من كربلاء إلى بغداد: كيف تُستخدم الطقوس لتقويض الدولة؟
الأحد 06/يوليو/2025 - 03:27 ص
طباعة

أصدر "أبو علي العسكري"، المسؤول الأمني لكتائب حزب الله العراقي، السبت 5 يوليو 2025، بيانًا بمناسبة ذكرى عاشوراء، لكنه لم يكن مجرد خطاب ديني تقليدي أو عاطفي، بل جاء محمّلًا برسائل سياسية وأمنية حادة، تتجاوز السياق المحلي إلى الإقليمي والدولي. البيان استثمر المناسبة الدينية لإعادة إنتاج خطاب يزاوج بين الرمزيات العقائدية الشيعية وبين مفاهيم العنف المسلح، حيث تمّ توظيف ذكرى استشهاد الإمام الحسين كمنصة لتبرير بقاء السلاح خارج سلطة الدولة، ورفض كل محاولات نزع السلاح أو دمج الميليشيات في المنظومة الوطنية.
ما يثير القلق في هذا البيان هو طبيعته المركّبة: فهو يدمج بين المقدّس الديني والمشروع السياسي، بين مظلومية كربلاء ومظلومية الجماعة المسلحة، في محاولة لصياغة سردية "مقاومة" تعلو على الدولة والمؤسسات والقانون. كما يتضمّن إشارات صريحة للخصومة مع الحكومة والمرجعية الدينية التقليدية، ويُحمّل أطرافًا إقليمية كالسعودية وأمريكا مسؤولية ما يسميه "الفتنة الطائفية"، مما يعكس تمترس كتائب حزب الله ضمن محور إقليمي رافض لأي تهدئة أو تسوية. وبذلك، يتحوّل البيان إلى أداة لإعادة تأجيج الانقسام الداخلي في العراق، وتكريس العراق كساحة صراع مفتوحة بين المحاور المتنافسة.
السياق الزمني والديني للبيان
صدر البيان في توقيت بالغ الرمزية؛ إذ تزامن مع ذكرى عاشوراء، التي تمثّل في الوجدان الشيعي لحظة ذروة في استحضار المظلومية التاريخية والانبعاث الثوري. وهي ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي، التي تحوّلت عبر التاريخ الشيعي من واقعة دينية إلى طقس تعبوي يستخدم لإحياء فكرة مقاومة الظلم ورفض الاستسلام. وبالتالي، فإن إدراج البيان في هذا الإطار الزمني ليس اعتباطيًا، بل يستهدف استثمار الطاقة العاطفية والدينية لهذه المناسبة في توجيه خطاب سياسي وأمني.
البيان يوظّف عاشوراء كمنصة لإعادة إحياء فكرة "السلاح المقدس"، حيث لا يتم الحديث عن المقاومة كخيار ظرفي، بل كسلوك دائم متصل بجوهر العقيدة. لا يكتفي الخطاب بتبرير وجود السلاح، بل يرتقي به إلى مستوى "الوفاء للحسين"، ويجعل منه امتدادًا لصراع كربلاء. هكذا يتحول السلاح من أداة دفاع مؤقتة إلى رمز وجودي له قدسية لا تُمس، يتجاوز القانون والدولة، ويعلو على المؤسسات المدنية.
هذا التداخل بين الدين والسلاح يحمل دلالات عميقة، فهو محاولة لـ"تأبيد" الحالة الميليشياوية عبر ربطها بنموذج الحسين كرمز للتضحية. فبدل أن يكون حمل السلاح فعلًا سياسيًا محكومًا بظروف أمنية أو سياسية، يُعاد تعريفه كمكوّن روحي وشرعي لا يمكن التخلي عنه دون الوقوع في خانة "الخيانة" أو "الخذلان". ومن هنا، تظهر محاولة خطيرة لشرعنة وجود السلاح خارج سلطة الدولة، وتحويله إلى جزء من هوية المجتمع، لا مجرد وسيلة ظرفية للدفاع.
الثنائيات القاتلة
ينطلق بيان "أبو علي العسكري" من بنية خطابية تقوم على إنتاج ثنائيات حادة ومغلقة، وهي سمة جوهرية في أدبيات الحركات الراديكالية. إذ يُقسّم البيان الواقع العراقي إلى معسكرين لا ثالث لهما: "معسكر المقاومة" بوصفه معسكر النقاء العقائدي والكرامة، و"معسكر العملاء" الذين يُصوَّرون كأدوات بيد المشروع الأمريكي–السعودي. ويُستحضر في هذا الإطار الرمزي ثنائية الحسين ويزيد، باعتبارها المعادل الرمزي الأبدي للصراع بين الحق والباطل. وبذلك يُختزل التاريخ والسياسة والدولة والمجتمع في معركة أخلاقية مقدسة لا تحتمل النقاش أو التنوع.
هذا النمط من الخطاب لا يكتفي بتحديد موقف سياسي، بل يفرض معايير صارمة للولاء والانتماء، تُبنى على أسس عقائدية لا مدنية. كل من لا ينضوي تحت راية "السلاح المقاوم" يصبح متهمًا بالخيانة أو التخاذل، وكل من يدعو إلى نزع السلاح يُصنّف تلقائيًا ضمن صفوف "أعداء الحسين" أو "خدمة يزيد". وهنا، يُستبدل الحوار الديمقراطي والمواطنة المشتركة بمنطق الإقصاء العقائدي، ما يهدد بتفكيك الهوية الوطنية العراقية لصالح هويات فرعية ذات طبيعة دينية–مسلحة.
النتيجة الأخطر لهذا الخطاب هي تعميق الانقسام المجتمعي وفتح الباب أمام صراعات داخلية مستترة أو علنية. فحين يُحوَّل الاختلاف السياسي إلى خيانة دينية، يصبح العنف احتمالًا مشروعًا، وتتحول الدعوات إلى بناء دولة القانون إلى تهديدات وجودية. هذا النوع من الخطاب لا يهدد فقط خصومه السياسيين، بل يهدد الدولة نفسها، إذ يُمهد لتقويضها من الداخل عبر تجريدها من شرعيتها أمام جمهور يُعاد تشكيل وعيه على أسس من التقديس للعنف والتكفير للخصوم.
مهاجمة الحكومة والرموز الدينية الأخرى
يتضمن البيان هجومًا مبطنًا على المرجعية الدينية العليا في النجف، المتمثلة في السيد علي السيستاني، من خلال الترويج لفكرة أن "السلاح المقاوم" هو الخيار الصحيح في وجه الاحتلال الأمريكي والهيمنة الخارجية، مقابل ما يُوصف ضمنًا بـ"السكوت" أو "التخاذل" من قبل المرجعية التقليدية. هذا التلميح يُعيد إلى السطح التوتر التاريخي بين ما يُعرف بـ"المرجعية الثورية" التي تتبناها طهران، و"المرجعية الصامتة" أو "الهادئة" التي تمثلها النجف، والتي تؤمن بدور الدولة ومؤسساتها القانونية، وترفض عسكرة المجتمع.
الخطير في هذا التوجه أنه لا يستهدف الدولة فقط، بل يسعى لإضعاف الرمزية الدينية التي تمثل توازنًا عقلانيًا داخل الطائفة الشيعية العراقية. فالمرجعية السيستانية طالما دعت إلى حصر السلاح بيد الدولة، وساندت المسار الديمقراطي والانتخابات، ورفضت أي تدخل أجنبي في الشأن الوطني. وبالتالي، فإن انتقادها أو التقليل من شأنها هو في حقيقته طعن في كل مشروع سياسي يهدف إلى بناء دولة مدنية، ويُراد من ذلك إخلاء الساحة أمام الخطاب العقائدي المتشدد الذي يقوده محور الميليشيات.
من هنا، لا يُعد هذا الخطاب مجرد موقف فكري أو ديني، بل هو محاولة موجهة لتصفية النفوذ الرمزي للنجف مقابل تعزيز سطوة "ولاية الفقيه" كمرجعية بديلة تمتلك السلاح والمال والنفوذ السياسي. وهذا يفتح جبهة انقسام جديدة داخل البيت الشيعي نفسه، تُضاف إلى أزمات العراق المركّبة، وتُهدد بتمزيق ما تبقى من وحدة وطنية ومذهبية، وتحويل المرجعيات إلى أطراف متصارعة بدل أن تكون مظلة جامعة وراعية للسلم الأهلي.
الخصومة مع السعودية وأمريكا
يحمل البيان طابعًا هجوميًا واضحًا تجاه كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، إذ يُحمّلهما مسؤولية ما يصفه بـ"الفتن الطائفية" والحروب بالوكالة في المنطقة. ويستخدم البيان مفردات مألوفة في خطاب "محور الممانعة"، من قبيل "التكفيريين المدعومين أمريكيًا"، في محاولة لربط الجماعات الإرهابية السنية بهاتين القوتين، ضمن استراتيجية خطابية تهدف إلى إعادة تأجيج مشاعر العداء الإيديولوجي والسياسي تجاه "المحور العربي–الأمريكي".
هذه الرسائل لا تأتي في فراغ، بل في سياق حساس يشهد انفتاحًا نسبيًا في العلاقات العراقية–السعودية، وتطبيعًا متدرجًا مع بعض القوى الإقليمية، ومحاولات لتهدئة التوترات عبر قنوات الوساطة الإقليمية. إلا أن بيان الميليشيا يُظهر رفضًا قاطعًا لأي تقارب من هذا النوع، ويعيد ترسيم خريطة الأعداء والحلفاء وفق منطق الحرب الباردة، حيث تبقى إيران و"المقاومة" في مواجهة "الهيمنة الأمريكية" و"أدواتها الخليجية". وهو خطاب يُغذّي الاستقطاب الإقليمي ويُعطّل فرص الحوار السياسي.
في هذا السياق، يُمثّل البيان عائقًا مباشرًا أمام جهود استقرار العراق والمنطقة، إذ يرسل رسائل سلبية إلى الدول الجارة مفادها أن العراق ليس موحدًا في سياسته الخارجية، وأن الميليشيات قادرة على تعطيل المسارات الدبلوماسية متى شاءت. كما أنه يُعرقل جهود الوساطة الإقليمية والدولية، ويُضعف موقع الحكومة العراقية أمام شركائها، ويفتح الباب أمام مزيد من التوترات التي قد تُستغل من قبل قوى متطرفة أو معادية للاستقرار الإقليمي.
تأثير البيان على الأمن الإقليمي
على المستوى الداخلي، يُعد البيان تهديدًا مباشرًا لسلطة الدولة العراقية، إذ يُقدّم السلاح غير النظامي بوصفه أداة شرعية و"مقدسة"، بل وبديلًا أخلاقيًا عن الجيش النظامي والمؤسسات الأمنية. من خلال هذا الخطاب، يتم تقويض مفاهيم السيادة الوطنية والاحتكار المشروع للعنف، لصالح تكريس واقع الميليشيات بوصفها الحامية الحقيقية لـ"الكرامة والدين"، وهو ما يُضعف ثقة المواطن بالدولة، ويفتح المجال أمام تفكك الدولة إلى كيانات شبه عسكرية متنافسة.
إقليميًا، يُسهم هذا البيان في ترسيخ صورة العراق كساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بين قوى إقليمية ودولية، خاصة بين إيران من جهة، والولايات المتحدة ودول الخليج العربي من جهة أخرى. الخطاب التصعيدي يُغذّي التوترات، ويُعطي غطاءً أيديولوجيًا لأي تصعيد ميداني محتمل، سواء عبر عمليات استهداف المصالح الأمريكية، أو استهداف شخصيات سنية أو عربية توصف بأنها "عميلة". وهذا بدوره يُعيد العراق إلى موقعه كمنصة صراع بدلًا من كونه شريكًا في بناء الأمن الإقليمي.
أما على المستوى الدولي، فإن مثل هذا الخطاب يضعف بوضوح جهود مكافحة الإرهاب والتطرف، لا سيما تلك التي تقودها الأمم المتحدة أو التحالف الدولي. فحين يُمنح الغطاء العقائدي لجماعات مسلحة تعمل خارج نطاق الدولة، يصبح التمييز بين "ميليشيات مقاومة" و"تنظيمات إرهابية" أمرًا مشوشًا ومربكًا للمجتمع الدولي، ويُعرقل التنسيق الأمني والاستخباراتي مع بغداد. كما أن وجود خطاب تعبوي راديكالي بهذا الوضوح، يخلق بيئة خصبة لتجنيد عناصر جديدة، ويُقوض أي جهود لإعادة دمج الجماعات المسلحة في العملية السياسية أو تفكيك بنيتها القتالية.
خاتمة:
بيان "أبو علي العسكري" لا يمكن اعتباره مجرد موقف سياسي، بل هو وثيقة أيديولوجية تُكرّس عسكرة العقيدة وتُضفي على الميليشياوية طابعًا مقدسًا. وهو جزء من مشروع أوسع يسعى إلى خلق "دولة داخل الدولة"، تكون فيها الشرعية بيد من يمتلك السلاح والعقيدة، لا الدستور والقانون. إن تمرير مثل هذه البيانات دون محاسبة أو مساءلة، يعني تقويض أسس الدولة الحديثة، وفتح أبواب الفوضى الإقليمية على مصراعيها.