المتطرفون وتركيا.. علاقة مصلحة أم قنبلة موقوتة في الشمال السوري؟

الجمعة 29/نوفمبر/2024 - 12:57 ص
طباعة المتطرفون وتركيا.. حسام الحداد
 
أعلنت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا)، المدعومة بفصائل مسلحة أخرى، سيطرتها على نقاط استراتيجية شمال سوريا، بما فيها عقدة الطرق الدولية "M4" و"M5"، مما أدى إلى قطع الطريق الدولي الذي يربط دمشق بحلب.
وأفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان الخميس 28 نوفمبر أن المواجهات، التي اندلعت منذ فجر الأربعاء، أسفرت عن مقتل 182 مسلحًا، بينهم 102 من هيئة تحرير الشام و19 من فصائل موالية لتركيا، إضافة إلى 61 من الجيش السوري وحلفائه. 
في المقابل، أعلنت وزارة الدفاع السورية عن "تصدي قواتها" لهجوم وصفته بـ"الكبير"، مشيرة إلى أن الفصائل المسلحة استهدفت القرى الآمنة والنقاط العسكرية باستخدام أسلحة ثقيلة. كما شنت القوات السورية والطائرات الروسية غارات مكثفة استهدفت مناطق في إدلب وريف حلب، ما أسفر عن مقتل 19 مدنيًا على الأقل، وفقًا للمرصد. 
ويشير التصعيد الأخير في شمال سوريا بين هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) والجيش السوري إلى تعقيدات متزايدة في الصراع المستمر منذ أكثر من عقد. الإعلان عن سيطرة الهيئة، المدعومة بفصائل مسلحة أخرى، على نقاط استراتيجية مثل عقدتي الطرق الدوليتين "M4" و"M5" يفتح الباب لتحليل أعمق للسياقات المحيطة بهذا التطور وآثاره المستقبلية على المشهد السوري.
فالسيطرة على "M4" و"M5"، وهما شريانان حيويان يربطان دمشق بحلب وريف اللاذقية، تحمل أبعادًا استراتيجية بالغة الأهمية. هذه الطرق ليست مجرد ممرات نقل، بل تمثل رمزًا لسيادة الدولة وقدرتها على الحفاظ على خطوط الإمداد. قطع هذه الطرق يضر بمصالح النظام السوري، ويُظهر فشل القوات الحكومية في تأمين المناطق الاستراتيجية رغم الدعم الروسي والإيراني.
من جهة أخرى، يشير ذلك إلى تطور تكتيكي لدى هيئة تحرير الشام، التي تثبت قدرتها على تنفيذ عمليات منسقة وتحدي الجيش السوري وحلفائه. ورغم الخسائر البشرية الكبيرة التي تكبدتها (102 مسلحًا)، فإن هذا الإنجاز يمنحها نقاط قوة في أي مفاوضات مستقبلية ويعزز نفوذها داخل إدلب والشمال السوري.
الدور التركي وازدواجية المواقف
تركيا تدعم فصائل من المعارضة السورية المعتدلة، مثل الجيش الوطني السوري (المدعوم مباشرة من أنقرة)، كجزء من استراتيجيتها لبناء مناطق نفوذ مستقرة شمال سوريا. هذه الفصائل تعتمد بشكل كبير على الدعم التركي في التمويل والتسليح والتنظيم، وهو ما يجعلها أداة أساسية في تحقيق الأهداف التركية. في الوقت ذاته، هذه الفصائل غالبًا ما تدخل في مواجهات مع هيئة تحرير الشام، التي تنافس على السيطرة والنفوذ في إدلب.
ورغم اعتبار هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية وفقًا للعديد من الأطراف الدولية، تتبنى تركيا نهجًا براجماتيًا في التعامل معها. أنقرة تحاول استيعاب الهيئة وإبقائها ضمن حدود معينة من النفوذ، لتجنب حدوث فراغ أمني قد يؤدي إلى تفاقم الفوضى في إدلب. تركيا تسعى أيضًا إلى منع أي صدام واسع النطاق بين الهيئة والقوات الروسية أو السورية، والذي قد يؤدي إلى موجة نزوح جديدة نحو حدودها.
ونهج تركيا هذا يعكس توازنًا معقدًا بين الضغوط الداخلية والخارجية. داخليًا، تواجه أنقرة مخاوف متزايدة من الرأي العام التركي بشأن تكلفة الحرب في سوريا ووجود ملايين اللاجئين السوريين على أراضيها. خارجيًا، تجد تركيا نفسها في مواجهة ضغوط روسية للتعاون في تنفيذ اتفاقيات مثل "سوتشي" و"أستانا"، والتي تهدف إلى تقليص نفوذ الجماعات المتطرفة.
تهديد الأمن القومي التركي رغم نجاح تركيا في تقليص نفوذ الأكراد على حدودها، فإن وجود جماعات متطرفة قوية، مثل هيئة تحرير الشام، قد يشكل تهديدًا طويل الأمد. هذه الجماعات قد تتحول في أي لحظة إلى خصم لأنقرة، خاصة إذا شعرت أن تركيا تسعى للحد من نفوذها.
كما أن الدور التركي في الشمال السوري يضع تركيا في صدام مستمر مع المصالح الروسية والإيرانية. أنقرة مطالبة بتنفيذ التزاماتها في إدلب، مثل تقليص وجود الجماعات المسلحة المتطرفة، لكن أي تصعيد قد يؤدي إلى أزمة جديدة مع موسكو أو دمشق.
واخيرا فان استمرار التوترات في إدلب يزيد من احتمالية موجة جديدة من النزوح باتجاه الحدود التركية. تركيا، التي تستضيف بالفعل أكثر من 3.6 مليون لاجئ سوري، لا تستطيع تحمل مزيد من الأعباء، مما يدفعها إلى اتخاذ تدابير دفاعية مشددة على حدودها.
فالسياسة التركية في شمال سوريا تسعى إلى تحقيق أهداف متناقضة: من جهة، تدعم أنقرة فصائل معارضة لتحجيم نفوذ النظام السوري، ومن جهة أخرى، تضطر للتعامل مع الجماعات المتطرفة لضمان استقرار نسبي في إدلب. هذه الاستراتيجية المزدوجة توفر لأنقرة مكاسب قصيرة الأمد، لكنها محفوفة بالمخاطر على المدى البعيد، حيث قد تجد تركيا نفسها في مواجهة جماعية مع الأطراف كافة، بما في ذلك الجماعات التي تتعاون معها اليوم.
لذلك، تحتاج تركيا إلى صياغة رؤية أكثر وضوحًا بشأن كيفية إدارة ملف الشمال السوري. استمرار العمل بسياسة الموازنة بين الأطراف قد يؤدي إلى فقدان السيطرة على المشهد، ويضع أنقرة في موقع دفاعي أمام ضغوط إقليمية ودولية متزايدة.
التصعيد الجوي السوري-الروسي
الرد العسكري المكثف من قبل النظام السوري وحليفه الروسي يعكس رغبة في استعادة السيطرة بأي ثمن. الغارات الجوية التي أسفرت عن مقتل مدنيين تشير إلى نهج تصعيدي، يهدف إلى إرغام المدنيين والفصائل المسلحة على الاستسلام، لكنه يعزز أيضًا مشاعر الغضب ويزيد من تعقيد الأزمة الإنسانية.
قراءة مستقبلية للصراع
السيطرة على طرق استراتيجية تعزز من مكانة هيئة تحرير الشام كلاعب أساسي في شمال سوريا، مما قد يشجعها على مواصلة تمددها العسكري والجغرافي. ومع افتقار المعارضة السورية المعتدلة إلى دعم دولي قوي، قد تجد الجماعات المتطرفة مساحة أكبر لتوسيع نفوذها، مما يفاقم خطر الإرهاب على المستويين الإقليمي والدولي.
التطورات الأخيرة تُضعف فرص التوصل إلى حل سياسي قريب. هيئة تحرير الشام، التي تعتبرها العديد من الدول منظمة إرهابية، تعزز من وضعها كقوة مهيمنة في الشمال، مما يجعل إدماجها في أي تسوية سياسية أكثر تعقيدًا. وفي المقابل، يُظهر عجز النظام السوري عن تأمين المناطق الاستراتيجية هشاشة سيطرته، مما قد يدفع روسيا إلى مراجعة استراتيجيتها في دعم دمشق.
استمرار العمليات العسكرية يزيد من تفاقم الوضع الإنساني، حيث تتسبب الغارات الجوية والنزوح القسري في مزيد من المآسي. تزايد أعداد القتلى المدنيين قد يدفع بالمجتمع الدولي لممارسة ضغوط أكبر على الأطراف المتصارعة، لكنه لن يكون كافيًا لوقف التصعيد في ظل غياب إرادة دولية حقيقية لإنهاء الحرب.
استنتاجات
الصراع في شمال سوريا لا يزال مفتوحًا على كافة الاحتمالات، من تصعيد عسكري واسع النطاق إلى تهدئة مؤقتة تفرضها ضغوط دولية. ومع ذلك، فإن الأحداث الأخيرة تؤكد أن هيئة تحرير الشام باتت لاعبًا يصعب تجاهله، ما يثير أسئلة حول قدرة النظام السوري وحلفائه على تحقيق نصر حاسم، ويفتح الباب أمام سيناريوهات مظلمة، منها تصاعد نفوذ الجماعات المتطرفة واندلاع مواجهات جديدة قد تطال أطرافًا أخرى في الإقليم.
يبقى الحل السياسي الشامل هو المخرج الوحيد من هذا المأزق، لكن مع غياب توافق دولي وإقليمي، يبدو أن النزاع في سوريا سيظل ساحة مفتوحة للصراعات المسلحة والرهانات الجيوسياسية المعقدة.

شارك