الإرهاب بلا رصاص.. كيف حول المتشددون الوقود إلى سلاح في حرب جديدة على مالي

الثلاثاء 14/أكتوبر/2025 - 12:10 م
طباعة الإرهاب الإرهاب محمود البتاكوشي
 


انتقلت الحرب في مالي من الميدان العسكري وحده، إلى عمق الاقتصاد اليومي، حيث أصبح الوقود لا السلاح هو الأداة الجديدة للابتزاز والضغط فبعد سنوات من المواجهات المسلحة بين الجيش المالي والتنظيمات الإرهابية، تغيرت ملامح المعركة جذريًا من مواجهة البنادق إلى حرب صامتة تخاض على الطرقات وبين شاحنات الإمداد، في محاولة لخنق الدولة من شريانها الاقتصادي الأهم.
في قلب الصحراء المالية، اختار المسلحون تكتيكًا أكثر قسوة ودهاء، مستهدفين خطوط الإمداد بين كايس وسيغو، ومحولين الشاحنات إلى رموز جديدة للمعركة إحراق ناقلات الوقود وتعطيل الطرق الدولية أدى إلى شلل في الحركة التجارية، وتحولت محطات العاصمة باماكو إلى طوابير انتظار طويلة يجسد فيها المواطنون صمودًا مدنيًا أمام ما وصفه الخبراء بـ«الإرهاب الاقتصادي».
لم يعد الهدف إسقاط موقع عسكري أو احتلال منطقة نائية، بل إحداث انهيار تدريجي في منظومة الدولة من خلال تجفيف موارد الطاقة وتعطيل حركة الأسواق وهو تكتيك يعكس تحول التنظيمات المتطرفة نحو ما يسميه الباحثون «الحرب غير المتكافئة» – أي ضرب الدولة في نقاط ضعفها الحيوية بدلًا من مواجهة قوتها العسكرية المباشرة.
 
كيف تحول الإرهاب إلى حصار اقتصادي
العمليات الأخيرة التي استهدفت شاحنات الوقود على الطرق بين مالي والسنغال لم تكن عشوائية، بل جزء من استراتيجية محكمة تهدف إلى خنق العاصمة وخلق أزمة داخلية خانقة الخوف من الهجمات دفع العشرات من السائقين إلى التوقف في المناطق الحدودية، خاصة في ديبولي، مما فاقم نقص الإمدادات وأشعل السوق السوداء.
وبينما عاشت المدن الداخلية مثل موبتي وكيتا ونورو انقطاعات حادة في الوقود والكهرباء، شهدت باماكو انفجارًا في الأسعار تجاوز 1500 فرنك إفريقي للتر الواحد، ما انعكس على النقل والإنتاج وحتى الخدمات الصحية.
 
حماية الوقود كحماية السيادة
أمام هذا الوضع المعقد، تبنت الحكومة المالية مقاربة جديدة في إدارة الأزمة، قوامها تحويل الدفاع عن الإمدادات إلى مسألة أمن قومي فقد اعتبرت قوافل الوقود التي دخلت العاصمة تحت حراسة الجيش رسائل رمزية وسياسية في آن واحد:
أن الدولة، رغم الجراح، ما زالت قادرة على الفعل، وأن السيادة لا تقاس فقط بامتلاك الأرض، بل أيضًا بالقدرة على حماية الموارد الحيوية التي تبقي الدولة حية.
أطلقت السلطات الانتقالية خطة طوارئ شملت:
تأمين القوافل العسكرية للوقود والسلع الحيوية 
إنشاء مخازن استراتيجية في الأقاليم الداخلية لتفادي تكرار الأزمة 
ملاحقة تجار السوق السوداء وتشديد الرقابة على الأسعار 
تفعيل الاحتياطي الوطني للطاقة لتغطية العجز المؤقت
 
وفي مشهد رمزي قوي، بث التلفزيون الرسمي وصول أكثر من 300 شاحنة وقود إلى باماكو في قافلة محروسة عسكريًا، وصفها المواطنون بأنها "جرعة أوكسجين" بعد أسابيع من الخنق الاقتصادي
 
من الإرهاب المسلح إلى الإرهاب الاقتصادي
يرى الخبراء أن الأزمة الأخيرة كشفت عن تطور نوعي في أداء الجماعات المسلحة التي أدركت أن المعركة مع الدولة لا تربح بالسلاح فقط فبعد أن فقدت السيطرة على عدد من المناطق الاستراتيجية، اتجهت إلى ضرب الاقتصاد الوطني لإحداث ضغط شعبي على الحكومة الانتقالية وإضعاف ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة.
ويشير محللون سياسيون إلى أن هذه الحرب «الصامتة» تمثل اختبارًا لقدرة الدولة على الصمود المؤسسي، إذ لم يعد التحدي في الدفاع عن الحدود فقط، بل في ضمان استمرار تدفق الخدمات والسلع الأساسية.
 كما أكد خبراء في شؤون الساحل الإفريقي أن استجابة الحكومة السريعة، عبر إدارة الأزمة ميدانيًا وتأمين الإمدادات، تعكس تطورًا واضحًا في كفاءة الدولة وقدرتها على احتواء الأزمات المعقدة، رغم ضعف البنية التحتية والعقوبات الدولية المفروضة عليها منذ الانقلاب الأخير. 

أزمة مركبة ومعركة بوجهين

الأزمة في جوهرها ليست مجرد نقص في الوقود، بل صراع على بقاء الدولة ذاتها فهي تكشف عن هشاشة الاقتصاد الوطني المعتمد على طرق إمداد خارجية، وعن قدرة التنظيمات المتطرفة على استغلال هذه الثغرات لتحقيق أهداف سياسية.
ومع ذلك، فإن إدارة باماكو للأزمة أظهرت إرادة سياسية واضحة في مواجهة ما يمكن تسميته «الابتزاز الطاقي»، عبر الجمع بين الرد العسكري السريع والسياسات الاقتصادية الوقائية.
ورغم عودة الإمدادات تدريجيًا، تبقى الأزمة إنذارًا مبكرًا بأن معركة مالي المقبلة لن تكون فقط ضد الجماعات الإرهابية، بل ضد منظومة معقدة من التهديدات الاقتصادية واللوجستية التي تستهدف نسيج الدولة واستقرارها.

شارك