صيحات التجديد الدينى ( 12 )

الخميس 12/مارس/2015 - 11:40 م
طباعة
 
وفيما كانت الجماهير المصرية تغلى ثورية تحت قيادة أحمد عرابى ، تقدم محمد عبده باقتراح شديد التواضع وأقل من أن يوصف بأنه معتدل ، ونقرأ "علينا أن نهتم بالتعليم والتربية بعض سنين ، وأن نحمل الحكومة على العدل بما نستطيع وأن نبدأ بترغيبها فى استشارة الاهالى فى بعض مجالس خاصة بالمديريات والمحافظات ، ويكون ذلك كله تمهيدًا لما يراد من تقييد الحكومة ، وليس من المصلحة أن نفاجئ البلاد بأمر قبل أن تستعد له ، فيكون ذلك من قبيل تسليم المال للناشئ الصغير قبل سن الرشد ، فيفسد المال ، ويفضى إلى التهلكة" [493صBlunt – lbid ] كل ذلك وعرابى يخوض ثورة عارمة تحركت فيها كل فئات الشعب ، وكان النديم على رأس الدعاة الذين جابوا أرجاء القطر لجمع التوكيلات لرجال العسكرية وعلى رأسهم أحمد عرابى فى "أن أكون نائبا عنكم فى كل ما يتعلق بأحوال بلادكم" ويطاح بحكومة رياض باشا الذى نال إعجاب وتأييد محمد عبده ، وإمتلأت الشوارع بالهتاف لعرابى الذى تولى الوزارة ووزعوا الشربات والحلوى ، ومنحوا عرابى مديحاً تجلى فى عديد من القصائد منها : 
وقولوا يا عرابى مر بأمر - تراه فأنت ذو الأمر المجاب 
ودم لوزارة لسواك تأبى - وإن وصلت إليك بلا طلاب 
وقولوا يا عرابى دم رئيسا - لحزب النصر محفوظ الجناب [سليم خليل نقاش – مصر للمصرين – الجزء 4-صـ90]
جموع الشعب تحركت ففزع كبار الملاك وغضبوا ، والغريب أن يغضب معهم محمد عبده ويحذر كبار القوم من المشاركة فى الثورة قائلاً "من المعهود فى سير الأمم وسنن الاجتماع أن القيام على الحكومة الاستبدادية ، وتغيير سلطتها وإلزامها بالمساواة بين الرعية ، إنما يكون من الطبقة الوسطى والدنيا إذا ما شاع فيهم التعليم الصحيح والتربية النافعة وصار لهم رأى عام . وإنما لم يعهد فى أمة من الأمم أن الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطالبون بمساواة أنفسهم بسائر الناس ، وبإزالة إمتيازاتهم ، واستئثارهم بالجاه والوظائف بمشاركة الطبقات الدنيا لهم فى ذلك . فكيف حصل فى هذه المرة من أهل هذا المجتمع ؟ هل تغيرت سنة الله فى الخلق ؟ أم بلغت فيكم الفضيلة حدا لم يبلغه أحد من العالمين ؟ أم أنكم تسيرون إلى حيث لا تدرون" [راجع النص الكامل فى : د. رفعت السعيد – الأساس الاجتماعى للثورة العرابية - صـ112] . وهنا يتعين علينا أن نوضح أمرا هاما نحاول أن ننصف به الافغانى ومحمد عبده ، فهما لم يكونا رجلى سياسة ، ولم يكونا ملمان بواقع التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية ، ولا بالتناقضات بين مكونات الهيكل الارستقراطى فى المجتمع . بدليل أن محمد عبده ألقى بكل طموحاته وآماله فى ساحة رياض باشا "خير رئيس كنت راجيه" كما أسماه فى قصيدته عقب حشد العسكريين تحت قيادة عرابى فى ميدان عابدين مطالبين بإسقاط وزارة رياض باشا المستبدة . 
لكن محمد عبده كرجل دين أهتم بمستقبل مصر وشعبها أفزعه تخلف شيوخ الأزهر على زمانه إلى درجة أنه أسماه "البيمارستان" و "الإسطبل" . مؤكداً أن هؤلاء الشيوخ يسيئون إلى الإسلام والمسلمين والى مستقبل الوطن . 
ولكنه دين أردت صلاحه - أحاذر أن تقضى عليه العمائم 
وفى مجال التجديد فى فهم الدين أبدع محمد عبده وقدم نهجا إسلاميا قادرا على أن يجعل من المسلم العاقل أداة للتقدم بوطنه مصر ، وفتح أمام المصريين سبل بناء مصر حديثة ومتقدمة ، وفيما كان يمارس دوره كمفتى للديار المصرية نجح فى إصدار مئات الفتاوى التى خلصت المصريين من قيود متأسلمة أوشكت أن تخنق إمكانية تحديث الاقتصاد فأفتى بجواز التعامل المصرفى على أساس قبول سعر الفائدة وبجواز اللجوء إلى شركات التأمين وبحرية المأكل والملبس فى غير ما حرم الله .. وباختصار فتح أمام مصر أبواب النهضة الحديثة .. وهو ما سنراه فيما يلى . 

شارك