نوال السعداوي.. مغامرة الكتابة الجريئة

الخميس 07/مارس/2019 - 01:21 م
طباعة
 
يظل من الصعب أن يقرأ طالب كلية دار العلوم الكتابات المتمردة والفلسفات التي تخالف ما يقدم له من وجبات فكرية جاهزة في قاعات الدرس بالكلية، لكنني حين وقعت على مقالة بالمصادفة في جريدة "المصري اليوم" للدكتورة نوال السعداوي شعرت بخليط من الأحاسيس المتداخلة فلم أستطع تبين الخوف من الدهشة من الإعجاب، لكن مزيدا من الارتجاج كان يتسرب إلى صدري، كنت ساعتها درعميًا يذاكر دروس كتب الفقه والتفسير، ويحضر محاضرات التاريخ الإسلامي، وعندما يفكر في قراءة الجرائد اليومية، يجد نفسه في المواجهة مع أراء غريبة تصطدم بما يدرسه، كانت سعداوي شديدة الجرأة، ولديها قدرة عجيبة على المواجهة، تفتح ملفات غاية الخطورة، فهي ترفض الختان، وتعرض لأخطاره التي يتضرر منها جسد الأنثى بشكل جاد، كانت تناقش مفاهيم الشرف والعذرية والأخلاق والتربية عند الفتيات، وتسرد وقائع حقيقية لمن قابلتهن وعبرن عن تلك المآسي التي عانين منها، جراء العادات المجتمعية الخاطئة.
سعداوي كانت تمشي في طريق محفوفة بالمخاطر والأشواك، عرضت نفسها لانتقادات الجماعات الدينية ولا سيما المتطرفة التي توعدتها بالقتل، وتلقت الكثير من اتهامات بالكفر، لكنها لم تنشغل بمثل هذه العراقيل التي تستطيع أن توقف النهر عن التدفق، وتوقف المطر عن الهبوط بغزارة في المناطق القاحلة، هذه الشخصيات الجريئة والمتمتعة بعقول نقّادة قادرة على الاشتباك مع القضايا الأكثر حساسية، وتفكيك منطق الجماعة المعقد، الذي يناصر عادات وأفعالا مسيئة لأفراده، هذه الشخصيات تقابل أول ما تقابل عزلا اجتماعيا، يقوده رجال الدين، وخاصة المنتمين لتيارات متطرفة، يشنون هجومًا عنيفًا على مبادئها وأخلاقها، حتى لا يستمع إليها الشباب، ولا يقرأ لها أحد، ولا يناصر قضاياها إنسان.
كنت متخوفا مما أقرأه لها، لكنها كانت ماهرة في مخاطبة العقول، فالذي يقرأ لكتابات الدكتورة  نوال يجد عذوبة ورقة بالغة، في الوقت نفسه لا تستسلم لمنطق التأثير على الناس بتحويراتها الأدبية وعباراتها الملفوفة بالرقة والحنان، هي تقدم أراءها في لغة رائقة مشفوعة بتصورات عقلية، وبصورة منطقية للغاية، وانشغلت في مؤلفاتها بالمرأة وكيفية تربيتها، وطرق المجتمعات الشرقية في حصار المرأة والضغط عليها لتظل حبيسة البيوت، فليس لها الحق في شيء، إلا في تجميل نفسها للرجل فقط، لكن خروجها للعمل ومنافسة الرجل على أعلى المناصب، يعتبر جريمة لا تغتفر، فهي -وفق تصورات تلك التيارات- عورة، يجب أن تتخفي ولا يظهر منها إلا العينان من وراء شاش رقيق يتيح لها الرؤية.
في مذكراتها "مذكرات طبيبة" لمست قدرا كبيرا من الإنسانية، فما قيمة الطبيب عندما يتحول إلى تاجر، يبني ثروته من آلام الناس، ويتعاظم جشعه أمام قلة حيلة المريض، فهي عندما تحركت ليلا لتجري فحصًا طبيا لمريض بالدرن الرؤي  يسكن حجرة صغيرة في بدروم، ممتلئة بالرطوبة، تنزعج ويصيبها الذعر عندما يسحب ذلك المريض من أسفل وسادته  جنيها ويقدمه بيد نحيلة لها كأجر، فتشعر بأنها تفقد الوعي، وتستنكر أن يكون للطبيب أجر، وهذه رؤية مثالية للغاية لا يمكن تحقيقها لكنها على أي حال لابد أن تبعث صحوة للشعور الإنساني داخل القارئ، فينتبه لما يفعله، وكتاباتها على الدوام تنحاز للمشاعر الإنسانية تلك.
هذا اللون الإنساني الذي يؤطر ما تسرده داخل كل مقالاتها، حتى التي تؤجج فيها معاركا جديدة ضد ظلامية العادات والمعتقدات، نجده يتجدد مع تقدمها في العمر ولا يتوارى، ففي مقال لها نشرته مؤخرا بعنوان "عنب لذيذ في احتفال العام الجديد" تقول : " لم تعد الأنوار تبهرني، ولا المهرجانات والجوائز، ولا الفساتين المكشوفة أو الشوارب المفتولة، لم يعد المديح يسعدني، ولا الشتائم تؤلمني، أفرح بفنجان شاى له طعم الشاى الحقيقي، وحبة عنب لها طعم العنب، أو قطعة طماطم لها طعم الطماطم، أو إنسان له طعم الإنسان، لم يعد لأى شيء فى حياتنا طعمه الحقيقي، حتى الإنسان والصداقة والحب والوفاء بالوعد.
لم أعد الفتاة الممشوقة، التي تسبح في البحر وتصعد فوق الأمواج، أصبحت أجلس على الشط، أمد ساقى بحرص فى الماء، وأسحبها بسرعة، قبل أن تجرفني الموجة، أمشى بحذر فوق الأرض، أتأكد من صلابتها تحت قدمي، أخشى التعثر فى طوبة، أو السقوط فى حفرة ، أو بالوعة مجاري، كنت أصحو مع شروق الشمس أغنى كالعصافير، وأطير للحب والصداقات، كان الحب يحوطني، والصداقات تغرقني، والأمل يملؤني، والطريق للسماء مفتوحا على مصراعيه أمامي".
وفي مذكرات الطبيبة أيضا نقرأ شجاعة أنثى تستطيع أن تجالس رجلا بمفردها، حتى إذا أرادات أن تمنع نفسها عنه منعته، ولو كانا بمفرديهما، ولو أرادات أن تمنحه نفسها فهي قادرة على ذلك حتى لو كانا وسط جموع الناس، فتزرع ثقة كبيرة في قوة الفتاة الداخلية وليس كما يشاع عن ضعفهن وقلة حيلتهن. 
عارضت سعداوي الكثير من العادات وهاجمت أخلاق الرجل الشرقي الذي يرى في المرأة مصدرا رخيصا للمتعة، ووقفت بجوار الفتيات تزرع فيهن الثقة وتطالبهن بمزيد من النجاحات العلمية والمهنية، ساندت قضايا التمرد الفكري، وحرية الإبداع، ناقشت الأمور السياسية، واشتبكت مع الحق العربي الفلسطيني، وجادلت أفكار الجماعات المتطرفة، ترفض كل أشكال التمييز القائمة على أساس الدين أو العرق أو اللون، يمكننا القول أنها شهدت كثيرا قد تحقق مما طمحت إليه، بينما يظل الأكثر بحاجة لمزيد من التوعية بشأنه، لقد كانت مصدرا كبيرا من مصادر المعرفة لأجيال كثيرة من الشباب، عرفوا في مقالاتها وكتبها شجاعة المواجهة وجرأة التفكير، ورسموا لعقولهم الطريق ناحية التمرد والثورة على الأفكار القديمة، التي لا تصنع مجتمعًا مدنيًا راقيًا، بقدر ما تؤسس وترسخ لعبودية الإنسان للإنسان.
ورغم ما تعنيه السيدة النبيلة من ظروف صحية تتلق ببصرها او بتقدمها في السن، فإنها لا تزال تتمتع بروح شابة قوية متوثبة للدفاع عن حقوق المرأة، لا تزال تتمتع بمشاعر بريئة تشبه أحاسيس طفل لم تدنسه قذارة الحياة وعفونة الواقع، لا تزال تتمتع بجمهور عريض من الشباب يقرأ مؤلفاتها الأدبية والفكرية ويعيد صياغة تصوراته حول المجتمع وتجاه المرأة.

    

شارك