سقوط «الخلافة» على يد أتاتورك وتنازع العالم الإسلامي على «خلافة الخلافة»

السبت 01/سبتمبر/2018 - 08:48 ص
طباعة
 
كان إعلان الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك بإنهاء الخلافة العثمانية، وإعلان الجمهورية التركية عام 1924 ميلاديًّا هو الفصل الأخير في سلسلة طويلة من محاولات القوى الكبرى -خاصة روسيا وإنجلترا- لإضعاف الخلافة العثمانية، ثم تشجيع أقاليمها على الانفصال عنها، وأخيرًا تقطيعها وإضعاف جيشها ومؤسساتها تارة باسم التحديث، وتارة باسم حق الشعوب والقوميات في أن تحكم نفسها بنفسها، وليس داخل إمبراطورية واحدة تجمع الأشتات باسم الدين الواحد الذي يجمع بين كل هذه الشعوب، وهو الدين الإسلامي.

وقد حاول بعض الوزراء العثمانيين والشخصيات الإسلامية الرفيعة في العالم الإسلامي إقناع كمال أتاتورك بالمضي في مشروعه، بإنشاء جمهورية تركية حديثة وعلمانية، لكن مع ترك منصب الخلافة قائمًا في أيدي آل عثمان للحفاظ على الشكل الديني والسطوة الروحية للمنصب دون أي سلطة سياسية، ولكن كمال أتاتورك رفض هذه المقترحات رفضًا باتًّا للأسباب التالية: 

1- أنه كان يعتقد شخصيًّا أن زمن الإمبراطوريات الدينية قد ولَّى في الشرق والغرب، وأن الإمبراطوريات الباقية ستتحول تدريجيًّا إلى ممالك دستورية وبرلمانية، يملك فيها الملك ولا يحكم، وأن السلطة الدينية المسيحية لبابا الفاتيكان على سبيل المثال قد كسرتها حروب نابليون ضدها، وأنها ستتحول بعد الاتفاق المعروف باسم «Le concordat» مع نابليون إلى سلطة روحية شكلية دون أي غطاء سياسي.

2- أن كمال أتاتورك كان يعتقد أن 4 قرون من الخلافة العثمانية قد طالت أكثر مما يجب، وأنه لم يعد من الممكن في العصر الحديث الحفاظ على إمبراطوريات شاسعة جغرافيًّا إلا بقوة السلاح، وهو لم يكن عمليًّا متاحًا في عام 1924، خاصةً بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى.

3- في الواقع أن السبب الحقيقي الذي كان يجعل أتاتورك يرفض الإبقاء على منصب الخلافة شكلًا فقط أنه كان يريد التخلص من آل عثمان بشكل نهائي، وأنه كان يخشى أن يستطيع هؤلاء العودة واسترداد السلطة السياسية في البلاد.

ولم ينتهِ عام 1924 إلا وأعطى كمال أتاتورك الضوء الأخضر لزعماء وقادة الأقاليم الكبرى في الإمبراطورية العثمانية سابقًا؛ من أجل التنافس على لقب الخلافة حتى يغلق الباب نهائيًّا على احتمال عودة الخلافة إلى إسطنبول، من هنا فتح الباب أمام منافسة شرسة بين أربعة أقطاب في العالم الإسلامي يتنازعون على لقب الخلافة، وهم الملك أحمد فؤاد الأول ملك مصر، والشريف الحسين بن علي ملك مكة، والملك عبدالعزيز آل سعود أكبر نجد، وبدرجة أقل أمير بلاد الأفغان، والسيد السنوسي وسلطان مراكش.

وبدأت الصحف الفرنسية بدءًا من العام نفسه (1924) الحديث عن البؤس الشديد الذي وصل إليه أمراء وأميرات بيت الخلافة السابق، إلى حدِّ أن السلطان عبدالحميد أصبح لا يملك من المال إلا ما يكفي لأكثر من شهرين، وذكر تقرير السفارة المصرية في باريس بتاريخ 29 مارس 1924 أن الخليفة السابق قد طلب من ممثلي الدول الإسلامية في باريس ولندن تخصيص مخصصات مالية ثابتة له، بل إنه ذهب إلى السفير المصري في باريس محمود فخري باشا (زوج بنت الملك)، طالبًا منه التدخل لدى أحمد فؤاد لإنقاذه وأسرته، ولكن حكومة كمال أتاتورك أوعزت إلى الصحف بأن تنشر أن الرئيس التركي الجديد لا يرتاح لتقديم أي مساعدات مالية، ليس فقط للخليفة السابق بل لأعضاء أسرته كلها؛ خوفًا من استخدام هذه الأموال للعودة إلى الحكم في تركيا.

وتوالت رسائل أمراء وأميرات آل عثمان المرفوعة إلى الملك فؤاد، ومنهم الأميرة بهية حفيدة السلطان محمد رشاد، والأميرة صالحة بنت السلطان عبدالعزيز، والأمير أحمد نهاد صلاح الدين حفيد السلطان مراد الخامس المقيم بفرنسا، والذي اضطر إلى بيع شقته في مدينة نيس بفرنسا، وأخيرًا رسالة استجداء حزينة من الأميرة منيرة سلطان حفيدة السلطان عبدالمجيد.

والحال نفسه وقع أيضًا لكبار رجال الحكومة وقصر الخليفة السابق، ووصل الأمر إلى عرائض للمساعدات قدمها شيخ تكية المولوية في 31 ديسمبر عام 1929 طالبًا فيها بأن ينقذ الملك فؤاد هذه التكية، والتي كانت أوقافها تُسمى الأوقاف الجلالية، نسبة إلى جلال الدين الرومي، بعد أن قطعت الجمهورية التركية الوليدة المخصصة المالية عنها، واستطاع الملك أحمد فؤاد أن يستغل لجوء أقطاب الخلافة السابقين إلى قصر عابدين، ويوعز إلى الصحف في القاهرة وباريس ولندن بنشر تلك الأخبار، حتى يبدو كراعٍ جديد للخليفة وأبنائه وأحفاده، كما كان دائمًا موقف مصر مع آل الخلفاء المعزولين وأبنائهم في العصر العباسي والفاطمي، ويبدو أن كمال أتاتورك كان يرى في القاهرة العاصمة التي يُمكن أن تمتص ما بقي من عشق المسلمين للخلافة، ونزعتهم لأن يكون على رأسهم أميرًا للمؤمنين.

ويذكر الفيلسوف «لايبنتيز» في مخطوط المشروع المصري «Le concilium aegyptium»: قمت بترجمته إلى اللغة العربية ونشره في سلسلة كتاب الهلال في القاهرة بمقدمة للراحل الكبير كامل زهيري عام 1995، وقمت بنشر النص الفرنسي كملحق لدراستي في دكتوراه السوربون عام 1992، ثم كملحق في كتابي في دار نشر «l’Harmaattan» بعنوانla fascination de l’Egypte»: du rêve au projet» يقول الفيلسوف: إن الخلفاء العثمانيين كانوا يشعرون بأن التهديد الروسي عليهم سوف يأتي يوم ويكون عاملًا من عوامل زوال الخلافة، وأن المدينة الوحيدة التي يمكن أن تكون وقتها عاصمة للخلافة في داخل الإمبراطورية هي مدينة القاهرة، والتي يُمكن لآل عثمان اللجوء إليها في حال سقوط الخلافة في إسطنبول.

ويذكر نوبار باشا في مذكراته في لقائه مع الصدر الأعظم أعالي باشا قبل ثلاثة أشهر من وفاته عام 1871 أن إسطنبول رفضت مشروع حفر قناة السويس قبل نحو 20 عامًا؛ لأنها كانت تعرف أن حفر القناة سيجلب على الفور أساطيل إنجلترا إلى سواحل مصر، وأنهم سينتهون إلى احتلال القاهرة (وهو ما حدث بالفعل بعدها بـ11 عامًا فقط)، وتفقد الخلافة في إسطنبول عاصمة إسلامية كبرى، تُعتبر دائمًا في فلسفة الخلافة العثمانية حاضرة بديلة للخلافة حال سقوطها -لعل أتاتورك هو أيضًا كان مقتنعًا بذلك- إلا أن السفير المصري في لندن عزيز باشا عزت (ولد عام 1869م، وتوفي عام 12 أبريل 1961)، وهو أول سفير لمصر في لندن يقول في تقرير سِرِّي إلى الملك فؤاد بتاريخ 7 مارس 1924م: إن الإنجليز في حالة قلق من احتمال تقديم ملك مصر الجديد نفسه للعالم الإسلامي كخليفة للمسلمين، وإنهم يفضلون عليه ملك الحجاز، أو حتى ملك الأفغان، حتى تكون هناك خلافة إسلامية بعيدة عن القاهرة التي كان يرى الإنجليز فيها تأثيرًا سياسيًّا وثقافيًّا فرنسيًّا واسع النطاق، ويقترح السفير المصري على الملك ضرورة عقد مؤتمر إسلامي للمبايعة في القاهرة.

الغريب أن الصحف الفرنسية راحت بسرعة تُطالب بأن تكون عاصمة الخلافة الجديدة في القاهرة، وتذكر هنا صحيفة «l'Action Français» التي كتب فيها الكاتب «Paul Olagnier» بتاريخ 23 أبريل 1928 ميلاديًّا في مقال بعنوان «l'Egypte et le Khalifa»: وعدّد فيها الكاتب الفرنسي الأسباب التي تختص بها مصر عن سائر البلدان في احتضان الخلافة، وهي ليست فقط لوجود الأزهر الشريف بها وليس فقط للرقي المادي والمعنوي للأسرة العلوية في مصر، ولكن أيضًا لتعداد وقدرة الجيش المصري، وتعداد وقدرة البحرية المصرية والشرطة المصرية، إضافة إلى عدد سكان مصر، والذي كان يقترب من 15 مليونًا، وهو رقم كبير جدًّا لمقاييس هذا الزمن.

وبعد هذه الجريدة الفرنسية كتب الأمير عزيز حسن في صحيفة «Liberte» الباريسية بتاريخ 25 مارس 1924 ميلاديًّا، مقالًا صحفيًّا دحض فيه مزاعم الشريف حسين في مكة وأمير الأفغان ومزاعم الصحف الإنجليزية، بأن أحد أسباب سقوط الخلافة العثمانية هو تقاعس مصر عن تأييد السلطان العثماني عسكريًّا في حروبه. 

وقال الأمير: إن مصر لن تتقاعس أبدًا وأرسلت جيوشها تباعًا لمحاربة الوهابيين في الحجاز تارةً، وإخماد ثورة اليونان في المورة تارةً أخرى، هذا عدا اشتراكها في معارك «سباستوبول» و«نفاربن» و«القرن» عام 1878م.

وعندما رأى الشريف حسين اندفاع الصحافة الفرنسية لتأييد ملك مصر، أعلن نفسه، بمبايعة أولاده وعشيرته، خليفةً للمسلمين في أواخر مارس 1924، وهو ما قوبل بالرفض من مسلمي الهند والمغرب العربي، بل وامتعاض كمال أتاتورك نفسه، وهو يعلم الدور الذي لعبه الشريف حسين في هزيمة الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى، ومن هنا راحت مصر تؤيد عبدالعزيز آل سعود في نجد لتوسيع ملكه، وأن يصبح ملكًا على الحجاز كلها.

وانفجرت أزمة الخلافة في مصر عند ظهور كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، للشيخ علي عبدالرازق عام 1925، ويقول فيه: إن الإسلام لا يفرض أن تُقيم الأمة إمامًا لها، وأنه لا يوجد دليل واحد من الكتاب والسُّنة على ضرورة أن يجعل المسلمون عليهم إمامًا أو خليفة.

وعلى الفور انطلقت برقيات التأييد في مصر لمبايعة الملك فؤاد للخلافة، ومنها برقية لهيئة كبار العلماء في 28 أغسطس 1925، وانتهى الأمر بأن بايع الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر، الملك فؤاد في برقية عقب إمامة الملك لصلاة الجمعة من أحد مساجد حلوان، قائلًا فيها: «لقد سَطَّر اليوم مولانا صاحب الجلالة الملك في سجل التاريخ الإسلامي أروع صفحة من صفحاته، بإمامة المصلين في صلاة الجمعة، ولقد فرح المحراب واشتاق المنبر، ورضي الله ورسوله والمسلمون»، أرشيفات قصر عابدين بتاريخ 24 يناير 1929.

ورغم انعقاد مؤتمرات مختلفة للخلافة في مدينة كاراتشي أيضًا عام 1923، ومكة عام 1928، والقدس عام 1931، فإن مؤتمر القاهرة الذي عُقد من 13 إلى 19 مايو عام 1926 جذب إليه الأضواء، ليس فقط بسبب عدد الحاضرين فيه والشخصيات التي شاركت فيه، بل لأنه كشف أن موضوع الخلافة لم يعد مناسبًا لتطورات العصر، وأن التيار الليبرالي داخل مصر كما يقول (بول أولونيه) في «l'Action Francais» الذي استمد قوته من أفكار باريس التحررية وأفكار الجمهورية البرلمانية التي صار عليها حزب الوفد بعلمانية ذات سطوة كان فيها النحاس باشا يرفض أن يبدأ خطبته بالبسملة، وأدرك الملك فؤاد الذي لم يكن يتكلم العربية أنه سيكون من الصعب عليه متابعة هذا الموضوع، وفضل البحث عن زوجة جديدة، والتي ستنجب له ولي العهد، وسيكون الملك فاروق الذي ستنتابه -هو الآخر في لحظة ما من ملكه- أحلام الخلافة.

يبدو أن كمال أتاتورك كان محقًّا في نظرته إلى الخلافة بأنها موضوع عفا عنه الزمن.

الأغرب في كل ذلك أن مصريًّا من عامة الشعب يُدعَى حسن البنا، أَسَّس في مدينة الإسماعيلية عام 1928 بعد مؤتمر القاهرة بعامين جماعة الإخوان المسلمين، لتبدأ مرحلة أخرى فى قضية الخلافة مع أشخاص مختلفين، وطرق مختلفة، وعصر مختلف.

شارك