إفريقيا على خط النار: ملاذ داعش الجديد يقترب من أوروبا
الجمعة 08/أغسطس/2025 - 01:56 ص
طباعة

تأتي افتتاحية العدد 507 من صحيفة النبأ، الصادرة عن تنظيم داعش في 7 أغسطس 2025، في سياق إقليمي ودولي يشهد تحولات عميقة على خريطة الإرهاب العالمي، مع انتقال مركز ثقل العمليات الجهادية إلى القارة الإفريقية، خصوصًا في شرق الكونغو وشمال موزمبيق. هذا التحول الجغرافي لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة مباشرة لانحسار نفوذ التنظيم في معاقله التقليدية بالشرق الأوسط، واستغلاله لبيئات هشة أمنيًا وسياسيًا، تسمح له بإعادة ترتيب صفوفه وإعادة إنتاج خطابه التعبوي.
سنبدأ أوّلًا باستعراض السياق العام الذي وُلدت فيه هذه الافتتاحية، مسلطين الضوء على التحولات الميدانية التي مهدت لانتقال مركز الثقل من سوريا والعراق إلى قلب إفريقيا، مع تحليل الظروف السياسية والأمنية التي جعلت من هذه القارة ساحة بديلة لمعارك التنظيم. كما سنبرز كيف ارتبط التوقيت – أغسطس 2025 – بمرحلة إعادة التمركز الاستراتيجي للتنظيم.
بعد ذلك سننتقل إلى تحليل الخطاب والبنية اللغوية للنص، موضحين كيف يستخدم التنظيم أدوات بلاغية ودينية وانتقائية لتأطير العنف كواجب إيماني مطلق، وتقديم المقاتلين كرموز بطولية، مع دمج النصوص المقدسة في سياقات قتالية معاصرة. سيتم تفكيك الآليات اللغوية والسردية التي تسهم في صناعة صورة الحرب الدينية الشاملة، والتي تلغي أي إمكانية للتسوية أو الحوار.
كما سنتناول الأهداف الظاهرة والمضمرة التي تسعى الافتتاحية لتحقيقها، من تحفيز الأنصار على الانضمام إلى الجبهات الإفريقية، مرورًا بإعادة رسم صورة التنظيم كقوة صاعدة، وصولًا إلى الرسائل الاستراتيجية التي تهيئ الأرضية لمرحلة "الغزو العكسي" نحو أوروبا. وسنخصص مساحة لقراءة ما تم تجاهله عمدًا في النص، أي الرسائل المسكوت عنها، بما في ذلك الخسائر الميدانية، والانقسامات الداخلية، والأبعاد الاقتصادية للصراع، والضحايا من المسلمين أنفسهم.
وأخيرًا، سنتوقف عند أثر الخطاب في تنامي التطرف، مبرزين كيف يمكن لهذا النوع من النصوص أن يحفّز "الذئاب المنفردة"، ويعيد تدوير سردية المظلومية، ويوسّع من قاعدة الاستقطاب، بل ويضفي طابعًا بطوليًا على الإرهاب. وسنختتم بملاحظات تضع هذه الافتتاحية في إطارها الأوسع، باعتبارها أداة استراتيجية في المعركة الفكرية التي يخوضها التنظيم، والتي قد يمتد أثرها الأيديولوجي لسنوات، حتى بعد تراجع حضوره الميداني.
السياق العام
تأتي الافتتاحية في ظل مرحلة جديدة من إعادة التمركز الجغرافي للتنظيم، حيث لم تعد جبهات القتال في سوريا والعراق هي العنوان الأبرز لنشاطه، بل أصبحت ساحات إفريقية مثل شرق الكونغو وشمال موزمبيق هي المحور الأساسي للعمليات الميدانية. هذا التوجه لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة قراءة واعية من قبل قيادة التنظيم لمعادلة المخاطر والفرص في المشهد الدولي.
إفريقيا الوسطى والجنوبية اليوم تقدم للتنظيم ما فقده في مناطق نفوذه السابقة: العمق الجغرافي، والفراغ الأمني، والموارد الطبيعية. الصراعات العرقية المزمنة، وضعف سلطة الحكومات المركزية، وغياب التنمية، كلها عناصر خلقت بيئة خصبة لتغلغل المجموعات المسلحة. هنا، يجد داعش الفرصة لتجنيد المقاتلين، وتأسيس معسكرات، وتخزين السلاح، دون التعرض المستمر لنفس مستوى الضربات الجوية أو العمليات الخاصة التي واجهها في العراق وسوريا.
الافتتاحية جاءت في توقيت حساس، إذ يتزامن صدورها مع تراجع القدرات الميدانية للتنظيم في معاقله التاريخية، بفعل العمليات العسكرية المستمرة التي شنتها كل من قوات التحالف والقوات المحلية. في المقابل، تشهد أفرع داعش في إفريقيا، وعلى رأسها فرع "إيتوري" في الكونغو و"كابو ديلغادو" في موزمبيق، حالة من النشاط المتزايد، مدعومة بسلاسل عمليات نوعية ضد القوات الحكومية والمدنيين على حد سواء.
على المستوى الخطابي، استثمرت الافتتاحية هذا الواقع لتوسيع مفهوم "أرض الجهاد"، بحيث لم يعد مقصورًا على مسارح القتال في المشرق العربي، بل بات يشمل ساحات إفريقية تُقدَّم للمؤيدين باعتبارها خطوط الدفاع الأمامية ضد "الغرب الصليبي". هذا التحول في الخطاب يعكس رغبة التنظيم في إقناع جمهوره بأن موازين القوة الميدانية يمكن قلبها من الأطراف البعيدة نحو قلب العالم الغربي.
الأهمية الاستراتيجية لهذا التوجه تكمن في أن إفريقيا بالنسبة لداعش ليست مجرد ملجأ أو جبهة ثانوية، بل مرحلة تحضيرية لعمليات أوسع، حيث تُطرح القارة كساحة انطلاق نحو أوروبا عبر مسارات جغرافية ولوجستية معروفة، خصوصًا في ظل ضعف الرقابة على بعض السواحل والمنافذ الحدودية. هنا، تسعى الافتتاحية لترسيخ فكرة أن القتال في إفريقيا هو استثمار طويل الأمد لمستقبل "الغزو العكسي".
من هذه الزاوية، يمكن قراءة افتتاحية العدد 507 كوثيقة سياسية-عسكرية تُعيد صياغة الخريطة الذهنية للأنصار، فتربط بين النجاة التنظيمية والتمدد الإفريقي، وتمنح العمليات في الكونغو وموزمبيق بعدًا يتجاوز المعارك الموضعية، ليصبح جزءًا من مشروع استراتيجي عالمي، يمتد من الأدغال الإفريقية إلى العواصم الأوروبية.
لماذا اختار داعش الكونغو وموزمبيق كنقاط ارتكاز جديدة:
إقليم إيتوري في شرق الكونغو وكابو ديلغادو في شمال موزمبيق يقعان في مناطق ذات تضاريس معقدة، تشمل غابات كثيفة وسلاسل جبلية وسواحل ممتدة. هذه البيئة الطبيعية تمنح مقاتلي التنظيم ميزة تكتيكية في الاختفاء والتنقل، وتُصعّب على الجيوش النظامية تنفيذ عمليات تمشيط أو ملاحقة فعالة. إضافةً إلى ذلك، فإن قرب موزمبيق من المحيط الهندي يفتح نافذة بحرية نحو طرق تهريب وسفر أقل رقابة مقارنة بالممرات التقليدية.
كلتا المنطقتين تعانيان من هشاشة مؤسسات الدولة، وفساد إداري، ونقص حاد في الموارد الأمنية. هذا الفراغ المؤسسي يجعل من السهل على داعش إنشاء معسكرات تدريب، أو فرض سيطرته على قرى ومناطق ريفية، دون مواجهة مقاومة منظمة أو مستمرة. ضعف التنسيق بين القوات المحلية والقوى الدولية يزيد من قدرة التنظيم على المناورة الميدانية.
إيتوري وكابو ديلغادو غنيّتان بالذهب، والألماس، والغاز الطبيعي. هذه الثروات ليست مجرد خلفية جغرافية، بل هي رافعة مالية أساسية للتنظيم، حيث يمكن استغلالها في تمويل العمليات عبر التهريب أو فرض "ضرائب" على عمليات الاستخراج غير القانونية. السيطرة على هذه الموارد تمنح داعش استقلالية مالية نسبية، تقلل اعتماده على شبكات التمويل التقليدية المهددة بالملاحقة.
المنطقتان تشهدان نزاعات عرقية ودينية قديمة، ما يجعل السكان أكثر عرضة لخطاب التحريض والتجنيد، خصوصًا في ظل التهميش الاقتصادي وغياب الخدمات. التنظيم يستغل هذه التوترات، مقدّمًا نفسه كـ"حامٍ" أو "مدافع" عن فئة معينة، وهو أسلوب مجرّب نجح في اعتماده سابقًا في العراق وسوريا.
موزمبيق تحديدًا تشكل نقطة على خط الهجرة غير النظامية عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر وصولًا إلى شمال إفريقيا، ثم نحو المتوسط. هذا البعد اللوجستي يعزز فكرة "الجهاد العابر للقارات"، حيث يمكن تحويل شبكات التهريب والهجرة إلى ممرات لتسلل عناصر أو تهريب أسلحة نحو السواحل الأوروبية.
رغم وجود قوات أجنبية في بعض هذه المناطق، إلا أن الاهتمام الدولي يظل أقل بكثير مقارنة بسوريا والعراق. الغرب يعتبر هذه الجبهات "ثانوية" أو "هامشية"، وهو ما يمنح داعش فرصة أكبر للتوسع قبل أن يتحول إلى هدف مركزي في الاستراتيجية الغربية لمكافحة الإرهاب.
تحليل الخطاب – البنية واللغة
تقوم افتتاحية العدد 507 على خطاب تحريضي تعبوي، يستند إلى بناء لغوي وأسلوب بلاغي يسعى لتعبئة المؤيدين، وتحفيز المترددين، وترهيب الخصوم. هذا الخطاب يعتمد على مزج النصوص الدينية بالتجربة القتالية الميدانية، وإعادة صياغتها في صورة ملحمية تجعل العنف يبدو وكأنه واجب إيماني محتوم.
أول عناصر هذا البناء هو تأطير الصراع كحرب دينية مطلقة، حيث يستخدم النص ثنائيات قطعية من قبيل "المسلم/الكافر"، "أهل الإسلام/عبدة الصليب"، و"النور/الظلام". هذه الثنائية الصارمة تخلق حدودًا نفسية وعقائدية مغلقة، تمنع أي مساحة للتفاوض أو التسوية، وتجعل الصراع وجوديًا لا يمكن إنهاؤه إلا بإبادة الطرف الآخر أو إخضاعه.
العنصر الثاني يتمثل في إضفاء الشرعية الدينية على العنف. فالافتتاحية توظف اقتباسات قرآنية وأحاديث نبوية، غالبًا مبتورة عن سياقها التاريخي والتشريعي، لتُقدَّم كأدلة قاطعة على أن القتل والتشريد خيارات مشروعة، بل واجبة. هذا الاستخدام الانتقائي للنصوص يُوجَّه للقارئ البسيط أو قليل الثقافة الشرعية ليقتنع بأن ما يراه من مذابح ودماء هو امتثال محض لأوامر إلهية.
العنصر الثالث هو تمجيد العنف بوصفه طريق النصر. الجهاد في النص يوصف بأنه "نور أضاء دروب المؤمنين" و"نار أحرقت أكباد الكافرين". هذا الدمج بين القداسة (النور) والدموية (النار) يخلق صورة وجدانية مزدوجة: فهو في آنٍ واحد فعل تطهيري وروحي، وعمل قتالي مدمر. الهدف من ذلك هو إزالة أي حاجز أخلاقي قد يمنع المؤيد من المشاركة في العنف أو دعمه.
أما العنصر الرابع فهو توظيف السرد البطولي. الافتتاحية ترسم صورة المقاتلين الأفارقة باعتبارهم "فوارس" و"أبطالًا" صابرين، تحمّلوا المحن وقبضوا على "جمر الإيمان". هذا النمط السردي يحول المقاتلين إلى رموز يُحتذى بها، ويُقدَّمون كنموذج إنساني كامل يجمع بين الصلابة الجسدية والتفوق الإيماني، في مقابل عدو يُصوَّر بأنه ضعيف، مهزوم، و"أذلّة صاغرون".
وأخيرًا، يظهر في النص أسلوب تعبئة وجدانية عالية الكثافة، حيث يتم استدعاء مشاعر الغضب، الانتقام، والانتماء الديني، عبر لغة خطابية مليئة بالتكرار، والمبالغة، والرموز التاريخية (مثل استدعاء الأندلس أو الفتوحات الإسلامية). هذه الأدوات مجتمعة تجعل النص ليس مجرد خبر أو تحليل، بل أداة تعبئة فكرية ونفسية، قادرة على تحريك الأتباع نحو الفعل المباشر.
الأهداف الظاهرة والمضمرة
تسعى افتتاحية العدد 507 من النبأ إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الظاهرة التي تُطرح للقارئ بشكل مباشر، وأخرى مضمرة لا يصرح بها النص، لكنها حاضرة في بنيته الخطابية ومساره السردي.
أول الأهداف الظاهرة هو تحفيز أنصار التنظيم على الانضمام لجبهات إفريقيا. النص يقدّم الكونغو وموزمبيق كميدان جهاد جديد ومثمر، مليء بفرص "الاستشهاد" والانتصار، في محاولة لإغراء المقاتلين المحتملين بالهجرة إلى هذه المناطق. هذا التحفيز يعتمد على استدعاء الصور البطولية للمقاتلين الأفارقة وتضخيم إنجازاتهم العسكرية.
الهدف الثاني الظاهر هو إظهار أن المعركة تسير لصالح "المجاهدين". يتم ذلك عبر انتقاء أحداث محددة، وتجاهل الخسائر أو النكسات، لخلق انطباع أن التنظيم في موقع قوة، وأنه يحقق مكاسب ميدانية متواصلة. هذه الصورة الإيجابية المبالغ فيها تخدم رفع الروح المعنوية للأتباع، وتكسر أي شعور بالإحباط بعد تراجع التنظيم في سوريا والعراق.
الهدف الثالث الظاهر يتمثل في تشويه صورة المؤسسات الدولية وحقوق الإنسان، عبر وصفها بأنها منحازة لـ"الصليبيين"، وأنها لا تتحرك إلا إذا كان الضحايا من المسيحيين أو اليهود، بينما تصمت عن مآسي المسلمين. هذا الطرح يُستخدم لترسيخ فكرة أن العالم بأسره معادٍ للمسلمين، وبالتالي فإن القتال ضده واجب شرعي وأخلاقي.
أما على مستوى الأهداف المضمرة، فيبرز أولًا نقل مركز الثقل الإعلامي من الشرق الأوسط إلى إفريقيا. فالنص يسعى لتثبيت صورة أن إفريقيا أصبحت ساحة الجهاد المركزية، بما يسهم في جذب التمويل والمقاتلين إلى مناطق أقل تعرضًا للضربات الجوية والاستخباراتية الغربية، ويتيح للتنظيم فرصة إعادة تنظيم صفوفه بعيدًا عن ضغط التحالفات الدولية.
الهدف المضمن الثاني هو إعادة تفعيل خطاب "الغزو العكسي" لأوروبا، حيث يتم تصوير إفريقيا كنقطة انطلاق استراتيجية نحو العواصم الغربية. هذه الرسالة تمثل دعوة صريحة للمقاتلين إلى التفكير في نقل المعركة من الأطراف إلى قلب أوروبا، على غرار هجمات باريس وبروكسل ولندن في العقد الماضي.
وأخيرًا، يسعى النص إلى بناء أسطورة "القدوة الإفريقية"، عبر تصوير المقاتلين في القارة بأنهم أكثر "صفاءً" وتمسكًا بالنهج الجهادي الصحيح، لأنهم – وفق خطاب داعش – بعيدون عن الخلافات السياسية والانقسامات الداخلية التي أضعفت فروع التنظيم الأخرى. هذه الأسطورة تُستخدم لتقديم الميدان الإفريقي كمدرسة جديدة للجهاد العالمي، يمكن أن تُستنسخ تجربتها في مناطق أخرى مستقبلاً.
الرسائل المسكوت عنها
رغم كثافة الخطاب التحريضي في افتتاحية العدد 507 من النبأ، فإن النص يتعمد إغفال جملة من الحقائق الميدانية والسياسية التي يمكن أن تضعف السردية الدعائية للتنظيم، وهو ما يجعل "المسكوت عنه" في كثير من الأحيان أكثر أهمية مما يُقال صراحة.
أول ما يتجاهله النص هو الواقع الميداني الفعلي، إذ لا يرد أي ذكر للخسائر الكبيرة التي يتكبدها داعش في إفريقيا على أيدي القوات المحلية المدعومة من بعثات دولية، مثل قوات حفظ السلام والجيشين الموزمبيقي والكونغولي. في الحقيقة، تشهد بعض المناطق التي يروج التنظيم لانتصاراته فيها انسحابات متكررة لعناصره، وفقدانًا لمراكز كان قد سيطر عليها قبل أشهر.
ثانيًا، يتغاضى النص عن الانقسام الداخلي بين الجماعات الجهادية، ولا سيما التنافس الدموي بين داعش وتنظيم القاعدة في نفس الجغرافيا الإفريقية. هذا الصراع لا يستهلك فقط الموارد البشرية واللوجستية، بل يؤدي أيضًا إلى عمليات اغتيال متبادلة، وانهيار التحالفات المحلية، وهو ما يتعارض مع الصورة التي يحاول النص رسمها عن "وحدة صف المجاهدين".
ثالثًا، تتعمد الافتتاحية إغفال حقيقة الضحايا المسلمين. فعلى أرض الواقع، نسبة كبيرة من ضحايا الهجمات التي ينفذها التنظيم في موزمبيق والكونغو هم من المسلمين، سواء من المدنيين أو من القوات المحلية التي تضم مقاتلين مسلمين. هذا الصمت يخدم هدفًا واضحًا: تجنب إثارة الشكوك أو التناقضات الأخلاقية لدى جمهور التنظيم الذي يتلقى الخطاب على أنه دفاع عن المسلمين.
رابعًا، لا يذكر النص البعد الاقتصادي للصراع، إذ يقدَّم كل عمل قتالي على أنه "نصرة للدين"، بينما تكشف تقارير ميدانية أن جزءًا من هذه العمليات يستهدف السيطرة على مناجم الذهب والأحجار الكريمة وطرق التهريب الحيوية. هذه الموارد تشكل شريانًا اقتصاديًا للتنظيم، لكنها تتعارض مع الصورة المثالية التي يحاول رسمها عن "جهاد نقي" لا تحركه المكاسب المادية.
وأخيرًا، يُسكت النص عن التحديات اللوجستية والضغط الدولي المتزايد. فالتنظيم في إفريقيا يواجه حصارًا متعدد الأبعاد، من نقص الإمدادات إلى تعقب قياداته بواسطة تقنيات المراقبة الحديثة. غير أن أي إشارة إلى هذه التحديات قد تضعف الرسالة التعبوية، لذا تُستبعد تمامًا من الخطاب لصالح مشاهد النصر والبطولة المبالغ فيها.
أثر الخطاب في تنامي التطرف
أول أثر مباشر لهذا الخطاب هو تحفيز "الذئاب المنفردة" في الغرب. حين يربط النص بين المعركة في إفريقيا وفكرة "غزو أوروبا"، فإنه يرسل رسالة مشفرة لأنصار التنظيم المقيمين في العواصم الغربية، مفادها أن بإمكانهم أن يكونوا جزءًا من هذه الحرب حتى دون السفر. هذا الربط يحوّل أي شارع في باريس أو برلين أو لندن إلى "ساحة جهاد" محتملة، ويمنح المهاجمين المحتملين شعورًا بأن عملياتهم الفردية امتداد مباشر لـ"النصر الإفريقي".
الأثر الثاني يتمثل في إعادة تدوير سردية "المظلومية الانتقامية". فالنص يقارن بين "مجازر فلسطين" وما يسميه "الدم الصليبي المسفوك في إفريقيا"، ليصنع رابطًا عاطفيًا يوحد جراح المسلمين في أذهان المتلقين. هذا الأسلوب يوظَّف لإثارة الغضب وإضفاء شرعية على أعمال القتل باعتبارها "ردًّا عادلًا" على الظلم، مما يختصر التعقيدات السياسية والتاريخية في معادلة انتقامية بسيطة يسهل تبنيها.
الأثر الثالث هو ترسيخ نموذج الجهاد المعولم. النص يتعمد عدم الحديث عن قومية أو حدود جغرافية، بل يصف الجهاد كساحة مفتوحة تمتد من الكونغو إلى باريس، ومن موزمبيق إلى روما. هذا التصور يذيب الانتماءات الوطنية أو الإقليمية، ويخلق إحساسًا بالانتماء إلى "أمة جهادية" واحدة، تتجاوز كل الفوارق السياسية واللغوية.
الأثر الرابع هو توسيع دائرة الاستقطاب. فبفضل لغة دينية مكثفة ومشحونة بالعاطفة، يمكن أن يتأثر بهذا الخطاب الشباب المهمشون، أو ذوو الثقافة الدينية السطحية، ممن يبحثون عن هوية أو قضية كبرى ينخرطون فيها. الخطاب يقدم لهم إطارًا واضحًا: هناك عدو مطلق، وهناك مهمة مقدسة، وهناك مكان لك في المعركة، بغض النظر عن خلفيتك أو قدراتك.
الأثر الخامس هو إضفاء الطابع البطولي على الإرهاب. إذ يتم تصوير العمليات المسلحة على أنها أعمال فروسية وشرف، والمقاتلين على أنهم حماة العقيدة و"سيوف الحق". هذا التأطير يجعل الانخراط في العنف يبدو، لا كمخالفة قانونية أو أخلاقية، بل كعمل نبيل يتجاوز كل القوانين الوضعية.
وأخيرًا، يسهم هذا الخطاب في إعادة إنتاج بيئة فكرية مغلقة، حيث يتم استبعاد أي روايات بديلة أو أصوات ناقدة، وتقديم تفسير واحد "صحيح" للأحداث. هذه البيئة تجعل المتأثرين بالخطاب أكثر عرضة لتبني الفكر المتطرف، وأقل قابلية للتأثر بجهود مكافحة التطرف أو المبادرات التي تقدم رؤى مختلفة.
ملاحظات ختامية
افتتاحية النبأ في عددها 507 لا يمكن قراءتها كخبر ميداني محايد أو مجرد رصد للأحداث في إفريقيا، بل هي نص دعائي متكامل يعمل كأداة تعبئة استراتيجية. من خلال بنيتها اللغوية وخطها السردي، تسعى الافتتاحية إلى توجيه الوعي الجهادي وإعادة تشكيل أولويات الأتباع بما يتناسب مع أجندة التنظيم في مرحلته الحالية.
أحد الأهداف المركزية للنص هو إعادة إنتاج صورة "المجاهد النقي"، في مقابل تصوير "المسلم المفرّط" أو غير الملتزم كضعيف وخاذل. هذه الثنائية تمنح المقاتل قيمة أخلاقية عليا، وتضعه في مرتبة القدوة، بينما تجعل غير المنخرط في القتال عرضة للوم والازدراء. بهذه الطريقة، يضغط الخطاب على الأفراد للانضمام أو على الأقل دعم المشروع الجهادي.
كما تسعى الافتتاحية إلى إحياء مفهوم "الفتوحات"، بوصفها امتدادًا لتاريخ مثالي متخيل، حيث كانت جيوش المسلمين – وفق السردية الدعائية – تنتصر دائمًا وتوسع رقعة الإسلام. هذا الإطار التاريخي الانتقائي يُسقط على الواقع المعاصر، ليجعل المعارك في الكونغو أو موزمبيق جزءًا من مسار تاريخي واحد، لا من أحداث معزولة أو ظرفية.
النص يوظف أيضًا الاقتباس القرآني المبتور عن سياقه لدمجه في إطار سياسي-عسكري معاصر، بحيث يصبح النص المقدس أداة لإضفاء شرعية دينية على العنف. هذا المزج بين النص القرآني والعمليات المسلحة يمنح القتال بعدًا روحانيًا زائفًا، ويُخفي خلفه المصالح المادية أو الحسابات التكتيكية التي قد تحرك التنظيم.
تحليل هذا الخطاب يكشف أن خطر داعش تجاوز الجغرافيا الميدانية التي يسيطر عليها. فالتنظيم بات يعمل في فضاء رمزي وفكري مفتوح، حيث يمكن أن تصل رسائله إلى جمهور عالمي من خلال الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي. هذا الاتساع يعني أن التهديد لم يعد مرتبطًا بوجود معسكرات أو مناطق نفوذ، بل بأفكار وصور ذهنية قادرة على السفر عبر الحدود بلا عوائق.
وفي النهاية، يوضح هذا النمط من النصوص أن الخطر الأيديولوجي للتنظيم قد يكون أطول عمرًا من وجوده العسكري. فالنصوص التحريضية، إذا لم تواجه بخطاب بديل قوي، يمكن أن تتحول إلى وقود أيديولوجي يغذي أي حركة متطرفة لاحقًا، حتى تلك التي لا ترتبط بداعش مباشرة. في عالم مفتوح إعلاميًا، تصبح المعركة ضد التطرف معركة أفكار قبل أن تكون معركة ميدان.