القاعدة تحاصر جنوب مالي.. "نصرة الإسلام" تمد سلطتها وتخضع المدن
الأربعاء 29/أكتوبر/2025 - 12:42 م
طباعة
القاعدة في مالي
محمود البتاكوشي
تتسع رقعة التدهور الأمني في مالي يومًا بعد يوم، بينما تترسخ قبضة التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، الذراع الأخطر لتنظيم القاعدة في الساحل الإفريقي، أحدث حلقات هذا التمدد تظهر في مدينة نيورو الواقعة جنوب غربي البلاد، والتي تحولت في الأسابيع الأخيرة إلى مدينة محاصرة بالكامل، تدار بحكم الأمر الواقع من قبل الجماعة التي تحظر دخول الوقود والمؤن وتمنع التنقل بدعوى "التعاون مع الجيش".
مدينة تختنق في صمت
في مشهد يعيد إلى الأذهان صور المدن المعزولة زمن الحروب، تعيش نيورو حالة من الخنق الاقتصادي والاجتماعي فالمنافذ مغلقة، والطرقات تخضع لتفتيش المسلحين، وحياة السكان تحولت إلى كابوس دائم، الوضع في نيورو لا يختلف كثيرًا عن مدينة كايس الغنية بالذهب والمجاورة لها، والتي تخضع هي الأخرى لهيمنة المسلحين الذين يفرضون نظامهم الخاص بالعقاب والجزاء، في ظل غياب شبه تام للدولة.
في سياق متصل بث مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، أكدت صحته إذاعة فرنسا الدولية (RFI)، أظهر مشهدًا نادرًا لشجاعة مدنيين قرروا كسر جدار الخوف.
في التسجيل، يقف عشرات الرجال والنساء من سكان نيورو، يتحدث باسمهم رجل يدعى "سيدي ديكو"، يصف المعاناة قائلًا: "من المستحيل مغادرة البلدة دون التعرض للاعتقال أو الاختطاف."
ورغم إدراكهم أن هذا الظهور العلني قد يجعلهم هدفًا مباشرًا للانتقام، إلا أنهم خاطروا بمناشدة العالم الخارجي، آملين أن تصل أصواتهم قبل أن تسكتها أيدي الإرهاب.
بحسب شهاداتهم، هناك ما لا يقل عن خمسين مختطفًا من سكان المدينة، لا يعرف مصيرهم ولا أماكن احتجازهم.
بين المطرقة والسندان
تعبر كلمات سكان نيورو عن مأزق مزدوج: فهم يخافون بطش الإرهابيين، وفي الوقت نفسه يخشون اتهامات الجيش أو السلطات المحلية بالتواطؤ أو الضعف. لذلك جاءت مناشدتهم بصياغة دقيقة، تظهر الحياد وتحاول استرضاء الطرفين معًا، في مشهد يعكس عمق الانكسار الذي أصاب المجتمعات المحلية في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة.
منذ شهرين، فرضت جماعة "نصرة الإسلام" قيودًا تدريجية على حركة المركبات والبضائع، قبل أن تتحول إلى حصار شامل يمنع دخول الوقود والمواد الغذائية.
ويسمح فقط للمسافرين العابرين بالمغادرة، بينما يتم احتجاز سكان نيورو وكايس بدعوى أنهم "داعمون للجيش المالي".
يقول ديكو في الفيديو: "نحن حرفيون وتجار، لا نطلب سوى السماح بمواصلة أعمالنا لتأمين قوت عائلاتنا." لكن صوته بدا أقرب إلى استغاثة عاجزة في وجه سلطة لا ترى إلا الولاء أو العقاب.
استراتيجية الإرهاب: الخضوع أو الحصار
ما يجري في نيورو ليس حدثًا معزولًا، بل جزء من استراتيجية متدرجة تنتهجها "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" لتوسيع مناطق نفوذها جنوبًا بعد أن أحكمت قبضتها على وسط وشمال مالي.
فإلى جانب نيورو وكايس، فرضت الجماعة مؤخرًا حصارًا على مدينة ليري في منطقة تمبكتو شمالي البلاد، ومنحت السكان مهلة ثلاثة أيام لمغادرتها.
المفارقة أن ليري كانت قد خضعت قبل عام لحصار مماثل انتهى باتفاق هش مع المسلحين، لكن الجماعة تتهم الآن السكان بـ"نقض الالتزامات" التي سمحت حينها برفع الحظر، لتعود الدورة ذاتها من الابتزاز والسيطرة.
ولم تكتف الجماعة بتطويق المدن، بل وسعت عملياتها العسكرية. ففي الجمعة الماضي، أعلنت مسؤوليتها عن الاستيلاء على موقع تابع لميليشيا "غاتيا" عند مدخل قرية إنتاهاكا، ثم استولت على موقع عسكري في كونا بمنطقة موبتي وسط البلاد، ما يعكس تصعيدًا واضحًا في مستوى الهجوم على القوات النظامية وحلفائها المحليين.
أزمة وجود
المشهد الراهن في مالي يتجاوز مجرد حالة "انفلات أمني" فالدولة باتت تواجه اختبار وجود حقيقي أمام تمدد القاعدة التي استطاعت، عبر جماعة نصرة الإسلام، أن تؤسس لنظام مواز في مناطق شاسعة من البلاد هذا النظام يفرض الضرائب، ويدير القضاء، ويحدد من يسمح له بالبيع أو التنقل أو حتى الحياة.
الجيش المالي، المنشغل في جبهات متعددة من الشمال إلى الجنوب، يجد نفسه محاصرًا سياسيًا وميدانيًا فانسحاب قوات "فاغنر" الروسية من بعض المواقع، وضعف الدعم الدولي بعد الانسحاب الفرنسي، ترك فراغًا أمنيًا ضخمًا استغلته التنظيمات الجهادية لملء المشهد.
مما لا شك فيه أن ما يجري في نيورو اليوم هو صورة مصغرة لما يمكن أن يبتلع البلاد كلها إذا لم يستعد التوازن سريعًا بين السلطة المركزية والقبائل المحلية، وإذا لم يفتح مسار حقيقي لمكافحة الفكر الجهادي الذي يتغذى على الإقصاء والفقر والانتقام،
القاعدة، عبر ذراعها "نصرة الإسلام"، لم تعد تتحرك كشبكة متناثرة، بل كـ كيان متمرس في إدارة المجتمعات بالقوة والخوف.
ومالي، التي تقف الآن بين دولة تتآكل وهيمنة تتعمق، تبدو في سباق ضيق مع الزمن لإنقاذ ما تبقى من سيادتها قبل أن تغلق عليها الجماعة المتشددة كل المنافذ، حرفيًا ومجازيًا.
