خارج إطار المواطنة: داعش يرفض الإنسان المدني ويرسّخ ثقافة الصراع
الإثنين 16/يونيو/2025 - 03:29 م
طباعة

في افتتاحية العدد 499 من صحيفة النبأ، الصادرة عن تنظيم داعش بتاريخ 12 يونيو 2025، يطرح التنظيم مفهوم "التربية الأمنية" بوصفه ركنًا ثالثًا لا يقل شأنًا عن "التربية الإيمانية" و"التربية الجهادية". هذا التصنيف يعبّر عن رؤية أيديولوجية ترى أن الأمن – في بعده التنظيمي والسلوكي – ليس مجرد حاجة عملياتية، بل مكون بنيوي في تشكيل "المجاهد الكامل". فالفرد في هذا السياق لا يُطلب منه فقط أن يكون مؤمنًا ومقاتلًا، بل أيضًا "آمنًا" في سلوكه ووعيه ونظرته للعالم.
تؤطر الافتتاحية هذا المفهوم ضمن سردية كبرى عن "الحرب العالمية مع الكفر"، حيث يتحول الأمن إلى ما يشبه "العبادة"، ويتحول الحذر والشك والتوجس إلى فضائل أخلاقية. وبهذا يصبح الأمن ليس وسيلة لحماية الإنسان، بل وظيفة أيديولوجية تُبرر الانعزال عن الواقع، وتُنتج ذهنية مطاردة للعدو في كل مكان وكل لحظة. هذا التوظيف يختزل العالم إلى ثنائية صفرية: إما أمن التنظيم، أو اختراق "الكفر"، دون أي مساحة للتعايش أو الفهم أو الحوار.
ما يبدو في ظاهره تنظيرًا أمنيًا، يكشف في عمقه مشروعًا لإعادة قولبة الفرد داخل بنية تنظيمية مغلقة، حيث يصبح المجاهد ليس فقط محاربًا، بل جهاز إنذار دائم، يرى في كل علاقة خطرًا، وفي كل لحظة تراخي احتمال انهيار. فـ"التربية الأمنية" هنا لا تهدف إلى تأمين الفرد في بيئة معادية، بل إلى تحويله إلى كائن متوجس على مدار الساعة، مبرمج على الشك، ومستعد دائمًا للاشتباه والمعاقبة، حتى تجاه أقرب المقربين.
بهذه الطريقة، تُنتج الافتتاحية – من حيث لا تصرح – بنية نفسية مغلقة، تعيد تدوير العنف والعداء باسم الوقاية. وتحوّل الجهاد من مواجهة عسكرية إلى نمط حياة يقوم على الارتياب المطلق والعزلة الفكرية والشعورية عن المجتمع الإنساني. فالفرد الذي يتربى وفق هذا النموذج لا يعود جزءًا من العالم، بل عدوًا له، وهو ما يشكل تهديدًا ليس فقط من حيث العمليات الإرهابية، بل من حيث البنية الذهنية التي تنزع عن الإنسان إنسانيته، وتحوله إلى أداة في مشروع تكفيري لا يعترف إلا بالحرب كقدر دائم.
من الفراسة الفردية إلى هوس المؤامرة
تبدأ افتتاحية صحيفة النبأ بالتشديد على مركزية الفرد في منظومة "التربية الأمنية"، بوصفه "رأس المال" الذي يترتب عليه نجاح المشروع الجهادي أو فشله. هذا التوصيف يوهم القارئ بأن الفرد يحتل مكانة محورية، بينما الحقيقة أن هذه المركزية لا تُمنح له من باب احترام الذات أو تمكينه من أدوات الحذر الواعي، بل لأنه يجب أن يُعاد تشكيله وتطويعه بالكامل داخل بنية تنظيمية صارمة لا تسمح بالخروج عن النص. الفرد هنا ليس حرًّا في سلوكه أو تفكيره، بل يُعاد تشكيل وعيه ليكون قابلاً للانضباط الصارم والانصهار الكامل في عقلية أمنية جماعية، حيث كل تهاون يُعدّ خيانة، وكل غفلة ثغرة.
الخطير في الطرح هو أن التربية الأمنية كما تقدمها الافتتاحية لا تُبنى على مفهوم الحذر العقلاني، بل تنحدر نحو إنتاج حالة من القلق الدائم والارتياب المرضي. المطلوب من الفرد – بحسب النص – ألا يعيش حالة الحذر استثناءً أو ظرفًا طارئًا، بل أن يتلبّسها بوصفها نمط حياة، لا يفارقه حتى في لحظاته الروحية مثل الصلاة، التي تتحول من لحظة خشوع إلى حالة تأهب. وبدلًا من تعزيز الفطنة الطبيعية، يجري تحميل الفرد مسؤولية أمن الجماعة كله، ما يزرع داخله شعورًا ثقيلًا دائمًا بالتهديد والمسؤولية، يقوده تدريجيًا إلى سلوك وسواسي يشلّ قدرته على التمييز بين الخطر الحقيقي والاختلاف البريء.
هذا النمط من التربية لا يُنتج فقط حالة من الوسواس، بل يضرب أساس الثقة داخل التنظيم نفسه. حين يتحول كل فرد إلى رقيب على ذاته وعلى من حوله، وتُزرع فيه فكرة أن العدو يتربص به من الداخل والخارج على حد سواء، يصبح التنظيم بيئة طاردة للثقة والتماسك. كل اختلاف رأي قد يُفهم كاختراق، وكل تهاون بسيط يُفسَّر كخيانة، ما يدفع الأفراد إلى الانغلاق والتقوقع، أو إلى المبالغة في إثبات ولائهم عبر مزيد من الانضباط الشكلي والشك المتبادل. بهذا، تتحول الجماعة إلى بيئة مغلقة خانقة، لا تحتمل التنوع ولا تسمح بنمو صحي للفكر أو السلوك.
في جوهرها، هذه التربية الأمنية لا تصنع مجاهدًا متزنًا أو واثقًا، بل تُكرّس "عقيدة المؤامرة" كأساس دائم للوجود. يُطلب من الفرد ألا يتعامل مع المخاطر كمجرد احتمالات ظرفية، بل كحقائق مطلقة تُحدّد يومه وتوجّه سلوكه في كل لحظة. هذا التصوّر يُنتج بيئة نفسية منهكة، حيث يغيب الأمان الداخلي ويحل محله رهاب دائم من الاختراق، حتى من أقرب المقربين. ومع الوقت، تفقد الجماعة مناعتها الذاتية لا بسبب ضربات العدو، بل بفعل التآكل الداخلي الناتج عن ثقافة الشك والهوس الأمني. وهنا تتحول التربية الأمنية من أداة حماية إلى وسيلة تدمير ذاتي بطيء.
"كل مجاهد أمني" – عسكرة الشاملة
تقدم الافتتاحية مفهومًا مفاده أن الأمن مسؤولية جماعية لا تقع فقط على عاتق "الجهاز الأمني"، بل تشمل "الشرعي والعسكري والإعلامي". وهنا تتضح نية التنظيم في تعميم منطق الشك والحذر والارتياب، ليصبح كل مجاهد "عينًا أمنية". ما يبدو حنكة تنظيمية هو في الحقيقة عسكرة شاملة للحياة التنظيمية، حيث لا يُترك للفرد متسع لتطوير ذاته معرفيًا أو إنسانيًا خارج هذا الإطار الضيق.
الشرعي – الذي يُفترض أن يكون موجّهًا روحانيًا – يتحول إلى مخبر ضمني، والإعلامي إلى مدقق أمني بدلًا من كونه ناقلًا للخطاب. بهذا يتحول العمل الجهادي إلى ساحة بوليسية بامتياز.
معاداة مفاهيم الدولة والمواطنة
تُظهر افتتاحية النبأ احتقارًا واضحًا لمفهوم "المواطن الصالح"، الذي يُعدّ في الفلسفات السياسية والاجتماعية أساسًا لقيام الدول الحديثة والمجتمعات المستقرة. تُقدّم هذه الصورة باستخفاف بالغ، وتصف "المواطن" بأنه كائن "خانِس خاضِع"، في إشارة واضحة إلى أن الطاعة المدنية واحترام القانون يُعدّان في نظر التنظيم نوعًا من المذلّة والانقياد غير المشروع. هذه اللغة لا تعبّر فقط عن رفض لأنظمة الحكم القائمة، بل تكشف كرهًا مبدئيًا لفكرة الدولة ذاتها، بوصفها كيانًا يسعى إلى تنظيم المجتمع ضمن قواعد وأطر قانونية مشتركة.
في رؤية التنظيم، لا يُمنح الفرد أي قيمة ذاتية أو مكانة إنسانية انطلاقًا من مشاركته في بناء المجتمع أو احترامه لحقوق الآخرين أو التزامه بواجباته المدنية. بل إن قيمته تُختزل تمامًا في كونه "مجاهدًا متوثبًا"، على استعداد دائم لخوض صراع دموي باسم "الولاء والبراء". لا وجود لمفهوم الانتماء الوطني أو الإسهام في الصالح العام؛ فالمعيار الوحيد للجدارة هو الاشتباك مع ما يسمّيه التنظيم "الكفر"، وهو تعريف فضفاض يتسع ليشمل كل من لا ينتمي إلى مشروعهم. بهذا، تتحول فكرة المواطنة من رابط قانوني وإنساني إلى خيانة ضمنية في عُرف التنظيم.
اللافت أن هذا الرفض لمفهوم الدولة والمواطنة لا ينبني على نقاش فكري أو مراجعة نقدية كما قد تفعل الحركات الإصلاحية أو الفلسفات السياسية الراديكالية، بل يصدر عن نزعة استئصالية صريحة. التنظيم لا يحاول تفكيك الدولة الحديثة أو نقدها بطرح بديل مدني عقلاني، بل يهاجمها بوصفها نقيضًا وجوديًا لمشروعه. هو لا يناقش، بل يُقصي، لا يُفكر، بل يُكفّر. هذا يجعل التنظيم غير معادٍ فقط للأنظمة السياسية، بل لكل أشكال التنظيم الاجتماعي التي لا تتطابق مع النموذج الجهادي الصارم الذي يفرضه.
الأخطر في هذا التصور هو أن العداء لا يتوقف عند حدود السلطة أو النخب الحاكمة، بل يمتد ليشمل المواطنين أنفسهم، باعتبارهم شركاء في منظومة يعتبرها التنظيم "كافرة". وهنا يتحوّل الصراع من مواجهة سياسية إلى حرب شاملة ضد المجتمع نفسه. المواطن العادي، الذي يذهب إلى عمله ويدفع ضرائبه ويعيش في إطار قانوني مدني، يصبح في عرف التنظيم خصمًا محتملًا، لأنه اختار "الخضوع" للقانون بدلًا من "الانخراط" في القتال. بهذا المعنى، لا يبني التنظيم نفسه بوصفه بديلًا عن الدولة فحسب، بل كعدو فعلي للناس – كل الناس – إلا من بايع مشروعه وارتدى ثوبه الجهادي.
تطبيع العنف الأمني وتشريع القسوة
تقدّم افتتاحية النبأ تصورًا بالغ التطرّف للأمن التنظيمي، حيث لا يُنظر إلى الأداء الأمني كمسؤولية تنظيمية أو مهنية، بل كتكليف شرعي يُحاسَب عليه الفرد كما يُحاسَب على الفرائض الدينية. فـ"التقصير الأمني" لا يُعد مجرد خطأ إداري أو تقني، بل يُصنّف كـ"معصية شرعية متعدّية"، أي أنه إثم لا يقتصر ضرره على مرتكبه، بل يطال الجماعة كلها. هذا التحويل للأمن من مجال إداري إلى ساحة للعقاب الديني، يفتح الباب واسعًا أمام ممارسة العنف الممنهج داخل التنظيم تحت غطاء شرعي، ويجعل من القسوة والتشدد ممارسات مشروعة بل ومطلوبة.
بناءً على هذا التصور، فإن أي إخفاق أمني – مهما كان بسيطًا – يبرر سلسلة من الإجراءات العقابية القاسية التي قد تشمل الإقصاء، السجن، الإذلال، أو حتى التصفية الجسدية. إذ يتم تصوير هذه العقوبات لا كأدوات تأديبية، بل كواجبات دينية تُطهّر الجسد التنظيمي من "الخيانة أو الغفلة". بهذا تتحول الجماعة إلى كيان بوليسي ديني، تفرض داخليًا مناخًا من الرعب والتوجس، وتُطوّع أفرادها على الخوف من العقوبة الدينية لا على الإيمان بالمهمة أو القناعة بالمشروع.
الافتتاحية لا تكتفي بتشديد القبضة الأمنية، بل تهاجم كل محاولة لفهم الأمن تنظيريًا أو عقلانيًا. فـ"الكتب والموسوعات والمطويات" – التي ترمز عادة إلى المعرفة والخبرة المؤسسية – تُسفَّه تمامًا في هذا الخطاب، وتُستبدل بمنطق الممارسة الخشنة والتجربة المباشرة. الأمن، بحسب هذا المنظور، لا يُدرّس ولا يُتناقش فيه، بل يُعاش ويُنفَّذ بلا تردد، مما يُقصي الفكر ويُقدّس الطاعة، ويُنتج في النهاية نموذجًا أمنيًا مغلقًا وعنيفًا وغير قابل للمراجعة.
تُختزل كل الرؤية الأمنية للتنظيم في ثلاثية صارمة: الطاعة، الانضباط، والخضوع. فالفرد داخل هذا الجهاز الأمني لا يُمنح مساحة للتفكير أو الاجتهاد أو الاعتراض، بل عليه أن يذوب كليًا في النسق الصارم الذي تفرضه القيادة. هذا الشكل من التطويع لا يُنتج أمنًا فعّالًا بقدر ما يُنتج آلة خشنة تُكرر نفسها وتُقصي أي صوت نقدي. وهكذا، يتحوّل الأمن من أداة حماية للجماعة إلى أداة إخضاع لأفرادها، ومن وسيلة للبقاء إلى أداة لإعادة إنتاج العنف داخل التنظيم ذاته.
الأمن بوصفه طريقًا للتمكين لا للحماية
بالطبع، إليك إعادة كتابة النقطة "خامسًا: الأمن بوصفه طريقًا للتمكين لا للحماية" في أربع فقرات تحليلية موسعة، توضح المنظور العدائي لمفهوم الأمن في خطاب تنظيم داعش:
تُقدّم افتتاحية النبأ تصورًا أيديولوجيًا للأمن، لا ينطلق من حماية الإنسان، بل من خدمة مشروع الجماعة التوسعي. فالتربية الأمنية، بحسب هذا التصور، لا تهدف إلى حفظ حياة الفرد أو صيانة مجتمعه، بل إلى إعداد أدوات بشرية تُستخدم في معركة التمكين، أي في الصراع ضد "الأنظمة الكافرة" وسائر خصوم التنظيم. وتُختزل الغاية من الأمن في عبارة صريحة تقول إن الهدف هو "تأسيس لإسقاط الأنظمة"، ما يحوّل الأمن إلى وسيلة هجومية، لا دفاعية، تُدار بعقلية الفتح والسيطرة.
هذا التصور يضع التنظيم في موقع تناقضي صريح مع المفهوم المدني الحديث للأمن، الذي يقوم على حماية الأرواح، وصون الحريات، وبناء بيئة مستقرة للعيش المشترك. فبينما تسعى الدول إلى تنظيم أدواتها الأمنية لضمان السلام المجتمعي، يستثمر داعش مفهوم الأمن في تفكيك هذا السلام ذاته، ويحوّله إلى أداة لتنظيم القتل لا منعه. وبالتالي، يصبح الأمن في خطابه جزءًا من المعركة، لا من مؤسسات الضبط المدني، مما يقلب المفاهيم الأخلاقية والقانونية رأسًا على عقب.
لا ينفصل هذا التصور عن البنية العقائدية للتنظيم، إذ يتم ربط الأمن ربطًا عضويًا بالتكفير والفرز العدائي للعالم. فكل من يقع خارج مشروع التمكين الجهادي يُصنَّف بالضرورة ضمن خانة الأعداء، وتُدرَج مراقبته، والتحري عنه، واستهدافه ضمن صلب العمل الأمني. هذا الانزلاق من فكرة الحماية إلى فكرة الاستهداف يعكس تحوّلًا خطيرًا يجعل من الأمن عقيدة بحد ذاته، عقيدة تؤمن بالعداء، لا بالتعايش، وبالهيمنة، لا بالتوازن، وبالتطهير، لا بالحوار.
يُختزل الأمن في هذا السياق ضمن منطق "الغلبة"، حيث لا قيمة للسلامة أو الاستقرار أو الحقوق، ما لم تُترجَم إلى تقدم ميداني في مشروع السيطرة. وهذا المنطق يُفرغ الأمن من محتواه الإنساني، ويجعله مسرحًا لإعادة إنتاج العنف بأدوات أكثر تنظيمًا وقسوة. فلا يعود الأمن مجالًا تنظيميًا يخدم الفرد، بل يتحوّل إلى ميدان تراكمي للسيطرة، تُكرَّس فيه كل الطاقات بهدف واحد: تمكين الجماعة في معركتها مع العالم، ولو على أنقاض المجتمعات والبشر.
البُعد النفسي والاجتماعي للتربية الأمنية
في جوهرها، تقوم "التربية الأمنية" كما يطرحها تنظيم داعش على غرس ما يُعرف في علم النفس الاجتماعي بـ"الخوف الجمعي المتوارث" أو Collective Paranoia، وهي حالة نفسية تُزرع في وعي الأفراد ضمن جماعة مغلقة، تقوم على فكرة أن العدو حاضر دائمًا، متربص في كل زاوية، ومتخفي حتى في أقرب الناس. هذا الخوف لا يعمل فقط كحاجز خارجي، بل يتحول إلى آلية داخلية تُعيد تشكيل الإدراك والوجدان، بحيث يُعاد تعريف كل علاقة إنسانية – حتى العائلية منها – بوصفها خطرًا أمنيًا محتملًا يجب التحوّط منه أو التبليغ عنه.
هذه الحالة النفسية الجماعية تُفضي إلى تفكك العلاقات الإنسانية داخل التنظيم ذاته؛ حيث يُصبح كل فرد مشكوكًا في ولائه، ويُنظر إلى التساهل أو الخطأ البشري بوصفه مدخلًا للاختراق. وبدلًا من بناء مناخ من الثقة والتكافل، تُنتج هذه التربية أفرادًا مفخخين نفسيًا، يراقبون بعضهم البعض، ويجدون في "الاشتباه" نوعًا من العبادة أو التقوى. وفي هذه البيئة المسمومة بالخوف، يُعاد تشكيل الإنسان ليكون مشروع جلاد أو مخبر، أكثر منه كائنًا قادرًا على التعاطف أو التواصل أو البناء.
انعكاسات هذه التربية على النساء والأطفال
رغم تركيز "التربية الأمنية" عند تنظيم داعش على إعداد الرجل الجهادي بوصفه الفاعل المركزي في منظومة الصراع، إلا أن النساء والأطفال يتلقون نصيبهم الخفي – والمُرعب – من هذا النمط من التنشئة. الأطفال، على وجه الخصوص، يُزرع في وعيهم منذ سن مبكرة أن العالم الخارجي مملوء بالأعداء والمتآمرين، وأن الثقة بأحد خارج "الدولة" هي خيانة مغلّفة. تتحول البراءة الطفولية إلى قشرة رقيقة تغلف ذهنية تشككية، ترتبط فيها كل مظاهر الحياة بالرقابة والخطر والاختراق، ويُشحن الطفل بشعور دائم بالتهديد، يجعله يعيش في حالة تأهب نفسي مزمنة تُؤثر على نموه العاطفي والمعرفي.
أما النساء، فغالبًا ما يُستخدمن كـ"وسائط أمنية" خفية داخل هذا النظام، سواء عبر مراقبة الأزواج أو الإبلاغ عن نساء أخريات أو حتى استدراج الخصوم. يتم تطويع النساء لا بوصفهن فاعلات أمنيات علنيات، بل كأدوات تجسسية مموّهة تُسهم في ترسيخ ثقافة الخوف داخل البيوت والمعسكرات. وبذلك، تتحول علاقة الأم بابنها، والزوجة بزوجها، إلى دائرة مغلقة من الاشتباه والانضباط الصارم، حيث تُختزل الروابط الإنسانية إلى وظائف أمنية، وتُفرغ المشاعر من معناها لصالح طاعة عمياء لمنطق القسوة والارتياب.
نحو تربية أمنية إنسانية لا تكفيرية
تعكس افتتاحية تنظيم داعش الأخيرة تحوّله البنيوي من مجرد كيان جهادي يعتمد العنف في صراعه مع خصومه، إلى ما يشبه جهازًا أمنيًا شموليًا، يعيد تشكيل أفراده نفسيًا وعقليًا ضمن منظومة بوليسية مغلقة. لم يعد الجهاد عند التنظيم مجرد فعل قتالي، بل أصبح مشروعًا رقابيًا داخليًا، يلاحق النوايا والسلوكيات والظنون، ويُخضع الأفراد إلى حالة دائمة من المراقبة والاشتباه. هكذا يُنتج التنظيم إنسانًا "مفخخًا" بالارتياب، مشروط الوعي، لا يعرف الطمأنينة إلا في ظل الطاعة الكاملة والعزلة عن العالم.
ما يفاقم خطورة هذا المسار هو استعانة التنظيم بخطاب ديني يُضفي على منطق القمع شرعية زائفة. فكل سلوك خارج نسق الانضباط الصارم يُعدّ "تقصيرًا شرعيًا"، وكل تهاون في الاجتهاد الأمني يُصنّف "معصية متعدية"، مما يمنح قيادة التنظيم المبرر لتفعيل أدوات التطهير العقابي تحت عباءة دينية. وبهذا يتحول العنف إلى نظام تربوي قائم بذاته، يُعاد تدويره داخل التنظيم نفسه، كما يُفرَغ باتجاه العالم الخارجي، في سلسلة لا تنتهي من الشك والعقاب والانتقام.
أمام هذا النموذج الخطير، لا تكفي المقاربات الأمنية التي تقتصر على تتبّع الأفراد أو تفكيك الخلايا. فمثل هذه التنظيمات تُعاد إنتاجها من داخل بنيتها النفسية والعقائدية. ولهذا فإن التصدي لها يتطلب أولًا تفكيك أدبياتها، وكشف ما تحمله من تشويهات للعقيدة والدين والإنسان. لا بد من فضح الطريقة التي يُختطَف بها الدين ليُستخدم أداة للتحكم والسيطرة، والطريقة التي يُسلب بها الإنسان وعيه وقدرته على التفكير الحر، لصالح مشروع شمولي لا يرى فيه سوى وسيلة لتحقيق التمكين والهيمنة.
في مواجهة هذا الخراب الفكري والأخلاقي، تصبح الحاجة ملحة لإنتاج خطاب تربوي بديل، يُعيد الاعتبار للفرد كقيمة بحد ذاته، لا كأداة قتل أو أداة طاعة. تربية تُعلّم الحذر دون وسواس، والانضباط دون قمع، والانخراط في المجتمع لا الهروب منه. تربية أمنية منفتحة، مدنية، أخلاقية، تحترم الإنسان، وتُصون حقه في الأمن بوصفه شرطًا للحياة لا ذريعة للفناء. وحده هذا الخطاب البديل قادر على تجفيف منابع العنف من جذورها، لا من سطحها.
واخيرا لمواجهة خطاب "التربية الأمنية" الذي يكرّس العنف النفسي والاجتماعي ويغذي ثقافة الارتياب الدائم، لا بد من تبني استراتيجيات عملية تتجاوز مجرد الرد الأمني الضيق. أولًا، يتعين تعزيز خطاب ديني بديل يقوم على قيم الرحمة والتسامح، ويربط بين مفهوم الأمن وحفظ الكرامة الإنسانية بدلاً من القسوة والعنف. هذا الخطاب يجب أن يُقدّم عبر وسائل إعلامية متنوعة ومنصات تواصل حديثة، ليصل إلى الفئات المستهدفة، ويعيد بناء وعي ديني واجتماعي يرفض استغلال الدين كذريعة للعنف والتشدد.
ثانيًا، من الضروري إنتاج مضامين إعلامية توعوية تسلط الضوء على عبثية "الارتياب الدائم" وتأثيره المدمر على الأفراد والمجتمعات، فضلاً عن دعم برامج إعادة التأهيل النفسي والفكري للعائدين من التنظيمات المتطرفة. هذه البرامج لا تعيد فقط تأهيل الأفراد لدمجهم في المجتمع، بل تعمل على تفكيك البنية النفسية التي غرستها التربية الأمنية المتطرفة. وبهذا يمكن بناء مناعة اجتماعية وفكرية تقي من الانزلاق إلى دوامة العنف وسوء الظن التي يسعى التنظيم إلى فرضها كحالة دائمة.