لماذا غابت القدس ..عن برنامج رحلة بابا الفاتيكان للشرق ؟

الإثنين 01/ديسمبر/2025 - 11:56 ص
طباعة لماذا غابت القدس روبير الفارس
 
في زيارة تحمل رمزية سياسية وروحية فائقة، وتأتي في لحظة إقليمية معقدة، قام البابا لاون الرابع عشر بزيارة رسمية إلى كل من تركيا ولبنان، في خطوة تعكس حرص الفاتيكان على تعزيز الحوار بين الأديان، ودعم الوجود المسيحي المشرقي، وإعادة التذكير بأهمية بناء الجسور بين الشرق والغرب. الزيارة، التي لاقت اهتمامًا عالميًا واسعًا، بدت أقرب إلى رسالة استراتيجية شاملة، تتناول قضايا الحريات الدينية، والعيش المشترك، وتوازنات المنطقة، إضافة إلى دعم مساعي الاستقرار في البلدان التي تتقاطع فيها السياسة والطوائف والهويات. وفي الوقت الذي شمل فيه برنامج البابا محطات أساسية في أنقرة وإسطنبول وبيروت وبكركي، فإن غياب القدس عن مسار الرحلة كان لافتًا، وأثار موجة من التحليلات التي تناولت أبعاد القرار ومدى ارتباطه بالتوترات المحيطة بالمدينة، وبالرسائل غير المباشرة التي أراد الفاتيكان إيصالها. تركيا… جاءت زيارة البابا إلى تركيا في سياق تتشابك فيه الدلالات السياسية والدينية. فالبلد ذو الأغلبية المسلمة يحوي تراثًا مسيحيًا عريقًا، ويستضيف مقر البطريركية المسكونية في إسطنبول، ما يجعله نقطة ارتكاز أساسية للحوار المسيحي–المسيحي، والبحث عن سبل التقارب بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية. وفي إسطنبول، كان لقاء البابا بالبطريرك المسكوني من أبرز لحظات الزيارة، حيث ألقى الجانبان كلمات تشدد على عمق الروابط التاريخية بين الكنائس، وعلى الحاجة إلى وحدة المسيحيين أمام ما تواجهه المنطقة من صراعات. وأكد البابا خلال اللقاء أن "الشرق الأوسط يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أصوات تؤمن بالحوار وترفض منطق العنف والهيمنة". على المستوى السياسي، حملت زيارة البابا لأنقرة إشارات واضحة حول أهمية الحريات الدينية وضرورة تعزيز حقوق الأقليات، وخاصة المسيحيين الأتراك الذين يعيشون في سياق حساس منذ عقود. وقد ركز البابا في خطابه أمام المسؤولين الأتراك على قيمة المواطنة المتساوية واحترام التنوع، وهو خطاب يتناغم مع رغبة تركيا في تحسين صورتها الحقوقية أمام المجتمع الدولي. كما شكلت قضايا اللاجئين السوريين والعراقيين محورًا مهمًا في اللقاءات، حيث أثنى البابا على الجهود الإنسانية التي تبذلها تركيا، داعيًا المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته بدل ترك دول الجوار وحدها تواجه أزمات التهجير. وعكست زيارة البابا لتركيا أيضًا إدراك الفاتيكان للدور المحوري لأنقرة في ملفات إقليمية حساسة، خصوصًا في سوريا والعراق والقوقاز، ولذا بدا الخطاب البابوي داعمًا لكل ما يمكن أن يخفف التوترات، ويقلل من انتشار التطرف والكراهية، ويعيد المنطقة إلى مسار الاستقرار
 لبنان
على الجانب الآخر، شكّل لبنان المحطة الأكثر حساسية وروحية في زيارة البابا، وهو البلد الذي يعتبره الفاتيكان مركزًا أساسيًا للحضور المسيحي في الشرق الأوسط ومختبرًا فريدًا للتعايش الطائفي والسياسي. حيث وصل البابا إلى بيروت وسط أجواء سياسية واجتماعية مأزومة، نتيجة الانهيار الاقتصادي وتراجع الخدمات الأساسية، وهجرة مئات الآلاف. ولهذا جاءت كلماته محمّلة برسائل دينية وإنسانية تتعلق بضرورة صون الكرامة، واحترام الدستور، والحفاظ على صيغة التعايش اللبنانية. وفي لقائه مع القيادات اللبنانية، جدد البابا التأكيد على أهمية العيش المشترك، واعتبار لبنان "رسالة" للعالم، حسب عبارة البابا يوحنا بولس الثاني الشهيرة. وشدد على ضرورة عدم زج البلاد في صراعات المحاور، ودعا إلى حماية مؤسسات الدولة، وإلى تجديد الثقة بوحدة الوطن. داعيًا اللبنانيين إلى استعادة ثقتهم بأنفسهم وبوطنهم. وقد لاقت الزيارة صدى كبيرًا لدى المسلمين والمسيحيين على السواء، إذ اعتبرت القوى الإسلامية حضور البابا مؤشرًا على رغبة عالمية في دعم الاستقرار اللبناني والحوار بين الأديان. الأبعاد الاجتماعية و السياسة
حملت الزيارة بعدًا اجتماعيًا مؤثرًا، خصوصًا في وقت يواجه فيه المسيحيون في الشرق ضغوطًا متزايدة. وشكلت الزيارة دعمًا معنويًا مباشرًا للمجتمعات المسيحية في المنطقة، حيث شدد البابا في أكثر من مناسبة على أن "المسيحيين ليسوا غرباء عن الشرق، فهم جزء من نسيجه التاريخي". هذا الخطاب أراح الكثير من الكنائس المحلية التي تخشى تراجع حضورها بفعل الهجرة وتوتر العلاقات الطائفية.كما أن اجتماعات البابا مع القيادات الدينية المسلمة في تركيا ولبنان مثلت ركيزة أساسية للزيارة. فقد برزت رسائل تدعو إلى مواجهة خطاب الكراهية، وإلى تقديم الدين كجسر للتقارب بدل التحريض. كما دعا البابا إلى حماية دور العبادة، وإلى تعزيز المفاهيم المشتركة بين الأديان حول الكرامة الإنسانية والعدالة والسلام. واطلع البابا خلال جولاته على عدد من مشاريع الرعاية الاجتماعية والتعليمية التي تديرها الكنائس، خصوصًا في لبنان، حيث تشكل هذه المؤسسات شبكة أمان أساسية للطلاب والأسر في ظل الانهيار الاقتصادي. وأشاد بدور المدارس والجامعات والمستشفيات المسيحية، معتبرًا أنها "خدمة للإنسان قبل أن تكون عملاً كنسيًا
. لماذا غابت القدس ؟
رغم الرمزية الخاصة للقدس في الوعي المسيحي، فإن البابا لم يتوجه إليها ضمن رحلته. وقد أثار هذا القرار تساؤلات واسعة، خصوصًا أن الباباوات اعتادوا إدراج المدينة في زيارات مماثلة. السبب الأول يتعلق برغبة الفاتيكان في عدم تسييس الزيارة. فالقدس مدينة محتلة، وزيارة البابا لها تتطلب تنسيقًا مباشرًا مع السلطات الإسرائيلية، ما قد يُفهم كاعتراف أو كقبول بواقع سياسي خلاف عليه. ولذا فضل الفاتيكان تجنب الدخول في هذا الجدل، خاصة في ظل التوترات الحالية. كما أن الكنائس الشرقية في فلسطين تفضل غالبًا أن تتم الزيارات في ظروف سياسية أكثر عدالة، حتى لا تُستغل لصالح طرف من دون آخر. ويبدو أن الفاتيكان أخذ برأي هذه الكنائس التي تخشى من أن تتحول الزيارة إلى رسالة خاطئة. ويرى محللون أن غياب القدس عن الزيارة هو رسالة تضامنية غير معلنة مع الفلسطينيين، ومع الوجود المسيحي في الأراضي المقدسة الذي يتعرض لضغوط متزايدة. فالفاتيكان يريد لمنصبه الروحي ألا يُستخدم لتبرير سياسات سياسية أو عسكرية.واشارات مصادر كنسية إلى أن البابا سيزور القدس في “الوقت المناسب”، في إشارة إلى أن الفاتيكان ينتظر ظرفًا سياسيًا يسمح بزيارة أكثر حيادية وعدالة. 

شارك