في السنوات الأخيرة، تناولت العديد من التقارير الأفغانية واقع
السجون الخاضعة لسيطرة حركة طالبان، كاشفةً عن صورة معقدة تتجاوز الانتهاكات
الجسدية المعروفة من تعذيب وسوء معاملة، إلى بعد آخر لا يقل خطورة، يتمثل في تحويل
هذه السجون إلى فضاءات لإعادة تشكيل الوعي وفرض أيديولوجية الحركة على المعتقلين.
ووفق ما أوردته مصادر إعلامية أفغانية وتقارير محلية، فإن ما يجري خلف القضبان لم
يعد مقتصرًا على العقاب أو الاحتجاز، بل بات جزءًا من مشروع أوسع تسعى طالبان من
خلاله إلى إعادة إنتاج رؤيتها للعالم داخل أكثر البيئات هشاشة وقابلية للضغط.
تشير هذه التقارير إلى أن قيادة طالبان، وبأمر مباشر من زعيم الحركة
الملا هيبة الله أخوند زاده، شرعت في تنفيذ سياسة ممنهجة تهدف إلى جعل السجون
مراكز للتعليم الديني وفق تفسير الحركة الخاص للشريعة الإسلامية. وقد جرى الإعلان
عن هذه السياسة خلال اجتماع داخلي عُقد في ولاية قندهار، المعقل التقليدي لقيادة
طالبان، بحضور ممثلين عن وزارات مختلفة ومديرية السجون التابعة للحركة. وبحسب ما
نقلته وسائل إعلام أفغانية، فإن هذا الاجتماع خُصص لمناقشة ما أُطلق عليه مسمى
الإصلاح والتعليم، وهو عنوان يحمل في ظاهره بعدًا تربويًا، لكنه يخفي في مضمونه
توجهًا أيديولوجيًا واضحًا.
تفيد المعلومات المتداولة بأن القرار يقضي بتعيين معلمين دينيين في
جميع السجون، تكون مهمتهم الأساسية تلقين السجناء تعاليم دينية تستند إلى القراءة
الطالبانية للنصوص الإسلامية. وقد جرى التأكيد، خلال الندوة التي استمرت عدة أيام،
على ضرورة التزام جميع المسؤولين بتنفيذ هذه السياسة باعتبارها جزءًا من تطبيق
الشريعة كما تراها قيادة الحركة. وفي هذا السياق، أعاد زعيم طالبان التأكيد على
موقعه بوصفه المرجعية العليا، مطالبًا الأجهزة التنفيذية والأمنية بالانصياع
الكامل لتوجيهاته.
تحويل السجون إلى أدوات أيديولوجية
ترى تقارير أفغانية أن هذا التوجه ليس معزولًا عن المسار العام الذي
سلكته طالبان منذ عودتها إلى السلطة. فالحركة، التي يقتصر معظم قادتها على خلفيات
دينية تقليدية، عملت على إقصاء التعليم الحديث والعلمي من مختلف مفاصل الدولة،
مكتفية بفرض مناهج دينية تعكس فهمها الخاص للدين. وخلال السنوات الماضية، طال هذا
النهج المدارس والجامعات، ليصل اليوم بشكل رسمي إلى السجون، حيث يصبح المعتقلون
هدفًا مباشرًا لعملية إعادة صياغة فكرية قسرية.
ونقل الإعلام الأفغاني تصريحات لمسؤولين في طالبان أكدوا فيها أن مديري
السجون تلقوا تعليمات واضحة بتوفير معلمين والبدء الفوري في تعليم السجناء.
ويُقدَّم هذا الإجراء، في الخطاب الرسمي للحركة، على أنه خطوة إصلاحية تهدف إلى
تقويم سلوك السجناء وإعادتهم إلى الطريق القويم. غير أن مراقبين يرون أن مفهوم
التعليم لدى طالبان لا يمت بصلة إلى التعليم المتعارف عليه عالميًا، بل يقتصر على
تلقين ديني أحادي يقوم على تفسيرات متشددة للنصوص، ويقصي أي تنوع مذهبي أو فكري.
وتشير تقارير محلية إلى أن هذا التعليم يُفرض على جميع السجناء دون
استثناء، بمن فيهم السجناء من الطائفة الشيعية، الذين يُجبرون على الالتزام بطقوس
وتلاوات دينية تتبع المذهب السني الذي تعتمده طالبان. وفي حال الامتناع أو
الاعتراض، يتعرض السجين لضغوط ومعاملة قاسية، ما يحوّل ما يُسمى تعليمًا إلى أداة
للإكراه والسيطرة.
على مدى أكثر من أربع سنوات، تحولت السجون تدريجيًا إلى فضاءات مغلقة
لإعادة إنتاج خطاب طالبان، ومع القرار الأخير بزيادة عدد المعلمين وتسريع العملية
التعليمية، يبدو أن الحركة ماضية في تعميق هذا الدور. وتفيد تقارير أفغانية بأن
قيادة طالبان ترى في السجون بيئة مناسبة لغرس أفكارها، نظرًا لعزلة السجناء
وحرمانهم من أي مصادر بديلة للمعلومة أو الفكر.
في خطابات متعددة، شدد الملا هيبة الله أخوند زاده على أن هدف حركته
هو حماية الدين وتعليم الشريعة، وفق رؤيته الخاصة. وقد كرر في مناسبات مختلفة أنه
لن يتراجع عن تطبيق ما يسميه أحكام الشريعة، حتى في مواجهة الضغوط الدولية. هذه
التصريحات، التي وثقتها وسائل إعلام محلية، تعكس إصرار القيادة على المضي في
مشروعها الأيديولوجي، بغض النظر عن كلفته الاجتماعية أو الحقوقية.
السجون بين الضغط الأيديولوجي وغياب الرقابة
في هذا السياق، تبرز شهادات معتقلين سابقين نقلتها تقارير أفغانية،
تشير إلى أن السجون باتت تشكل بيئة طاردة تولد مشاعر الكراهية والرفض لدى كثير من
المحتجزين. ومع ذلك، ترى طالبان في تكثيف التعليم الديني وسيلة لإعادة توجيه هذه
المشاعر، وتحويل السجناء من خصوم محتملين إلى أفراد يتبنون روايتها عن الماضي
والحاضر. ويذهب محللون إلى أن هذا المسار قد يُستخدم لتبرير حرب الحركة السابقة ضد
الحكومة الأفغانية السابقة وحلفائها، من خلال تصويرها على أنها جهاد مشروع، وإضفاء
شرعية دينية على العنف الذي مورس خلال تلك الفترة.
تاريخ طالبان في استخدام الدين كأداة تعبئة وتحريض حاضر بقوة في هذا
المشهد. فقد سبق للحركة، وفق تقارير متعددة، أن نجحت في تجنيد آلاف الشباب
والمراهقين عبر خطاب ديني تعبوي، أدى في كثير من الأحيان إلى زجهم في عمليات
انتحارية. واليوم، يُخشى أن تعيد الحركة استخدام الآليات ذاتها داخل السجون،
مستغلة حاجة السجناء للتخفيف من معاناتهم أو الحصول على امتيازات.
ولا تنشر طالبان أرقامًا دقيقة عن أعداد السجناء أو أسباب احتجازهم،
لكن تقارير أفغانية تفيد بأن الاعتقالات تشمل ناشطين مدنيين وصحفيين وأشخاصًا
عبّروا عن معارضتهم لسياسات الحركة، حتى عبر منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتورد هذه التقارير أمثلة على اعتقالات جرت بسبب انتقادات علنية، ما يعكس اتساع
دائرة التجريم.
من جهة أخرى، نقلت وسائل إعلام أفغانية تقارير من ولايات عدة، بينها
هرات، تحدثت عن تنظيم ما يشبه حفلات تخرج للسجناء الذين أنهوا دورات دينية داخل
السجون. ويظهر في هذه المناسبات سجناء يرتدون ملابس بيضاء ويحملون أعلام طالبان،
في مشهد يعكس بوضوح الطابع الدعائي للعملية. ويُقدَّم هؤلاء الخريجون بوصفهم
نموذجًا للإصلاح، رغم أن مشاركتهم في هذه الدورات غالبًا ما تكون مدفوعة بالضغط أو
السعي للحصول على معاملة أفضل.
وتشير شهادات نقلتها تقارير محلية إلى أن بعض السجناء يقبلون على هذه
الدورات لأن إدارة السجون تمنح المشاركين فيها تسهيلات أو وعودًا بالإفراج المبكر.
وقد أقر مسؤولون محليون تابعون لطالبان بأن السجناء الذين يلتزمون بالتعليم الديني
يكونون أكثر حظًا في الحصول على تخفيف الأحكام، ما يحول التعليم إلى أداة ابتزاز
غير مباشرة.
في المقابل، كان النظام الأفغاني السابق، بحسب تقارير أفغانية، يتيح
برامج تعليمية مهنية وتقنية داخل السجون، إلى جانب تعليم ديني غير متشدد، بهدف
إعادة دمج السجناء في المجتمع. أما اليوم، فقد جرى إقصاء هذا النوع من التعليم
لصالح برامج أيديولوجية ضيقة، لا توفر للسجين مهارات عملية بقدر ما تسعى إلى إعادة
تشكيل قناعاته.
تدّعي طالبان، في بياناتها الرسمية، أنها تحظر التعذيب وسوء المعاملة
داخل السجون، وتؤكد حماية كرامة السجناء. غير أن تقارير حقوقية أفغانية ومحلية
تتحدث عن استمرار التعذيب والضرب والإهانة. ويطرح ناشطون سؤالًا جوهريًا حول أسباب
رفض الحركة السماح لأي جهة مستقلة بمراقبة السجون، معتبرين أن غياب الرقابة يفرغ
هذه الادعاءات من مضمونها.
في ظل هذا الواقع، يرى مراقبون أن ما تسميه طالبان تعليمًا وإصلاحًا
ليس سوى جزء من منظومة متكاملة تهدف إلى إحكام السيطرة على المجتمع، تبدأ من
السجون ولا تنتهي عندها. فإجبار السجناء على المشاركة في طقوس ودورات دينية، إلى
جانب تجريم النشاط المدني وغياب الشفافية، يعكس سعي الحركة إلى فرض روايتها
بالقوة، حتى على من هم خلف القضبان.
وتخلص التقارير الأفغانية إلى أن استمرار هذا النهج ينذر بتداعيات
خطيرة، ليس فقط على حقوق السجناء، بل على النسيج الاجتماعي ككل. فالسجون، التي
يفترض أن تكون أماكن لإعادة التأهيل، تتحول في ظل هذه السياسات إلى معامل لإنتاج
التطرف وتطبيع العنف، ما قد يترك آثارًا طويلة الأمد على المجتمع الأفغاني
ومستقبله.