في ظل التحولات الأمنية المتسارعة في
جنوب آسيا، تبرز باكستان بوصفها إحدى الساحات الأكثر تأثراً بتمدّد التنظيمات
المتطرفة العابرة للحدود، وعلى رأسها تنظيم داعش – ولاية خراسان. فرغم الضربات
الأمنية المتلاحقة التي تعرّض لها التنظيم خلال السنوات الأخيرة، لا يزال يشكّل
تهديداً معقداً ومتعدد الأبعاد للأمن الوطني الباكستاني والاستقرار الإقليمي ككل.
ويكشف تقرير حديث صادر عن الأمم المتحدة عن ملامح هذا التهديد، مسلطاً الضوء على
النجاحات الاستخباراتية الباكستانية من جهة، وعلى حجم التحديات القائمة
والمستقبلية من جهة أخرى، في سياق صراع مفتوح مع تنظيم يمتلك قدرة عالية على
التكيّف وإعادة التموضع.
يشير التقرير السادس عشر لفريق الأمم
المتحدة للدعم التحليلي ورصد العقوبات إلى تطور لافت تمثل في إلقاء أجهزة
الاستخبارات الباكستانية القبض على سلطان عزيز أعظم، المعروف باسم “عزام”، المتحدث
باسم تنظيم داعش – خراسان ومؤسس جناحه الإعلامي. ووفقاً للتقرير، جرى اعتقال عزام في وقت سابق في عملية وُصفت بأنها ضربة نوعية استهدفت أحد العقول المحرّكة
للآلة الدعائية للتنظيم. ولا تكمن أهمية هذا الاعتقال في البعد الرمزي فقط، بل في
تأثيره العملي المباشر على قدرة التنظيم على التجنيد والتعبئة ونشر الأيديولوجيا
المتطرفة.
يوصف سلطان عزيز أعظم في تقرير الأمم
المتحدة بأنه المؤسس الفعلي للجناح الإعلامي لتنظيم داعش – خراسان، المعروف باسم
“منظمة العزيمة”، وهي المنصة التي اضطلعت بدور محوري في إنتاج ونشر المواد
الدعائية، وتنسيق الحملات الإعلامية، واستقطاب عناصر جديدة من داخل باكستان
وخارجها. وقد مثّلت هذه المنظمة، على مدى سنوات، العمود الفقري لخطاب التنظيم
الإعلامي، وساهمت في تعزيز حضوره الرقمي وتوسيع دائرة تأثيره، لا سيما بين الفئات
الشابة القابلة للاستقطاب عبر الفضاء الإلكتروني.
تفكيك البنية الدعائية
يوضح تقرير الأمم المتحدة أن اعتقال
عزام أسفر عن تعليق فعلي للأنشطة الإعلامية لتنظيم داعش – خراسان، بما في ذلك
إغلاق منصات دعاية رئيسية مثل “صوت خراسان”، التي كانت تعد من أبرز القنوات
الناطقة باسم التنظيم. ويعكس هذا التطور حجم الاعتماد الذي كان التنظيم يضعه على
القيادة الإعلامية المركزية، ويشير إلى هشاشة البنية الدعائية حين تُستهدف مفاصلها
الأساسية. فالإعلام، بالنسبة لتنظيم داعش، لم يكن مجرد أداة ترويجية، بل وسيلة
استراتيجية لإدارة الصراع، وبث الخوف، وتضخيم الإنجازات، وتبرير الهجمات، وخلق
سردية عابرة للحدود.
ويذهب التقرير إلى أبعد من ذلك، مشيراً
إلى أن الإجراءات التي اتخذتها باكستان لم تقتصر على إضعاف فرع خراسان محلياً، بل
أسهمت في إضعاف أوسع للهيكل التنظيمي لداعش على المستوى العالمي. ويعكس هذا
التوصيف إدراكاً دولياً متزايداً لأهمية الدور الباكستاني في الحرب على الإرهاب،
خصوصاً في ظل الموقع الجغرافي الحساس للبلاد، وتداخل مسارح العمليات بين باكستان
وأفغانستان.
وبحسب تقرير الأمم المتحدة، أدت
الضربات الأمنية إلى إحباط العديد من الهجمات التي كان التنظيم يخطط لتنفيذها، كما
تراجع عدد المقاتلين بشكل ملحوظ، نتيجة عمليات الاعتقال والتحييد والاستهداف
المباشر. ويضيف التقرير أن عدداً من كبار القادة والزعماء الأيديولوجيين تم
تحييدهم، ما أسهم في إرباك القيادة المركزية للتنظيم وإضعاف قدرته على التخطيط
طويل الأمد. ويبرز هنا أيضاً اعتقال زعيم بارز آخر هو أبو ياسر التركي، الذي كان
يشغل موقعاً مؤثراً في الهيكل القيادي، حيث أدى اعتقاله إلى تقليص كبير في القدرة
العملياتية لداعش – خراسان.
غير أن هذه النجاحات، على أهميتها، لا
تعني نهاية التهديد. فالتجربة مع تنظيم داعش في مناطق أخرى من العالم أظهرت أن
التنظيم قادر على إعادة إنتاج نفسه بأشكال مختلفة، مستفيداً من الفراغات الأمنية،
والنزاعات المحلية، والهشاشة الاجتماعية والاقتصادية. وفي الحالة الباكستانية،
تتداخل عوامل داخلية وإقليمية تجعل من مهمة القضاء الكامل على التنظيم تحدياً بالغ
التعقيد.
التهديدات العابرة للحدود
يسلط تقرير الأمم المتحدة الضوء على
بعد آخر لا يقل خطورة، يتمثل في الهجمات العابرة للحدود داخل باكستان، والتي نُفذت
في الغالب من الأراضي الأفغانية. ورغم أن هذه الهجمات نُسبت بشكل أساسي إلى حركة
طالبان باكستان المحظورة، إلا أن وجود تنظيم داعش – خراسان في البيئة نفسها يخلق
تداخلاً معقداً بين التنظيمات المسلحة، ويزيد من صعوبة المشهد الأمني. فالتنافس
بين هذه الجماعات لا يمنع أحياناً حدوث تقاطعات تكتيكية، أو استغلال متبادل
للثغرات الحدودية، ما يضاعف من التهديدات الموجهة للدولة الباكستانية.
ويصف تقرير الأمم المتحدة هذه القضية
بأنها “أكبر تهديد قصير الأجل” للاستقرار الإقليمي، في إشارة واضحة إلى خطورة
استمرار النشاط المسلح العابر للحدود، وتأثيره على أمن باكستان والدول المجاورة.
فحدود باكستان الطويلة والمعقدة مع أفغانستان، إلى جانب الطبيعة الجبلية الوعرة للمناطق
الحدودية، توفّر بيئة مناسبة لتحركات الجماعات المتطرفة، وتفرض أعباءً إضافية على
الأجهزة الأمنية.
ويكشف التقرير أيضاً عن الخلفية
المتشعبة لبعض قيادات داعش – خراسان، إذ يشير إلى أن سلطان عزيز أعظم عمل في
السابق كمستشار لمجلس ولاية ننكرهار في أفغانستان، قبل أن ينتقل إلى لعب دور محوري
في الجناح الإعلامي للتنظيم. وتعكس هذه السيرة قدرة التنظيم على استقطاب عناصر
تمتلك خبرات سياسية أو إدارية سابقة، وتوظيفها في خدمة مشروعه المتطرف، سواء في
المجال العسكري أو الإعلامي أو الدعائي.
وفي السياق ذاته، يبرز التهديد الذي
يشكله الخطاب الأيديولوجي للتنظيم، والذي لا يزال يجد صدى في بعض البيئات الهشة،
مستفيداً من الإحباطات الاجتماعية والاقتصادية، ومن الصراعات الطائفية والسياسية.
فرغم تراجع القدرة الإعلامية لداعش – خراسان عقب اعتقال عزام، إلا أن خطر عودة هذا
الخطاب بوسائل جديدة، أو عبر منصات بديلة، يظل قائماً، خاصة في عصر الإعلام الرقمي
والاتصال السريع.
إن التهديد الذي يمثله تنظيم داعش في
باكستان لا يمكن اختزاله في عدد الهجمات أو في أسماء القادة المعتقلين، بل هو
تهديد مركّب يشمل البعد الأمني والفكري والإقليمي. فنجاح باكستان في توجيه ضربات
موجعة للتنظيم، كما وثّقها تقرير الأمم المتحدة، يُعد إنجازاً مهماً يعكس تطور
القدرات الاستخباراتية والتنسيق الأمني. غير أن الحفاظ على هذا الزخم يتطلب
استراتيجية شاملة تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية، لتشمل معالجة جذور التطرف،
وتعزيز التعاون الإقليمي، وضبط الحدود، ومكافحة الدعاية المتطرفة على المدى
الطويل.
وفي ضوء ما تقدم، يمكن القول إن
باكستان تقف اليوم عند مفترق طرق في مواجهتها مع تنظيم داعش – خراسان. فإما أن
تُترجم النجاحات الأخيرة إلى مسار مستدام يحد من قدرة التنظيم على إعادة بناء
نفسه، وإما أن ينجح الأخير، كما فعل في تجارب سابقة، في التكيّف والعودة بأشكال
جديدة. وبين هذين الخيارين، يبقى الأمن الإقليمي مرهوناً بقدرة الدول المعنية، وفي
مقدمتها باكستان، على تحويل الضربات التكتيكية إلى مكاسب استراتيجية طويلة الأمد.