتراف غير مباشر من الحاكم بفقدان السيطرة على الأرض. إن كل خطوة دفاعية تُفسَّر بوصفها تراجعًا وخسارة جديدة، ما يعكس القدرة الخطابية لتنظيم الدولة على انتزاع أي حدث أمني أو سياسي من سياقه الواقعي، وتحويله إلى دليل إضافي على فشل "الطواغيت".
في قلب هذا الانقلاب على المنطق، تظهر الاستعارة المركزية التي تشحن النص بلغة تعبوية رمزية: "الدم الزكي هو وقود المجاهدين". هذه العبارة المفتاحية ليست مجرد جملة بلاغية، بل تعبير عن تحول مفاهيمي يُعيد تشكيل الواقع وفق منظور جهادي أسطوري؛ فالتنظيم يعمد إلى تجريد أدوات القتال من بعدها المادي (السلاح، التموين، الوقود)، ليضع مكانها مفاهيم روحانية تتعلق بالإيمان، الشهادة، والبيع مع الله. بهذه الطريقة، يُجرّد العدو من أسباب القوة ويُحوَّل النقص إلى فضيلة، في حين يُلبَس الفعل الجهادي ثوبًا قدريًا تتجاوز فيه أفعاله قوانين الحرب والتكتيك.
تدفع هذه الاستعارة بالخطاب إلى ذروته التعبوية، حيث يُصوَّر المجاهدون كمنبع طاقة لا ينضب، لا تحكمه شروط المادة بل محركات العقيدة. في المقابل، يظهر العدو مرهقًا، معتمدًا على إمدادات مهددة، وقابلاً للهزيمة في أي لحظة. الفكرة الجوهرية هنا أن النصر لا يعتمد على الأسباب الظاهرة بل على إرادة إلهية، تُمنَح لمن يستحقها بالإيمان والتضحية. وهكذا، لا يُستخدم قرار منع الوقود لتفسير ظرف محلي، بل لإعادة تفعيل ثنائية النصر الإلهي مقابل الفشل البشري، وإدماج الهجمات الجهادية في نص أوسع من الأسطرة والقداسة، حيث المعركة تُخاض نيابة عن الأمة، وتؤدي إلى فتح قريب "لا يُعطّله نقص وقود".

صناعة "بطولة مطلقة" في مقابل شيطنة مزدوجة
يعتمد خطاب "النبأ" على تضخيم رمزية "المجاهد" إلى حدود الأسطرة، حيث لا يظهر كعنصر عسكري في معركة، بل كرمز مكتمل للبطولة والنقاء العقائدي. هؤلاء هم "فتيان الخلافة" الذين تربّوا في "معاهد شرعية"، بحسب النص، وهي إشارة إلى التكوين العقائدي المنضبط الذي يُفترض أنه يمنحهم شرعية عليا في القتال. إنهم ليسوا فقط منفذين للعمليات، بل حملة لراية دينية وتاريخية، يتم إبرازه في مقابل عدوٍ يتم تجريده من كل سمة إنسانية أو أخلاقية. بهذه الصورة، تتحول المعركة إلى ساحة رمزية بين الطهارة والخيانة، بين من يمثلون النور ومن يغرقون في الظلمات.
العدو الأول في خطاب "النبأ" ليس القوى الغربية أو التحالفات الدولية، بل الجيوش الأفريقية نفسها، وعلى رأسها الجيش النيجيري. يُصوّر الجنود المحليون بصفات متدنية، يوصفون ضمنيًا بأنهم "يفرون كالجرذان"، وهي استعارة مقصودة تعيد إنتاجهم ككائنات منحطة لا تملك لا شجاعة ولا كفاءة. يتم تأطير هؤلاء كـ"مرتدين" – أي خارجين عن الدين – لا كمجرد خصوم سياسيين، مما يمنح قتالهم بُعدًا شرعيًا مضاعفًا. الفكرة الأساسية هنا أن هؤلاء لا يُقاتلون لصالح شعوبهم، بل كأدوات في يد "الصليبيين"، ما يتيح للمجاهد أن يظهر كبطل محلي في مواجهة "خيانة وطنية" مقنّعة.
في الطبقة الثانية من الشيطنة، يظهر الغرب بوصفه الشيطان الأكبر، ليس فقط من خلال التوصيف الكلاسيكي بـ"الصليبيين"، بل أيضًا من خلال اتهام الإعلام بالتواطؤ. يُشار في النص إلى "الصحفيين" بشكل سلبي، وكأنهم جزء من آلة الحرب الغربية، يسهمون في تشويه صورة المجاهدين وتبرير الجرائم ضد المسلمين. هكذا يُحوَّل الفضاء الإعلامي إلى ساحة حرب معنوية، ويُعاد رسم الخريطة الأخلاقية للعالم حيث الإعلام ليس سلطة مستقلة بل جزء من "التحالف الحربي"، ما يعمّق شعور جمهور التنظيم بالحصار والخذلان، ويبرر مزيدًا من العنف بوصفه ردًّا على حرب مزدوجة: عسكرية وإعلامية.
لا يكتفي الخطاب برسم حدود ثنائية بين "نحن" و"هم"، بل يتوسع لتشمل دائرة العداء فئات وسطى تبدو من الخارج محايدة أو حتى إسلامية. المسلمون الذين "قعدوا ورضوا بالحياة الدنيا" يُصوَّرون كمتخاذلين خانوا واجب الجهاد، وهو تلميح واضح إلى الجمهور العربي والمسلمين غير المنخرطين في مشروع الدولة. أما الجماعات المسلحة الأخرى التي تتلقى دعمًا مشروطًا من دول أو أجهزة، فتوضع في خانة "الخيانة المقنّعة"، كونها باعت الجهاد لقاء مصالح سياسية. بهذه الطريقة، لا تترك سردية داعش مساحة للرمادي أو الوسطي، بل تُعيد هندسة المشهد الجهادي والعالمي في ثنائية حادة: إما معنا أو ضدنا، إما مجاهد نقي أو خائن متحالف.

التفوق الأخلاقي والعسكري الزائف
يعتمد الخطاب الدعائي في "النبأ" على تحويل الفعل العسكري من مجرد هجوم إلى طقس رمزي مشحون بالشرعية الدينية. ففي وصفه لما يسميه "محرقة المعسكرات"، يتم دمج الجانب التكتيكي (الهجوم على مواقع الجيش النيجيري) مع استدعاء حديث نبوي: «وجعل رزقي تحت ظل رمحي». هذا الربط ليس اعتباطيًا، بل يُقصد به منح العملية بُعدًا ماورائيًا، حيث تتحول الغنائم – التي قد تكون مجرد مؤن أو أسلحة – إلى دليل على رضا إلهي ونصر مقدّس. في هذا السياق، لا تُعرض الغنيمة كجزء من إدارة الحرب، بل كأداة إثبات للشرعية، وكأن يد الله تتدخل في المعركة لترجّح كفة "المجاهدين".
ورغم هذا البناء المعنوي، يتجاهل النص تمامًا أي إشارات إلى الخسائر في صفوف داعش، سواء البشرية أو اللوجستية، وكأن التنظيم يخوض معاركه بلا ثمن. هذه الانتقائية الحادة في السرد تعكس استراتيجية إعلامية متعمدة، تُغفل الوقائع التي قد تضعف سردية "التمكين" والانتصار. فغياب أي إشارة إلى الرد العسكري من القوات النيجيرية، أو إلى حجم الفقد في صفوف "المجاهدين"، يُظهر كيف يتم تكييف الواقع لخدمة بنية خطابية مغلقة لا تعترف بالتراجع أو الضعف. إنها رواية مصمّمة لإبقاء أنصار التنظيم في حالة دائمة من الثقة والاستعداد، حتى لو كانت مضلِّلة.
ويبدو أن الغاية من هذا الخطاب ليست فقط تبرير المعركة، بل إنتاج شعور دائم بالتفوّق الأخلاقي والعسكري، حتى في أحلك الظروف. فالهجوم يوصف كـ"فتح"، والغنيمة كـ"رزق"، والدماء المسفوكة كـ"ثأر إلهي"، في حين يتم تغييب مشاهد الدمار الذي يخلّفه التنظيم، أو المعاناة التي تصيب المدنيين. النصر هنا ليس واقعًا عسكريًا موثقًا، بل حالة شعورية يُراد تثبيتها لدى الجمهور الداخلي للتنظيم. وهكذا يتحول النصر من حدث ملموس إلى فكرة دائمة التكرار، بغضّ النظر عن تغير الظروف الميدانية.
لا تقتصر وظيفة هذا الخطاب على التماسك الداخلي، بل يمتد أثره إلى الخصوم، عبر إنتاج مشهد قتال مضخّم يُراد له أن يُحدث أثرًا نفسيًا على العدو. مصطلحات مثل "المحرقة" و"الرمح" و"الفتح" تخلق حالة من التهويل تهدف إلى زعزعة ثقة الجيوش المحلية بقدرتها على الحسم، وإعطاء انطباع بأن التنظيم يملك زمام المبادرة دومًا. لكنها في حقيقتها محاولة لتغطية العجز الاستراتيجي، وتحويل العمليات المحدودة إلى انتصارات حاسمة في المخيال الجمعي لأنصار التنظيم. بهذا المعنى، يتجاوز النص حدود الوصف الإخباري، ليصبح أداة في حرب الوعي، تقوم على الكتمان والتضخيم معًا.

السياق الإقليمي كأرض خصبة للخطاب الجهادي
تستند دعاية تنظيم داعش، في حالة غرب إفريقيا، إلى قراءة دقيقة لمكامن الضعف في الدولة الوطنية. فالتدهور الأمني المستمر في نيجيريا، وتكرار الهجمات في ولايات الشمال الشرقي، يعزز من صورة الدولة ككيان عاجز عن حماية مواطنيه. ويغدو هذا العجز وقودًا دعائيًا، يُستثمر في بناء سردية بديلة تُصور التنظيم كمشروع "نظام موازٍ"، يملك القدرة على فرض السيطرة، وتطبيق "العدالة" بحسب تصوراته. فكل فشل أمني، وكل مجزرة تُرتكب، تتحول إلى مادة ترويجية تُستخدم لتشويه صورة الدولة، وتقديم "الخلافة" كمنقذ منتظر.
لا يكتفي الخطاب الدعائي بتشريح الأزمات الداخلية للدول، بل يتغذى أيضًا على الصراعات البينية في الإقليم. فتبادل الاتهامات بين حكومات الساحل، أو الخلافات حول كيفية إدارة ملف الإرهاب، يُعاد تأطيرها في إعلام التنظيم باعتبارها دليلاً على أن النظام الدولي – ومن ضمنه الأنظمة الإفريقية – في حالة "تفكك وانهيار". هذه السردية تفتح المجال أمام التنظيم لتقديم نفسه كقوة عابرة للحدود، قادرة على ملء الفراغ وفرض "وحدة العقيدة" حيث فشلت السياسات والسيادة الوطنية. وهكذا يتحول التشرذم السياسي إلى مادة إثبات لمشروعية الجهاد العابر للحدود.
ينتقد الخطاب الجهادي النخب الإفريقية، الدينية والسياسية على حد سواء، ويصورها كجزء من الأزمة لا من الحل. فهذه النخب، بحسب الوصف الدعائي، إما متواطئة مع "الطواغيت"، أو عاجزة عن تقديم بديل فعّال. هذا الهجوم يطال أيضًا الزعامات العشائرية والدينية التي كانت تقليديًا طرفًا في التوازن المحلي، مما يخلق مساحة فارغة يسعى التنظيم لملئها عبر تقديم نفسه كمصدر جديد للشرعية، لا يستند إلى تاريخ أو نسب، بل إلى "التمكين الجهادي". بهذا الشكل، يُعاد رسم خريطة الولاء بعيدًا عن الدولة والمجتمع التقليدي، باتجاه التنظيم وهيكل "الخلافة".
في مواجهة هذا الانهيار الإقليمي المتعدد الأوجه، يطرح تنظيم داعش ما يمكن تسميته بسردية "الاستبدال الإلهي"، وهي عقيدة تقوم على أن الأمة إذا تراجعت أو خانت رسالتها، فإن الله يستبدلها بمن هو "أصلح"، أي "المجاهدين". هذه الفكرة تُقدَّم كقدر مقدّس لا مفر منه، يبرر صعود التنظيم وانحدار غيره. ولأن الخطاب لا يكتفي بوصف الواقع، بل يسعى إلى تشكيله، فإن هذه العقيدة تُستخدم لتحفيز أنصاره وتعميق القطيعة مع المجتمعات المحلية، التي يُنظر إليها كعائق زائل أمام "التمكين". وبهذا، يتحول الاضطراب السياسي إلى مادة تفسير ديني، يُعاد من خلالها تشكيل المعنى العام للأزمة.

نقد ضمني لمنافسي الساحة الجهادية
يتعمد النص الجهادي استخدام التلميح بدل التصريح، حين يتناول الجماعات المسلحة الأخرى العاملة في الساحة الإفريقية. فبدلًا من ذكر أسماء كجماعة نصرة الإسلام والمسلمين أو تنظيمات محلية ترتبط بتحالفات قبلية أو سياسية، يختار النص الإشارة إلى "من باع دينه لقاء دعم مشروط"، أو "من اصطفّ مع الطواغيت". هذه الصيغة تخدم غرضًا مزدوجًا: توجيه الاتهام بشكل غير مباشر، بما يسمح بالمناورة، وفي الوقت نفسه، تقديم داعش على أنها النموذج النقي الذي لم يتورط في تسويات أو مساومات.
في عمق هذا الخطاب يكمن صراع حول من يمثل "الصوت الجهادي الأصيل"، أو ما يمكن تسميته بأزمة "شرعية التمثيل الجهادي". فكل فصيل يحاول احتكار صفة "الفرقة الناجية"، مستندًا إلى تماسكه العقائدي أو تاريخه القتالي أو حجم نفوذه. تنظيم داعش، في هذا السياق، يطرح نفسه بوصفه حامل لواء الجهاد الصحيح، رافضًا أي تحالفات مع جهات خارجية، حتى لو كانت مؤقتة أو تكتيكية. هذا التمايز المقصود يعكس قلقًا داخليًا من تآكل سلطته الرمزية أمام جماعات محلية قد تحظى بدعم شعبي أو خارجي أكبر.
من خلال هذا الخطاب، لا تكتفي داعش بالتنافس السياسي أو العسكري مع الفصائل الأخرى، بل تفتح جبهة أيديولوجية تشكك في عقيدتهم نفسها. تُستخدم تعبيرات مثل "المرجئة الجدد" أو "المتصوفة المميعة" (في أدبيات مشابهة) لتأطير الجماعات المنافسة كمنحرفة عن "المنهج"، مما يحرمها من أي شرعية دينية في أعين أنصار التنظيم. وبهذا، يتحول الصراع من تنافس ميداني إلى معركة وجودية على تعريف الجهاد ومشروعية القتال، وهو ما يعمّق الانقسام داخل المعسكر الجهادي بدل أن يوحده.
هذا النقد الضمني للمنافسين لا يهدف فقط إلى تسفيههم، بل إلى تكريس فكرة "العزلة الجهادية"، أي الانفصال عن أي مسار سياسي أو تفاوضي، ورفض الشراكة حتى مع الجماعات الأقرب. فالتنظيم يوظف هذا الانعزال كدليل على النقاء العقائدي، معتبرًا أن كل من تورط في التنسيق مع جهات خارجية قد خان القضية. لكن هذه العزلة ليست فقط انعكاسًا لموقف مبدئي، بل هي نتيجة تآكل شبكة التحالفات المتاحة له، ما يجعل من هذا الخطاب غطاءً لعجز استراتيجي يُعاد تأطيره بلغة "الصفاء والمنهج".

ما وراء الدعاية.. ما العمل؟
رغم ما يبدو على الخطاب من انتشاء بالنصر والتمدد الميداني، فإن القراءة المتأنية تكشف عن توتر داخلي في بنية الخطاب الجهادي ذاته. فالتأكيد المتكرر على "الفتح"، واستدعاء الرموز التاريخية، وتكرار مفردات مثل "الصبر" و"الثبات"، يعكس قلقًا بنيويًا لا يمكن إخفاؤه. هذا القلق ينبع من إدراك ضمني لهشاشة المكاسب العسكرية، وضعف الحاضنة المجتمعية، وانكشاف التنظيمات أمام تحديات لوجستية وأمنية داخلية، الأمر الذي يدفعها لتكثيف الدعاية كوسيلة دفاع رمزي عن شرعية وجودها.
في السياق الإفريقي، حيث هشاشة الدول وفشل مشاريع التنمية، تجد هذه الدعاية تربة خصبة، خصوصًا بين فئات مهمشة تشعر بالخذلان من الدولة والمجتمع الدولي. تنظيمات مثل داعش تحوّل الفقر والتهميش إلى حكاية بطولية، تصوّر فيها "المجاهد الفقير" على أنه المنتصر على "الجيش المدجج"، وتستثمر في انعدام الثقة بين المواطنين والحكومات. وبهذا المعنى، لا تكتفي الدعاية بتجنيد الأفراد، بل تعيد تشكيل تصورهم عن العالم وموقعهم فيه، وتُعيد توجيه الغضب من الداخل إلى الخارج، من الظلم الاجتماعي إلى "الجهاد الأممي".
الاكتفاء بالرد الأمني والعسكري على هذه التنظيمات، دون معالجة البنية الرمزية والفكرية التي تغذيها، يبقى حلاً جزئيًا ومؤقتًا. التجارب الميدانية تثبت أن الضربات العسكرية، مهما كانت قاسية، لا تنهي ظاهرة الإرهاب إذا بقيت الأرضية الأيديولوجية والاجتماعية قائمة. فالتنظيمات تعيد إنتاج نفسها من رمادها، وتستغل كل خطأ أمني أو تجاوز حقوقي لإعادة بث سرديتها بصيغة الضحية المنتقمة. من هنا، يصبح تفكيك الخطاب بنفس أهمية تفكيك البنية العسكرية، خصوصًا في بيئة تتداخل فيها الهويات العرقية والدينية مع الشعور بالغبن التاريخي.
المعركة الحقيقية ضد الإرهاب في إفريقيا لا تبدأ فقط من مراكز القيادة العسكرية، بل من المدارس والمساجد والحقول والمراكز الصحية. لا بد من مشروع وطني شامل، يعيد بناء العقد الاجتماعي ويقدّم بديلًا حقيقيًا عن الجماعات المتطرفة، بديلًا لا يقوم على الشعارات بل على العدالة، والمشاركة، والتنمية. وفي هذا الإطار، لا يكفي الرد بالدين فقط، بل يجب مساءلة الجماعات بلغة الدين المعمق، وإظهار تناقضاتها، وتجفيف منابعها من خلال تحصين الشباب بالوعي، وإعادة دمج المهمّشين في دورة الحياة السياسية والاقتصادية. وحده هذا المشروع المتكامل قادر على كسر سطوة السردية الجهادية، ونزع "القداسة" عن العنف، وإعادة إفريقيا إلى مسارها التنموي والسيادي بعيدًا عن فوضى الدم والشعارات الجوفاء.

شارك