أطفالُ سوريا.. العالقون على حدود الحلم

الثلاثاء 15/مارس/2016 - 10:49 م
طباعة
 

المشهد الأول

نهار خارجي.. "ماسحُ الأحذية الصغير"

صباح الاثنين 7 مارس وعلى أحد مقاهي شارع الحمراء الشهير ببيروت، كنت أحتسي كوبًا من القهوة واتصفح عناوين الصحف اللبنانية، لمتابعة تطورات الأزمة السياسية بين لبنان ودول الخليج، حتى وقعت عيني على تحقيق مطول حول تصدر لبنان لتقرير يرصد عمالة الأطفال بالعالم، والإشارة إلى الأطفال السوريين الذين قدموا إلى لبنان هربا من جحيم الحرب السورية التي خلفت مئات القتلى والمصابين.

حتى انتبهتُ لأصوات صبية صغار يتعاركون فيما بينهم، نهضت في محاولةٍ لفض الخلاف، وجدتهم ثلاثة أطفال سوريين، يطلب الأول من زميليه ألفي ليرة لبنانية، تقدمت نحوهم لمعرفة سبب العراك، فرد الطفل بأنه منح الاثنين الفي ليرة كى يتناولوا الإفطار، وعليهم الآن تسديد الدين له، لأنه بأشد الحاجة للمبلغ لأنه ينفق على أسرته التي جاءت إلى بيروت ويسكنون بإحدى المخيمات.

دفعني المشهد وهذا الحوار القصير للاستماع لقصتهم.

يقول "أحمد" الذي يبلغ من العمر تسع سنوات "ذو بشرة قمحية وقصة شعر على طريقة نجم الكرة البرتغالي كرستيانو رونالدو": إنه جاء إلى لبنان مع أسرته فارًّا من جحيم الحرب السورية، بعد أن كان منتظمًا بدراسته في ريف حلب، وأسرته مكونة من ثلاث فتيات إلى جانب والده ووالدته، ونظرًا لتعرض الأب لحادث إطلاق نار في سوريا أصيب في ركبته، وكان يعمل "عتالًا"، ولكن غير قادر على العمل الكامل الآن، لذا يقوم أحمد بتحمل المسئولية ويعمل "ماسح أحذية" في شوارع الحمرا ببيروت، كى يساعد أسرته فى الظروف المعيشية القاسية.

الصغيران زهير ومحمد، لا تختلف أحوالهما كثيرًا عن أحمد، قدِما إلى بيروت، أيضًا فرارًا من الجحيم الذي يتربص بسوريا، زهير ملائكي الملامح ويبلغ من العمر 10 سنوات، ظل أقاربه فى سوريا، لا يريدون ترك أراضيهم مهما كان المصير، ويقيم هو مع عمه فى شقة بإحدى الضواحي من غرفتين مقابل 400 دولار شهريًا، ويساهم زهير في مصاريف الإعاشة والتغلب على معوقات الحياة.

أما محمد فيتمتع بخفة دم وابتسامة شقية، يروي قصة قدومه مع أسرته بعد استحالة الحياة فى سوريا وارتفاع أسعار السلع وانتشار الحروب والقلاقل، فقد اضطروا للمجيء إلى بيروت هو  وإخوته والمساعدة مع والده فى تحمل المعيشة، والتغلب على العراقيل التي تواجههم فى لبنان يومًا بعد يوم.

البراعم الثلاثة تتبادل الحكي المرير ببساطةٍ تليقُ بأعمارهم، وكأن لسان حالهم يصرخ: كبرنا قبل الأوان.. يقول زهير: ربطة الخبز كانت فى سوريا قبل الأحداث 15 ليرة، والآن وصلت إلى أكثر من 200 ليرة، ولم تعد السلع الغذائية متوفرة كما كانت من قبل الأحداث، وهنا فى لبنان نعانى من قلة المساعدات، وحتى ما تمنحه لنا منظمات الأمم المتحدة لا يزيد على  كارت شهري نحصل بموجبه على مواد غذائية بقيمة 20 دولارًا شهريًا، ونضطر للذهاب إلى مقار المنظمات لمسافات بعيدة للحصول على هذا الكارت.

اتفقت معهم بعد هذه المقابلة السريعة على اللقاء مجددًا فى المساء للتعرف أكثر عليهم.

المشهد الثاني

ليل خارجي.. من جحيم الوطن إلى تعقُّب "الدرك"

التقيت أحمد من جديد، وسألته عن الآخريْن، سرنا معًا حواليْ 10 دقائق، حتى وصلنا إلى منطقة هادئة عند الحمراء، وأمام إحدى البنايات الطويلة، وقد علمت أنها لشركة خاصة، تجمعنا من جديد، حيث يفضل محمد وزهير العمل أمام هذا المكان ومسح أحذية الموظفين، التقيتهم جميعًا مجددًا، وانضم لنا "مؤيد" الشقيق الأصغر لمحمد، والذى لا يتعدى عمره 6 سنوات، وابتسامته لا تفارق وجهه، رأيتهم يقومون بالسلام على طفل آخر يحمل أدوات مسح الأحذية، فطلبت منه أن ينضم لنا، وعرّفني بنفسه.

"أحمد" .. صوته عذبٌ وملءُ عينيه الخضراوين براءةٌ تليقُ بروح طفلٍ غضِّ الروح والبنيان. كدتُ لا أصدقُ المآسي التي سردها لي، وقد ارتجفت خلايا جسدي وأنا أتصورُ كل تصاريف الحياة القاسية هذه على كاهل أطفالٍ كالزهر.

قدِم أحمد  إلى بيروت مع أخيه الأكبر، بعد تعرض أسرته لمضايقات كثيرة نتيجة الصراع بين الحكومة والجماعات المسلحة في سوريا، والذي كانت نتيجته ـ ولم تزل ـ  إصابة عدد كبير من أفراد أسرته وأقاربه، فمن لم يلقَ حتفَه جرّاء البراميل المتفجرة، قُتل في عملياتٍ انتحارية، ورغم أن أحمد كان متفوقًا فى التعليم، ووصل إلى المرحلة التاسعة، وكان يتمنى أن يصبح طبيبا، إلا أنه أُجبر على تغيير نمط حياته ليكافح من أجل البقاء، ويعيش مع أخيه الأكبر الذي يبلغ من العمر 17 عامًا فى شقة صغيرة مقابل 500 دولار شهريًا، ويعانيان من تعقب رجال "الدرك" الشرطة اللبنانية، حيث إن عملهم محظورٌ في لبنان، وكلما وقعا فى يد الشرطة تُسلب أدوات العمل البسيطة التي بحوزتهما، ويتكلفان 50 ألف ليرة لبنانية (حوالى 35 دولارًا) من أجل الحصول على أدوات جديدة تسمح لهما بالحصول يوميًا على حفنة قليلة من الليرات تكفل لهما الحد الأدنى من العيش وتسديد قيمة الإيجار الشهري.

لم تتوقف المعاناة عند هذا الحد، فليس عليهما الهرب فقط من أعين رجال الشرطة، وإنما هناك شخصيات خارجة على القانون تقوم بتوقيفهما ورفاق العمل والحصول على ما يجمعونه من ليرات قليلة، وهو ما يدفعهم لمغادرة مكان عملهم سريعًا قبل حلول الظلام، حتى لا يحصل البلطجية والهاربون من القانون على أموالهم التي تنتظرها أسرهم بفارغ الصبر.

خلال لقائي بهم، فجأة انفرجت أساريرهم وارتسمت على وجوههم ابتسامةٌ مشرقة توازيًا مع مرور سيدةٍ أنيقة، بادلتهم التحية بإشارةٍ مرحبة، علمتُ منهم أنها تساعدهم بالمال، فهي سورية الجنسية، وتقطن فى بيروت منذ زمن.

جاء شاب على دراجة بخارية، توجه إليه "زهير" ليؤدي مهام عمله، وينظف حذاء الشاب بمهارةٍ فائقة جعلت الحذاء يبدو جديدًا، وصاحبه يرتديه ليلة العيد... لكن أيُّ عيدٍ يمكن أن يعرفه هؤلاء الذين واجهوا التشريد ويواجهون قسوة الحياة.

بعد حديث عن الأمنيات ورغبات الأطفال فى عودتهم لديارهم من جديد، وتحقيق أحلام مستقبلهم بها،  فهناك من يريد أن يكون طبييًا وآخر مهندسًا لإعمار البلاد من جديد، التقطت صورة "سيلفي" معهم مع ابتسامةٍ من شغاف قلوبهم لا أنساها ما حييت،  لتبدو وكأنها مثل الندى الذي ينعش زهورًا كادت تذبل أوراقها.

شجنُ الذاكرة   

ذكرتني معاناة هؤلاء  بفادحة الطفل إيلان الذى وُجد ميتًا على الشواطئ التركية، حيث كانت أسرته تسعى للهرب من سوريا إلى اليونان عبر تركيا، ولكن تقلبات البحر كانت أقسى عليهم من تقلبات الحرب السورية، وكأن هؤلاء الأطفال أصبح عليهم الاختيار، فإما التنازل عن براءتهم وتحمُّل مسئوليات أكبر من أعمارهم وترك أحلامهم البسيطة لكى يعملوا للإنفاق على أنفسهم وأسرهم، والتغلب على ظروف المعيشة الصعبة فى بيروت، والتي تعانى من ارتفاع الأسعار وغلوّ المعيشة على اللبنانيين أنفسهم، فما بالك بالقادمين من الحرب السورية!

المشهد الثالث

ليل داخلي.. أين ذهب "عليّْ"؟

عدت إلى الفندق الذي أقيم به مساءً، لأكتب ما سمعته من هؤلاء الصغار، فأعادتني الذاكرة  أيضًا إلى "علىّ" ذلك الطفل الذي يعيش مع أسرته السورية، وقد جاءت إلى لبنان لتستقر فى أحد المخيمات غير الشرعية فى "صور" بجنوب لبنان، حينها قمت بزيارةٍ خاصة للمخيمات فى ديسمبر 2014، واستمعت إلى الأسر السورية هناك، يحكون عن معاناةٍ جعلتهم يتركون أراضيهم الزراعية ومنازلهم الخاصة ويفرون إلى لبنان بحثًا عن الأمان، رغم أن "عليّْ" كان يلعبُ ويضحك مع مسئولي المنظمات الدولية، غير أن  الشرود حول مستقبله كان بطل الملامح الحيرى، وكأنه يتساءل: ما الذي يحدثُ لنا، وبدوري أتساءلُ: ما مصير عليّْ الآن، هل استقر مع أسرته؟ هل حاولت الأسرة الرحيل إلى أوروبا هربًا من مشقة الحياة فى لبنان؟ هل فروا فرارًا مؤقتًا وعلقوا بالحدود؟ أيُّ طقسٍ يواجههم؟ وأيُ يدٍ رحيمة امتدت إليهم؟ كل ذلك في ظل ارتفاع إيجار الخيمة التي يسكنون، وتصل إلى 200 دولار شهريًا، لذا حاولت الاتصال بمسئولي المنظمات المعنية بشئون اللاجئين للتعرف عن أحوال أسرة "عليّ"، فأفادوني بأنهم غادروا المخيم، إلى مجهول.

المشهد الرابع

نهار خارجي.. ويستمر العجز!

 

اطّلعت على تقرير حديث صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف"، جاء بعنوان "لا مكان للأطفال" يفيد بأن الصراع الدائر في سوريا خلّف 2.4 مليون طفل لاجئ وقُتل بسببه الكثيرون وأدى إلى تجنيد أطفال للقتال، بعضهم لا تزيد أعمارهم على 7 سنوات منذ 2011، والإشارة إلى أن أكثر من 8 ملايين طفل في سوريا والدول المجاورة يحتاجون لمساعدات إنسانية، بينما تعاني خطة "الاستجابة الدولية لأزمة سوريا" من نقص مزمن في التمويل.

توقفت أمام ما ورد بالتقرير بشأن ولادة أكثر من 151 ألف طفل سوري خارج البلد، في أماكن لجأ السوريون إليها، بينهم نحو 70 ألف طفل لاجئ ولدوا في لبنان وحده، وهناك نحو 2.8 مليون طفل سوري في سوريا والدول المجاورة لم يلتحقوا بالمدارس.

قمت بتدوين هذه الملاحظات على أمل نشرها، فى إطار الكشف عن معاناة اللاجئين السوريين، لتضاف حلقة جديدة من المعاناة الإنسانية لشعب عانى كثيرًا من ويلات الحروب وتقاطع المصالح السياسية على بلاده، وسط العجز الدولي الواضح عن إيجاد حلول ناجعة لهذه الأزمة التي اندلعت فى مارس 2011.

المشهد الأخير

هل يبزغ النهار؟

لعلها مصادفةٌ على غيرِ موعد، أن أكون في خضمِ هذا الجدل الحياتي المأساوي للنازحين والمشردين واللاجئين.. وبين يدي رواية "نزوح مريم" للسوري محمود حسن الجاسم، والتي رُشحت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، وكنت أستكمل قراءة آخر فصولِها، وتسرد رحلة أسرة سورية نزحت من جحيم الحرب إلى تركيا، ثم حاولت الفرار إلى أوروبا، لكنها عانت كثيرًا، في مشاهد متتالية، رغم أناقةِ وجعِها غير أنها نُذرُ يسيرٌ من واقعٍ أكثر مرارةٍ، واقعٍ تفوّق على خيالِ الإبداعِ في اجترار المآسي.. غير أني شأني كشأن كل مهمومٍ بهذا الوطن المكلوم أتشبث بخيوط النورِ وإن رقّ نسيجُها الآني، حيثُ يقول الراوي على لسان "سارة" بطلة الرواية لبنتها الصغيرة: "ستعودين يا مريمُ بمفتاح البيت، مطمئنةً قويّةً مباركةً، وتغتسلين بياسمين الوطن، لتدفني ذل النزوح والضياع، وليضيء جمالك من جديد فى الدنيا كلها".

هُنا أُسدل الستارُ على مسرح قلبي المضطرب، لتنزل هذه الكلماتُ والنهاية المتفائلة بلسمًا مؤقتًا لا ينكأُ كل الجراح بقدرِ ما يحاول تضميدَها، لأنها تتسقُ وأمنياتي تجاه كل من شوّهت أحلامهم الحروب، وتبقى الجراحُ مفتوحةَ الجبهات ما دامتِ الحربُ مستمرةً.. فأوقفوا الحرب.

شارك