مصر وقرار تنظيم دخول السوريين: بين الأمن القومي والمسؤولية الإنسانية
الأحد 05/يناير/2025 - 02:35 ص
طباعة
في ضوء القرار المصري الأخير بتنظيم دخول السوريين إلى أراضيها، قوبل هذا القرار بموجة من الانتقادات، بعضها اتسم بالعقلانية والحرص على مصلحة اللاجئين، بينما انجرف البعض الآخر نحو خطاب حاد ومسيء يتجاهل الواقع السياسي والأمني الذي دفع القاهرة لاتخاذ مثل هذا الإجراء.
السياق الأمني للقرار
لا يمكن النظر إلى قرار تنظيم دخول السوريين إلى مصر بعيدًا عن اعتبارات الأمن القومي المصري. سوريا، بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية، أصبحت ساحة مفتوحة للفصائل المسلحة والجماعات ذات الأيديولوجيات المتطرفة. انهيار البنية التحتية للمؤسسات السيادية السورية، وتدمير الأرشيف والوثائق الرسمية، أدى إلى انعدام الثقة في المستندات الصادرة عن جهات رسمية سورية.
أضف إلى ذلك، فإن اختراق الجماعات المتطرفة لبعض المؤسسات والهيئات السورية يجعل من الصعب التحقق من خلفيات الأفراد القادمين من هناك. هذا الوضع يفرض على أي دولة ذات سيادة، مثل مصر، أن تتعامل بحذر مع حركة الدخول والخروج، حفاظًا على أمنها الداخلي واستقرارها الاجتماعي.
علاوة على ذلك، فإن التدفق غير المنظم للأفراد عبر الحدود يشكل تحديًا أمنيًا كبيرًا، خاصة في ظل استغلال بعض الجماعات المتطرفة لحالة الفوضى وغياب الرقابة الأمنية في سوريا لزرع عناصرها بين اللاجئين. هذا الخطر لا يقتصر على تنفيذ هجمات مباشرة، بل يشمل أيضًا نشر أفكار متطرفة أو بناء شبكات دعم لوجستية داخل الدولة المستضيفة. لذلك، يصبح فرض إجراءات تنظيمية وتشديد الرقابة على حركة الدخول والخروج ضرورة قصوى وليس خيارًا، لضمان عدم اختراق الأمن القومي المصري.
كما أن التغيرات السريعة في المشهد السياسي السوري، واحتمالية استغلال بعض الأطراف الإقليمية والدولية لملف اللاجئين كأداة للضغط السياسي أو الأمني على دول أخرى، يضيف بعدًا جديدًا لتعقيد المشهد. إن وجود أفراد غير موثقين أو غير معروفين من ناحية الخلفية الأمنية قد يفتح الباب أمام محاولات لزعزعة الاستقرار الداخلي في مصر. من هنا، يصبح قرار تنظيم دخول السوريين ليس مجرد مسألة إدارية، بل هو إجراء استباقي يهدف إلى الحفاظ على الأمن القومي وحماية المجتمع المصري من أي اختراق محتمل.
مقارنات مع مواقف دول أخرى
الانتقاد الموجه لمصر يتجاهل حقيقة أن العديد من الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، اتخذت خطوات مشابهة. هذه الدول أوقفت مؤقتًا أو قيدت بشكل صارم استقبال اللاجئين السوريين بعد انهيار الوضع الأمني في سوريا. كذلك، لم تكن فرص حصول السوريين على تأشيرات لدول مثل كندا وأوروبا متاحة بشكل واسع؛ إذ لا تتجاوز نسبة القبول هناك 10%.
على الجانب الآخر، بعض الدول الإقليمية استخدمت ملف اللاجئين السوريين كورقة ضغط سياسي واقتصادي على أوروبا، وهددت مرارًا بفتح الحدود وترك اللاجئين يعبرون إلى أوروبا ما لم تتحقق مطالبها السياسية أو الاقتصادية.
إلى جانب ذلك، يجب الإشارة إلى أن الدول الأوروبية، رغم قدراتها الاقتصادية الكبيرة وبنيتها التحتية القوية، فرضت قيودًا مشددة على استقبال اللاجئين السوريين، ووضعت شروطًا معقدة للحصول على حق اللجوء أو الإقامة. ففي بعض الحالات، كانت طلبات اللجوء تُرفض لأسباب إدارية أو سياسية بحتة، بعيدًا عن الظروف الإنسانية التي دفعت هؤلاء اللاجئين للهروب من بلادهم. كما أن بعض الحكومات الأوروبية اعتمدت سياسات صارمة، مثل إعادة اللاجئين إلى دول العبور الأولى أو فرض برامج إعادة توطين محدودة العدد تخضع لمعايير معقدة.
من ناحية أخرى، شهدنا بعض التجارب الإقليمية التي أظهرت استغلالًا فجًّا لملف اللاجئين كورقة ضغط على المجتمع الدولي. فبينما احتجزت بعض الدول اللاجئين في معسكرات تفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة، هددت أخرى بفتح حدودها وإطلاق موجات هجرة جماعية نحو أوروبا كلما احتدمت الخلافات السياسية مع الدول الغربية. هذه الممارسات تعكس ازدواجية واضحة في التعامل مع أزمة اللاجئين، حيث تُستخدم معاناة البشر لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية، بدلًا من تبني حلول واقعية وإنسانية للأزمة. وفي ضوء هذه المقارنات، يتضح أن قرار مصر بتنظيم دخول السوريين هو نهج مسؤول يوازن بين الاعتبارات الأمنية والإنسانية دون استغلال أو متاجرة بمعاناة الشعب السوري.
مصر والسوريون: علاقة استثنائية
منذ بداية الأزمة السورية، استقبلت مصر مئات الآلاف من السوريين دون وضعهم في مخيمات أو فرض قيود صارمة عليهم. السوريون في مصر اندمجوا في المجتمع المصري، ونجحوا في إنشاء مشروعات اقتصادية ناجحة، وأصبحوا جزءًا من النسيج الاجتماعي.
المصريون بدورهم رحبوا بالسوريين كأشقاء عرب ومسلمين، ولم يعانِ السوريون في مصر من التمييز أو الرفض الاجتماعي. بل أصبح لهم مساهمات واضحة في الاقتصاد المحلي، سواء عبر المشروعات الصغيرة أو من خلال توظيف عمالة محلية.
العلاقة بين المصريين والسوريين تمتد جذورها إلى ما قبل الأزمة السورية، حيث جمعت البلدين روابط تاريخية وثقافية عميقة، تعززت بعد اندلاع الأزمة السورية عام 2011. لم تتعامل مصر مع السوريين كلاجئين بالمعنى التقليدي، بل كضيوف وأشقاء، مما سمح لهم بالاندماج في المجتمع المصري بسهولة. لم تُنشئ مصر مخيمات أو مناطق معزولة للسوريين، بل فتحت أمامهم المجال للعمل والإقامة بحرية، مما انعكس إيجابيًا على أوضاعهم المعيشية والنفسية، وخلق بيئة مستقرة سمحت لهم بإعادة بناء حياتهم بعيدًا عن أجواء الحرب والدمار.
اقتصاديًا، كان للسوريين دور بارز في تحريك عجلة الاقتصاد المصري، خاصة في قطاعات مثل الصناعات الغذائية والملابس والمطاعم. أصبح للعلامات التجارية السورية وجود قوي في الأسواق المصرية، وخلقت هذه المشروعات فرص عمل للعديد من المصريين. إضافة إلى ذلك، عزز السوريون العلاقات التجارية بين مصر وبلدان أخرى من خلال شبكاتهم التجارية الواسعة. هذا النموذج الناجح من الاندماج الاقتصادي والاجتماعي يعكس مرونة البيئة المصرية في استيعاب الوافدين، ويؤكد أن مصر لم تتعامل مع الأزمة السورية من منطلق إنساني فقط، بل أيضًا برؤية تنموية تدعم الاقتصاد المحلي وتعزز التماسك الاجتماعي.
ازدواجية المعايير في النقد
من غير المنطقي أن تُوجّه الانتقادات لمصر بسبب قرار سيادي مُبرر أمنيًا وإنسانيًا، بينما تُغض الطرف عن دول أخرى انتهجت سياسات أكثر قسوة تجاه اللاجئين السوريين. فبعض الدول أغلقت حدودها تمامًا، بينما وضعت دول أخرى اللاجئين في معسكرات مغلقة تفتقر إلى أبسط معايير الحياة الكريمة، بل وصلت بعض الحكومات إلى حد استخدام اللاجئين كورقة ضغط سياسي لابتزاز المجتمع الدولي. الغريب أن هذه الممارسات لم تُقابل بنفس الحدة من الانتقاد الذي وُجه لمصر، رغم أن الأخيرة لم تغلق أبوابها أمام السوريين بل نظمت دخولهم بما يتوافق مع أمنها القومي وسيادتها الوطنية.
الأخطر من ذلك أن حملات التشويه والانتقاد الممنهج التي تستهدف مصر لا تبدو نزيهة أو نابعة من حرص حقيقي على أوضاع اللاجئين السوريين، بل تأتي في إطار أجندات سياسية تقودها جماعة الإخوان المسلمين وأذرعها الإعلامية. هذه الحملات تستهدف استغلال أي قرار مصري وتحويله إلى أداة لإثارة الرأي العام، وبث حالة من الغضب بين السوريين والمصريين على حد سواء. الهدف الأساسي من ذلك هو خلق حالة من الفوضى والاضطراب الداخلي، وضرب الثقة بين الشعب المصري ومؤسساته.
إن التركيز المبالغ فيه على قرار تنظيم دخول السوريين لمصر، وتجاهل مواقف دول أخرى، يفضح النوايا الحقيقية لتلك الأصوات. جماعة الإخوان المسلمين تحاول استثمار أي حدث لتحريك الشارع المصري وإظهار الدولة بمظهر المتعسف والفاقد للشرعية. لكن الحقيقة التي يدركها السوريون أنفسهم، أن مصر كانت ولا تزال ملاذًا آمنًا لهم، وأن إجراءات تنظيم الدخول ليست موجهة ضدهم، بل هي جزء من استراتيجية أوسع للحفاظ على أمن واستقرار البلاد. إن المزايدات السياسية ومحاولات التشويه الإعلامي لن تُغير من الواقع شيئًا، فالعلاقة بين المصريين والسوريين أعمق من أن تهتز بمثل هذه الادعاءات المغرضة.
مصر: دولة مركزية لا يمكن عزلها
مصر ليست معزولة ولن تكون كذلك. قوتها الإقليمية ودورها المركزي في الملفات العربية والدولية تجعلها دولة محورية لا يمكن تجاوزها. قرارها بتنظيم دخول السوريين لا يعني انسلاخها عن مسؤوليتها الإنسانية، بل هو محاولة للتوفيق بين الأمن القومي والحفاظ على سيادتها من جهة، وبين استمرارها في احتضان السوريين الموجودين على أراضيها من جهة أخرى.
لطالما كانت مصر لاعبًا رئيسيًا في المنطقة، ليس فقط بحكم موقعها الجغرافي الاستراتيجي، ولكن أيضًا بدورها التاريخي والسياسي في القضايا العربية والإقليمية. فهي الدولة التي تحملت مسؤوليات كبيرة تجاه أزمات المنطقة دون أن تتهرب أو تتاجر بتلك الأزمات لتحقيق مكاسب ضيقة. وفيما يتعلق بالملف السوري، كانت مصر دائمًا طرفًا داعمًا للحل السياسي السلمي، ورفضت التدخلات الخارجية التي تسعى لتفتيت الدولة السورية أو استغلال أزمتها. هذا الموقف الثابت يؤكد أن قرارات مصر السيادية، بما في ذلك تنظيم دخول السوريين، تأتي في إطار الحفاظ على الأمن القومي دون المساس بالمسؤولية الإنسانية والأخلاقية التي تحملتها تجاه الشعب السوري.
إضافة إلى ذلك، فإن العلاقات المصرية-السورية ليست مجرد علاقات عابرة أو ظرفية، بل هي علاقات تاريخية متجذرة تقوم على روابط ثقافية واجتماعية وسياسية عميقة. وبالتالي، فإن أي قرار مصري يتعلق بالشأن السوري يخضع لدراسات دقيقة تأخذ في اعتبارها مصلحة البلدين على المدى الطويل. إن الدول التي تحاول الترويج لفكرة "عزل مصر" أو تصوير قراراتها على أنها انغلاق أو تخلي عن دورها، تتجاهل عمق العلاقات المصرية-السورية والدور الفاعل الذي تلعبه القاهرة كضامن للاستقرار الإقليمي. مصر لم ولن تنسحب من التزاماتها، لكنها في الوقت نفسه لن تسمح بأن تكون أرضها مسرحًا لأي تهديد يمس أمنها القومي أو استقرارها الداخلي.
خاتمة
القرارات السيادية تُبنى على معطيات سياسية وأمنية واقتصادية دقيقة. ومصر، التي احتضنت السوريين منذ اندلاع الأزمة دون تمييز أو استغلال، ليست بحاجة لتبرير قرار يهدف بالأساس إلى حماية أمنها القومي. إذا كان هناك نقد يُوجه، فليكن للدول التي استغلت أزمة اللاجئين سياسيًا، أو تلك التي أغلقت أبوابها في وجههم. مصر فعلت وستظل تفعل ما يتوافق مع مصالحها الوطنية، دون أن تتخلى عن مسؤولياتها تجاه الأشقاء العرب.